بعد انسحاب أنصار التيار الصدري من أمام مجلس القضاء الأعلى تتصاعد التساؤلات حول هذه الخطوة التي تعد التصعيد الأبرز في حراك التيار، وما إذا كان الانسحاب قد جرى تحت تأثير تصاعد التهديدات من قبل الجماعات الموالية لإيران، أم إنها مثلت خطوة مدروسة غايتها توجيه الرأي العام العراقي باتجاه القضاء كطرف رئيس في الأزمة السياسية، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يدخل فيها القضاء العراقي مسرح الأحداث السياسية كطرف رئيس، إذ شهدت الأشهر التي تلت الانتخابات التشريعية الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، حديثاً طويلاً عن كون القضاء العراقي يمثل أحد أبرز أطراف الأزمة، مقابل تأكيد الجهات القضائية المستمر حياديتها.
حلفاء إيران مستنفرون
مثل تفسير المحكمة الاتحادية المادة الدستورية الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية أصل الخلاف الجاري، إذ اشترطت على البرلمان أن يكون نصاب الجلسة بأغلبية الثلثين، الأمر الذي عده التيار الصدري انحيازاً لصالح القوى الموالية لإيران ومخالفة صريحة للدستور، وعطل تفسير المحكمة إمكانية تحقيق "التحالف الثلاثي" الذي يضم كلاً من "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وتحالف "تقدم" و"الكتلة الصدرية"، مشروع "الأغلبية السياسية"، ما دفع التيار الصدري في النهاية إلى الاستقالة الجماعية من البرلمان وتحريك الشارع للتظاهر والمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة جديدة، ومن ثم التظاهر أمام مجلس القضاء كخطوة تصعيدية أكبر، وعلى بعد لحظات من توجه أتباع التيار الصدري نحو القضاء أطلقت أطراف "الإطار التنسيقي" عديداً من البيانات المنددة بالخطوة، معتبرة القضاء "الحصن الأخير".
وتواصلت ردود الفعل الغاضبة من حراك التيار الصدري التي بلغت حد إصدار "الحشد الشعبي" بياناً تصعيدياً، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى إصدار توجيهات صارمة في شأن منع القوات الأمنية من الدخول على خط الأزمة السياسية، مهدداً بـ"تطبيق أقسى العقوبات القانونية" بحق المخالفين. ووصف بيان "الحشد" مجلس القضاء الأعلى بـ"مصدر قوة البلاد"، متهماً المعتصمين بأن "بينهم مسلحين"، وهو ما ينفيه التيار الصدري ويؤكد سلمية تظاهرات أنصاره.
وتبدو لهجة التصعيد، إذ أشار "الحشد" إلى أنه "مستعد للدفاع عن مؤسسات الدولة التي تضمن مصالح الشعب، وعلى رأسها السلطة القضائية والتشريعية، وعن النظام السياسي والدستور". ودعا الحكومة إلى "تحمل المسؤولية بجدية في حماية مؤسسات الدولة الدستورية"، وأثارت عبارات "حماية مؤسسات الدولة" التي وردت في تصريحات قادة "الإطار" وبيان "الحشد" ردود الفعل تلك لدى عديد من الناشطين، خصوصاً مع قائمة طويلة من التهديدات التي أطلقها قادة فصائل مسلحة لرئيس الوزراء خلال السنتين الأخيرتين، كان آخرها تغريدة قائد ميليشيات "كتائب سيد الشهداء" أبو آلاء الولائي الذي طالب فيها قادة "الإطار التنسيقي" بالتدخل، سائلاً "هل ما زال فيكم من يرجو بالكاظمي خيراً". وختم تغريدته بالقول، "اعقروا الجمل قبل أن تأتي ساعة لا ينفع فيها الندم".
