أحدث إعلان الجهاز المركزي للإحصاء في السودان انخفاض معدل التضخم السنوي إلى 125 في المئة في يوليو (تموز) الماضي مقابل 148 في المئة في يونيو (حزيران) الذي يسبقه، جدلاً واسعاً في البلاد لناحية أنه مخالف للواقع الذي تشهده الأسواق التي تمر بموجة ارتفاعات متواصلة وغير مسبوقة في الأسعار، فضلاً عن حال الركود التي تضرب هذه الأسواق نتيجة تدني القوة الاستهلاكية لدى معظم المواطنين الذين يعانون ظروفاً معيشية بالغة التعقيد، فكيف ينظر الاقتصاديون لهذا الواقع اللامعقول الذي يشهده الاقتصاد السوداني بخاصة لجهة تراجع معدلات التضخم من دون حدوث انفراج في الأسعار؟
معدل السرعة
وقال وزير الدولة السابق في وزارة المالية السودانية عز الدين إبراهيم، "في الحقيقة، التضخم بدأ في التراجع منذ ديسمبر (كانون الأول) 2021، وهذا أصبح الاتجاه العام، لكن بالنسبة لتساؤل كثيرين من الناس بأن هذا التراجع لم يصحبه انخفاض ملموس في الأسعار، فإنه ليس غريباً أن يكون التضخم متراجعاً وأسعار السلع مرتفعة بسرعة أقل، فالتضخم مقياس للسرعة وليس للأسعار، ولا بد أن تقارن الأسعار الحالية بالعام الذي يليه في الشهر ذاته، وبشكل عام، هبوط التضخم إلى 125 في المئة يعد معدلاً مرتفعاً للغاية، إذ يجب أن يكون أقل من 10 في المئة، فالمعدل المعقول للتضخم أن يكون برقم واحد فقط". أضاف إبراهيم، "صحيح أن المشهد العام هو أن الأسعار تتجه نحو الزيادة في كل دول العالم، إذ حدث انفلات وزيادة كبيرين في الكتلة النقدية ما أحدث انفجاراً في الأسواق العالمية". وتابع، "من الملاحظ أن أنظار الناس تتركز حول مسألة الاستدانة، بالتالي لا بد من تحجيم الكتلة النقدية غير المنتجة حتى يتم التحكم في التضخم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت وزير الدولة السابق في وزارة المالية السودانية إلى أن كثيرين من السياسيين يعتقدون أن مشكلة الاقتصاد السوداني سياسية بالدرجة الأولى، وهذا ليس صحيحاً، فهي مشكلة اقتصادية أدت لمشكلة سياسية، وتتمثل هذه في ثلاث قضايا، الأولى زيادة حجم الكتلة النقدية، والثانية تتعلق بهيكلة الاقتصاد بخاصة في جانب ضعف الطاقة الكهربائية ما تسبب في إعاقة الإنتاج الصناعي والزراعي، والثالثة ترتبط بعوامل خارجية كارتفاع أسعار الوقود والسلع بسبب الحرب الروسية- الأوكرانية.
تدهور المعيشة
من جانبه، قال الاقتصادي السوداني صدقي كبلو، إن "ما يقوم به جهاز الإحصاء المركزي في السودان بتتبع عملية التضخم هو عملية إحصائية تبنى على قاعدة متحركة تعتمد على الحساب الشهري وليس السنوي، بالتالي، تكون الأسعار أقل مما يتوقعه الإنسان، ومعروف أن التضخم يرتفع كلما ارتفع الطلب، وما يحدث حالياً في السوق السودانية أن هناك انخفاضاً في الطلب، فهناك سلع كثيرة خرجت من حسابات الغالبية العظمى من المواطنين أو قل الطلب عليها، في وقت تجد أسعار السلع التي تستهلك من قبل طبقة الأغنياء كالفواكه في ارتفاع مستمر لأن الطلب عليها في ازدياد، فهذه هي العوامل التي تؤثر على حساب نسبة التضخم". وتابع، "بشكل عام، تدهور معيشة الناس هو ما قلل الطلب على السلع، فإذا نظرنا إلى الحرفيين والباعة وغيرهم من الذين يتعاملون في الأسواق والمهن المختلفة ذات الارتباط بالمستهلك، تجدهم باستمرار يشتكون من كساد الأعمال في السوق ما يعني أن دخلهم إما ظل ثابتاً أو انخفض، فتراجع التضخم ليس دليل عافية اقتصادية بل يعني أن هناك مشكلات هيكلية في الاقتصاد، فضلاً عن الآثار التي سببتها كورونا وما بعدها من الحرب الأوكرانية، لكن يجب أن يعرف الجميع أن التضخم عندما يكون أكثر من خمسة في المئة يعتبر حالاً تضخمية كبيرة".
واقع مرير
أضاف كبلو، "في الحقيقة نعاني من واقع اقتصادي مرير، ومعروف أن أهم مصدر دخل لدينا الزراعة، وعندما يكون هناك موسم أمطار جيد يفترض أن يصحبه موسم زراعي مميز، لكن للأسف واجهتنا مشكلة السيول والفيضانات التي ألقت بظلالها السالبة على الموسم الزراعي، فضلاً عن السياسات الاقتصادية الخاطئة التي جعلت أحوال الناس في غاية من الصعوبة، إذ لجأت الحكومة لفرض زيادات ضريبية كبيرة على السلع والخدمات في سبيل تغطية إيرادات الميزانية، فسياسة الدولة الاقتصادية غير واضحة بل تتجه نحو زيادة الأعباء على المواطن بدرجة كبيرة"، ومضى قائلاً "كذلك نلاحظ أن الكوارث الطبيعية غير مبشرة مستقبلاً، كما أن توقف المساعدات الخارجية التي كانت استراتيجية الحكومة السابقة زاد الطين بلة، فعلى ضوء هذه الاستراتيجية تمت زيادة سعر الدولار، وفي المقابل ارتفعت الأسعار، بالتالي أصبحت الحياة أكثر صعوبة بسبب العزلة الدولية نتيجة لانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي جاء وبالاً على الشعب السوداني، إذ توقفت القروض والمنح والتسهيلات المختلفة، فضلاً عن الدعم المتوقع للموازنة وإصلاح البنية التحتية الذي رصدت له مبالغ مقدرة، الأمر الذي جعل الاقتصاد في وضع قاتم للغاية".
وختم الاقتصادي السوداني، "في تقديري أن الاقتصاد السوداني يمر حالياً بحال من الفوضى الكبيرة في ظل تفشي الفقر الذي ضرب كل أركان البلاد نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية، فإصلاح هذا الوضع المأساوي يتطلب بداية إيجاد حل سياسي للأزمة السياسية التي تفجرت بسبب انقلاب البرهان (قائد الجيش عبدالفتاح البرهان)، وأصبحت البلاد تعيش في حال توهان، نظراً إلى غياب الدولة الكامل في المشهد السوداني".