كان ذلك بداية ثمانينيات القرن العشرين في وقت كانت قد بدأت تخفت بشكل تدريجي حرارة القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى التي كانت قد شغلت الناس والشبيبة العالمية منذ أواسط العقد الذي سبقه، ومنها بخاصة القضايا المتعلقة بمكانة المرأة في المجتمع ومسائل تحررها واستقلالها الاقتصادي. يومها كانت "الثورة – المضادة" في مثل تلك الشؤون قد بدأت تتفاقم إلى درجة أن كثراً من الكتاب وكثيرات من الكاتبات راحوا يجهرون بالانتقاد الحاد للكتب التي كانت تعتبر من أيقونات حركة تحرر المرأة مثل كتاب فرنسواز ساغان الذي كان لا يمس قبل ذلك "الجنس الثاني"، فيما راحت كاتبات متراجعات من أقطاب تلك الحركة يصدرن كتباً "انهزامية" تلقى رواجاً وتحمل عناوين مثل "أريد أن أعود إلى البيت". حينها في مقابل تلك "الردة" ازدادت المناضلات شراسة ورحن يبتكرن المواضيع والأفكار الجيدة. وكان من بينهن الكاتبة الفرنسية من أصل يوناني فرانسواز خيناكيس التي كانت تبدع بشكل متواصل كتباً ولا سيما روايات تلقى رواجاً كبيراً لامتلائها بحس التمرد. وهكذا كان من الطبيعي أن تصدر خيناكيس في ذلك الحين هذا الكتاب بالغ الطرافة الذي ينطلق من ملاحظة "تغييب" السيدة فرويد ليتحرى عن عدد لا بأس به من نساء "عظماء الرجال" كيف عشن ولماذا عشن؟ وكيف ارتضين أن يعشن في ظل كبار حملوا أسماء سقراط وتولستوي وفرويد وكارل ماركس وفكتور هوغو وغيرهم.
هل كن راضيات؟
كان السؤال الأساس الذي طرحته الكاتبة في مؤلفها هذا بسيطاً واستفزازياً في آن معاً: هل كانت هاته النساء راضيات بالفعل عن أن يعتبرهن التاريخ نساءً بذلن من الجهود والتضحيات ما مكن ذكورهن من ذلك العمل الضخم الذي قاموا به لما لا يقل عن تغيير العالم؟ وما الذي دفعهن إلى القبول بأن "يبقين في المطبخ وغرف الغسيل وحول أسرة الأطفال" فيما الرجال خلف مكاتب إبداعهم وعلى منصات خطاباتهم الكبرى وأمام الحشود يغيرون التاريخ ومسار البشرية، وربما أيضاً يطالبون النساء بأن "يبارحن المطابخ والغسيل وتربية الصغار للمشاركة في بناء العالم"؟ والحقيقة أن كتاب خيناكيس كله إنما انطلق من مثل هذين السؤالين ولكن ليس على مثل تلك البراءة التي تلوح للوهلة الأولى. فالكاتبة لم يفتها غرابة "المصائر" التي تحكمت بكل هاته النساء. ولا بكون مارتا زوجة سيغموند فرويد مثلاً على علم بالعلاقة التراسلية شديدة الحميمية التي قامت بين زوجها وأختها، ولا أن جيني الأرستقراطية الكبيرة امرأة سيد البروليتاريا من دون منازع، كارل ماركس، كانت تعلم أن هذا الأخير لم يكن فقط على علاقة بوصيفتها هيلين دوموث بل إنه أنجب منها وليداً سينكره لـ"يتبناه" الصديق المخلص فردريك إنغلز بل يسميه على اسمه ويحافظ على السر حتى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد ماركس بسنوات، من دون أن يعرف أن جيني كانت تعلم الحقيقة منذ البداية لكنها آثرت أن تسكت ولو على مضض، تاركة زوجها الفيلسوف الكبير ينهي مؤلفاته بهدوء.
سقراط: السم ولا الزوجة!
من الواضح أنه كان في إمكان فرانسواز خيناكيس أن تبدع مثل هذا النص معيدة فيه الاعتبار لـ"نساء الكبار" لأنها هي كانت شخصياً في "منزلة بين المنزلتين". فلئن كانت هي معروفة كصحافية بارعة وكاتبة كبيرة تنتج كتباً رائجة ويمكنها استقلالها الاقتصادي من خوض النضالات السياسية والاجتماعية من دون وجل، فإنها كانت في الوقت نفسه زوجة ثم أرملة واحد من كبار الموسيقيين في ذلك الحين، يانيس خيناكيس، اليوناني الأصل الفرنسي الهوى والهوية مثلها، كما كان مماثلاً لها في النضالات السياسية والاجتماعية. ولعل اللافت في الحكاية أن فرانسواز وكيونانية الأصل تحديداً كان من الطبيعي لها أن تبدأ حكاياتها من موطنها الأصلي وبالتحديد من إعادة النظرة الصائبة إلى خانتيبي تلك السيدة التي لطالما ظلمها التاريخ، إذ أشيع عنها دائماً أن مناكدتها لزوجها الفيلسوف الأكبر في زمنه سقراط وتنكيد عيشه بلسانها السليط كان سبباً رئيساً جعله يفضل الموت بتجرع السم إثر حكم محكمة أثينا عليه بذلك، على طلب العفو والعودة إلى العيش معها في البيت!