رسالة تحذير
واستخدم عديد من أعضاء التيار الصدري تلك التغريدة وغيرها من التهديدات التي أطلقها قادة ميليشيات ولائية لمحاججة القضاء الذي أصدر خلال ساعات قليلة ثلاثة أوامر اعتقال بحق قيادات في التيار، بتهمة التحريض على القضاء. وقال القيادي في التيار الصدري حيدر الحداد، في تسجيل صوتي على "تويتر"، إن خطوة التيار الأخيرة مثلت "رسالة تحذيرية للسلطة القضائية على اعتبار أنها جزء من النظام السياسي منذ 2005، وتجلى ذلك بعد أن تسلم فائق زيدان رئاسة المجلس وتأثيره وسطوته على المحكمة الاتحادية"، مبيناً أن مؤسسات الدولة "تستمد شرعيتها من الشعب، ولذلك فإن سحب الشرعية عنها يتم أيضاً من خلال الشعب"، وتحدث الحداد مطولاً عن امتلاك التيار الصدري خيارات مفتوحة في المرحلة المقبلة، يتعامل معها وفق المتغيرات على الساحة السياسية، مشيراً إلى أن "كل من يقف بوجه التغيير قد يكون عرضة للاعتراض الشعبي أو سحب الشرعية من قبل الشعب"، ولفت إلى أن تياره يمتلك "خيارات عدة" بالإمكان اتخاذها في حال إصرار جميع الأطراف على "إنعاش جسد النظام السياسي والآليات المتبعة في تشكيل الحكومة".
وعلل دفاع "الإطار التنسيقي" عن القضاء بأنه "يعود إلى كون القضاء الدستوري هو من خلق الإطار كثلث معطل من خلال مخالفة المادة 59 من الدستور والتي تنص على أن جلسات البرلمان تتم بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه". وأعرب عن تعجبه مما وصفه بـ"استعجال القضاء إصدار مذكرات اعتقال بحق أشخاص غردوا على (تويتر) ضده، مقابل الصمت عمن يغرد بقطع الألسن والأيدي والأذن وضرب المحافظات واعتقال رئيس الوزراء والتسريبات الأخيرة"، في إشارة إلى تصريحات قادة الميليشيات الموالية لإيران وتسريبات رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي.
في المقابل، دعت الرئاسات الأربع في العراق ومن بينها القضاء إلى منع التصعيد واتخاذ الخطوات اللازمة لاستئناف الحوار الوطني كطريق وحيد لحل الأزمة.
وكان مجلس القضاء الأعلى رد على دعوة الصدر له بحل البرلمان بالقول إنها ليست من صلاحياته، وفي وقت أشار إلى أن مهامه تتعلق بـ"إدارة القضاء وليس من بينها أي صلاحية للتدخل في أمور السلطتين التشريعية والتنفيذية"، دعا الجميع إلى "عدم زجه في الخصومات والمنافسات السياسية"، وتنفي أطراف "الإطار التنسيقي" وجود أي تأثير لها في القضاء العراقي، وتؤكد أن المؤسسة القضائية مستقلة ولا تخضع لأي طرف.
حقق سخطاً شعبياً
ودفع الاستنفار الكبير الذي قامت به القوى والجماعات المسلحة الموالية لإيران مقابل حراك الصدر أمام القضاء مزيداً من العراقيين إلى التفاعل مع الاتهامات للأخير بالانحياز، بحسب مراقبين، وتتباين وجهات النظر في شأن انسحاب التيار الصدري، إذ يرى طيف من المراقبين أنه مثل خطوة مدروسة من قبله لتحقيق عديد من الأهداف في آن واحد، بينما يرى آخرون أن تعالي منسوب التهديدات فضلاً عن الإجراءات القضائية السريعة هما اللذان جعلا التيار يتراجع خطوة إلى الوراء.
في السياق، استبعد الكاتب والباحث السياسي مصطفى ناصر أن يكون انسحاب التيار الصدري جاء على أثر التهديدات المتصاعدة من الميليشيات الموالية لإيران، مؤكداً أن اعتصام التيار الصدري "حقق سخطاً أكبر على القضاء خصوصاً بعد قرار تعليق عمل المحاكم المدنية والجزائية وكل القطاعات القضائية الأخرى والمحكمة الاتحادية والادعاء العام، والتي تقرأ كخطوة سياسية وليست قانونية"، ويبدو أن التيار الصدري "كان يحاول استغلال إمكانية أن يقوم زيدان بسلسلة قرارات انفعالية تزيد سخط الشارع العراقي عليه". وأشار ناصر إلى أن الغاية الرئيسة للخطوة تتمثل بـ"محاولة إقناع الشارع العراقي والقوى المدنية غير المنخرطة في حراك التيار بأن زيدان منحاز للإطار التنسيقي، وهو ما نجح الصدر في تحقيقه"، ولا يعتقد ناصر أن يمثل اعتصام القضاء "ورقة اللعب الأخيرة" للتيار الصدري، إذ يرجح إقدامه على تصعيد جديد ومفاجئ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن بين الخيارات المتوفرة للتيار الصدري، بحسب ناصر "توجيه أنصاره لتطويق مقار أحزاب الإطار التنسيقي في الجادرية وسط بغداد، أو ربما التظاهر أمام أطراف الحشد الشعبي التي أصدرت بياناً غريباً على أثر التداعيات الأخيرة من دون العودة إلى القائد العام للقوات المسلحة"، ويقلل ناصر من إمكانية التدخل الدولي، مشيراً إلى أن كل اللاعبين الدوليين "يعرفون جيداً أن أنصار السلاح سيطروا على معظم مراكز القوة في النظام العراقي، وسط عجز حكومي عن مواجهة ذلك، ولم يقدموا على أي فعل".
إعادة تموضع وخطوات تصعيدية مقبلة
في المقابل، قال رئيس مركز "كلواذا" للدراسات باسل حسين إن التيار الصدري "وقع تحت تأثير صدمة رد فعل مجلس القضاء الأعلى من تعليق عمل المحاكم وأوامر القبض بحق قيادات داخل التيار"، مبيناً أن هذا الأمر "أجبر التيار على إعادة التموضع والانسحاب تمهيداً لخطوة قادمة مدروسة"، ويبدو أن دائرة الحديث عن مفاجآت قادمة للتيار الصدري باتت تتسع. وأشار حسين إلى أن هذا الحديث "ربما يأتي في سياق التغطية على فشل التحرك الأخير وارتداداته السلبية، لكن الصدر عودنا على القيام بما لا يمكن توقعه لاستعادة زمام المبادرة". وختم بأن من بين المفاجآت الممكنة بحسب مصادر داخل التيار الصدري، "إغلاق الموانئ والآبار النفطية، والاعتصام أمام بعض القصور الرئاسية، فضلاً عن إغلاق المطارات في بعض المحافظات، وإغلاق بعض المعابر الحدودية مع إيران"، مبيناً أنه "إذا اتخذ التيار الصدري هذه الخطوات فهذا يعني التحول نحو العصيان المدني".
القضاء محور الصراع
ومنذ شهر يونيو (حزيران) الماضي يتصدر مجلس القضاء الأعلى قائمة السلطات التي تم توجيه النقد إليها، ليس من قبل التيار الصدري فحسب بل من ناشطين وقوى مدنية ونواب مستقلين، على خلفية إصدار أوامر قبض بحق الكاتب والصحافي سرمد الطائي الذي وصف رئيس مجلس القضاء الأعلى بـ"الديكتاتور"، إضافة إلى انتقادات وجهها للمرشد الإيراني علي خامنئي وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ولعل الأحداث الأخيرة وتصاعد لهجة التيار الصدري إزاء القضاء العراقي دفعت مزيداً من الناشطين والقوى المدنية إلى توجيه الاتهامات ذاتها إلى القضاء، الأمر الذي دفع المجلس إلى تأكيد كونه طرفاً محايداً في الأزمات السياسية.
وفي مقابل الاتهامات التي يطلقها التيار الصدري وناشطون وقوى مدنية للقضاء، يؤكد القضاء أنه جهة مستقلة غير خاضعة لأي طرف سياسي، وتقف على مسافة واحدة من الجميع، وفي رد على الاتهامات التي يطلقها التيار الصدري قبل خطوة التظاهر، أكد رئيس مجلس القضاء الأعلى أهمية "اعتماد السياقات الدستورية والقانونية لحلحلة الأزمة السياسية الحالية". وقال في بيان إن "القضاء يقف على مسافة واحدة من الجميع ويحكم باسم الشعب، ويطبق القانون بحسب الدستور والتشريعات النافذة اعتماداً على ما يتوفر من أدلة ووقائع لا على ما يطلق من إشاعات وأقاويل"، ولفت إلى أن "الحملات الإعلامية ضد القضاء والضغوط السياسية لن تثني القضاة عن مواصلة عملهم في إحقاق الحق ووفق ما تفرضه القوانين".