حكايات رجال
منذ تلك الحكاية الأولى أرادت فرانسواز خيناكيس أن تقول إذاً هذا كله كان هراء في هراء. كان من نوع الحكايات التي يحكيها الرجال لإراحة ضميرهم. واللافت على أية حال هنا هو أن الحكايات العائلية التي أرادت خيناكيس أن تعبر عن فكرتها من خلالها إنما تتعلق بمفكرين وكتاب تشعر دائماً أنها تنتمي إليهم. فهي كانت ولا سيما خلال تلك المرحلة ماركسية فكرياً ونضالياً، وكانت قارئة نهمة لفرويد، وتضع سقراط في مقدمة الفلاسفة الذين علموها أن "تعرف نفسها بنفسها"، كما تعتبر فكتور هوغو واحداً من أعظم الكتاب في التاريخ، بيد أن "ما أقلقني دائماً كان مكانة المرأة في حياتهم. وحين أقول المرأة هنا فإنني أعني الزوجة تحديداً لا المرأة بشكل عام". ومن هنا غاصت الكاتبة في الحياة الزوجية لهؤلاء الكبار من دون أن تلقي بالاً لحياتهم العاطفية التي غالباً ما كانت تنمو وتزدهر خارج المنزل العائلي، فيما الزوجات يتلقين الثناء تلو الثناء على حفاظهن على التماسك العائلي، ولو بتحسين مهارتهن في الطبخ مقابل إهمالهن زينتهن والتبرج. "أما أنا -تقول الكاتبة- فلقد قررت أن أنتزع من النسيان الصورة الأخرى لتلك المرأة، الصورة الحقيقية لها كامرأة من دون أن أحاول نسف صورتها كزوجة. وهكذا رحت أبحث عنهن خلف أفران المطابخ، وتحت ركام الغبار الذي راكمه عليهن التاريخ. وأخذت بأيديهن إلى طاولات التبرج في غرفهن، وأجبرتهن على وضع أحمر الشفاه على شفاههن وعلى خدودهن، وتمشيط شعورهن بأحدث الطرز، ثم طلبت من كل واحدة منهن أن ترتدي لا الثياب التي يفضل رجالهن لهن أن يرتدينها، بل ثياب من أحدث الطرز...". وبعد أن أتمت الكاتبة كل ذلك سألتهن أن يصررن على مرافقة الأزواج إلى الحفلات وحتى إلى اجتماعات العمل وما شابه ذلك، وراحت تترصد، ليس ردود أفعال أزواجهن على ما فعلت بهن بل ردود أفعال الأزواج على النظرات المندهشة التي راح الأصحاب والرفاق والجيران يحدجونهن بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مواجهة النقد
ترى، تساءلت فرانسواز في تصريحات صحافية وتلفزيونية أدلت بها في ذلك الحين، هل كان في مقدور أولئك الرجال الكبار أن يكتفوا والحال كذلك بأن تكون زوجاتهم من نوع "المرأة التي تقف وراء كل رجل عظيم"؟ أبداً أجابت مضيفة، "في اعتقادي أن سقراط أو هوغو، ماركس أو فرويد لم يكن ليضيرهم إزاء اللمسات الخفيفة التي أضفتها إلى نسائهم أن يصبح الواحد منهم، على العكس من ذلك (الزوج المحظوظ لتلك السيدة الرائعة). لن يضيرهم هذا الواقع الجديد في شيء!". في الحقيقة أن الفكرة التي اشتغلت عليها فرانسواز خيناكيس أتت في حينها في غاية الطرافة، لكن كثراً من النقاد أحبوا أن يروا فيها موقفاً متراجعاً من حيث "تقليدية الحل الذي تقترحه الكاتبة والذي لا يبدل شيئاً من عظمة رجالهن التي ستظل تتحقق على حسابهن طالما أن التبديلات التي تجريها خيناكيس عليهن تبديلات شكلية هدفها إسعاد رجالهن، إذ يبقين مجرد دمى بين أيديهم"، لكن هؤلاء النقاد لم يتنبهوا، كما قالت خيناكيس والمتحمسون لها على سبيل الرد، "أن ما هو على المحك هنا ليس إثارة إعجاب الرجال بل استعادة المرأة لكينونتها كامرأة بصرف النظر عما إذا كان في إمكانها فكرياً أن تتفوق على الرجل... علماً بأن الرجل المعني هنا ليس من النوع العادي...". ولنذكر هنا أن فرانسواز خيناكيس (1930 – 2018) ستظل تتندر حتى أيامها الأخيرة بالسجالات التي دارت من حول كتابها هذا، ولا سيما بأقلام من نسوا بقية نضالاتها ككاتبة وصحافية في سبيل قضية المرأة ولكن أيضاً في سبيل دفاعها عن قضية "القتل الرحيم".