على الرغم من مضي نحو خمس سنوات على إعلان دحره فما زال تنظيم "داعش" يمثل هاجساً لدى سلطات إقليم كردستان على المستويين العسكري والتنظيمي، مستغلاً الفراغ الأمني في مناطق النزاع مع بغداد، و"بيئة محلية خصبة" بداخل الإقليم تساعده على تشكيل خلايا نائمة.
تشير البيانات والمعلومات الرسمية الصادرة من السلطات الأمنية الكردية عن استمرار التحاق بعض الشباب الكردي بالتنظيم المتشدد، وسط بروز تساؤلات حول الأسباب والدوافع، على الرغم من أن الإقليم عرف بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، بكونه أكثر مناطق البلاد استقراراً من الناحيتين الأمنية والخدمية.
ومنذ أن فقد التنظيم في يوليو (تموز) عام 2017 مدينة الموصل، آخر معاقله في العراق، التي لا تبعد سوى مسافة 78 كيلومتراً عن مدينة أربيل، تعلن السلطات الكردية بين الحين وآخر اعتقال عناصر أو ما يعرف بـ"خلايا نائمة" تعمل بتوجيه من التنظيم، آخرها كان يوم الثلاثاء الـ23 من أغسطس (آب) الحالي، عندما كشفت مديرية أمن السليمانية عن اعتقال خليتين مؤلفة من 17 عنصراً بينهم امرأتان.
وجاء في إفادات للمعتقلين بثتها المديرية أن بعضهم تأثر بأفكار التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأنهم خططوا لاغتيال عدد من رجال الدين الذين كفرهم التنظيم، وعدد من الضباط العسكريين والأمنيين، فضلاً عن التخطيط لاستهداف مكاتب حزبية.
القدرة على التكيف
يقدم الباحث في تاريخ الجماعات الإرهابية فاضل أبو رغيف تفسيراً حول عوامل بقاء واستمرار التنظيم بالقول إن "داعش حتى لو مرض فإنه لن يموت، لكونه تنظيماً عقائدياً لا يعتمد على القيادات والأفراد، بل على روح الجماعة، لذا فإنه لا يملك بيئة خصبة كما كانت إبان ما يسمى دولة التمكين، وإنما يملك بعض الخواصر النائية عن المدن".
أضاف "بمعنى أنه غير أسلوبه من حرب المدن إلى حدودها، ومن ثم إلى وديانها وكهوفها، وعليه فإنه نجح في التكيف مع البيئة الصعبة والخطرة والمعقدة أرضاً وجواً أو حتى المناخات التي تعصف به بين الفينة والأخرى".
وأكد أبو رغيف أن "داعش على الرغم من أن سيول الشتاء الماضي جرفت عديداً من كهوفه وطفت جثث بعض عناصره فوق المياه، فإنه ما زال يشكل خطورة في بعض المناطق ويتحصن بها، منها المحصورة بين كركوك وصلاح الدين في جبل ماما وأودية الشاي وأم الخنازير وزغيتون، وهذه تكاد تكون الأخطر، فضلاً عن وجوده في أهم مرتفعي الموصل في بادوش والشيخ يونس، إضافة إلى وجوده في وادي حوران والقذف وجزيرة الحسينات بغرب محافظة الأنبار".
واستدرك، "لكن التنظيم قد لا يتحصن بطريقة أريحية في مناطق إقليم كردستان، بل قد يوجد على شكل أفراد متوارية وليس على شكل مجاميع مطمئنة".
استغلال التنظيم الثغرات
في أواخر العام الماضي شهدت محافظتا أربيل والسليمانية سلسلة عمليات أسفرت عن اعتقال العشرات من المشتبه فيهم وأعضاء في خلايا التنظيم، وعن قراءته حول دوافع التنظيم لتشكيل خلايا كردية في الإقليم، على الرغم من صعوبة الحركة فيه، بسبب إمكانات أجهزته الأمنية والاستخباراتية. قال أبو رغيف إن "بعض أفراد التنظيم لا سيما المطلوبين، يحاولون الفرار إلى مناطق السليمانية وأربيل معتقدين أنهما ملاذ آمن، لكنهم يتناسون أن أجهزة الأمن الكردية لديها تعاون وتنسيق عالي المستوى مع بغداد بطريقة تفاعلية في ظل وجود قاعدة بيانات، وهذه الطريقة تؤدي إلى الاهتداء إلى أماكنهم واستهدافهم بطريقة تؤدي إلى عدم مكوثهم وتحصنهم في منطقة محددة لأكثر من شهر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعزا استمرار انضمام الشباب الكردي إلى التنظيم إلى "عدة عوامل، فلا يمكن إنكار أن التنظيم يعتمد على المسحة البلاغية والسمة التاريخية، فهو لديه القدرة على افتراض التاريخ ومعامدته على الحاضر، كما أنه يروج للمظلومية واستنهاض ونصرة الحق والعقيدة والدين، وهو يستهدف أبناء المقتولين والمهزومين والقيادات المفقودة وأولئك المجهولين ويعول على هذا الجانب تحت مسمى نصرة السنة".
وأشار إلى أن "التنظيم يملك مجسات يعتمد عليها كلما احتقن الوضع السياسي ليلجأ إلى استراتيجياته الأربع المعروفة: التفخيخ والانتحار وزرع العبوات الناسفة والاغتيالات، فهو يستغل أية ثغرة أو نقطة ضعف، سواء في القطاع الأمني أو الجغرافي".
بيئة خصبة للتطرف
جاء اعتقال الخليتين تزامناً مع إعلان منظمة "الهجرة الدولية" التابعة لمنظمة الأمم المتحدة عن نتائج المرحلة الأولى لدراسة ميدانية أجريت في محافظة حلبجة وإدارتي كرميان ورابرين التابعتين للسليمانية، أظهرت "وجود بيئة خصبة للعنف والتطرف لأسباب ثقافية وسياسية واقتصادية".
وقال الناطق باسم المنظمة كاميران بالاني، في مؤتمر صحافي، إن "مقاومة الشباب أفكار الجماعات المتطرفة تبدو ضعيفة، بخاصة في أطراف المدن، وذلك نتيجة لتفشي البطالة"، لافتاً إلى "وضع خطة وطنية للوقاية من التطرف في المجتمع الكردي".
أما الكاتب والصحافي جمال بيرا مؤلف كتاب "زمن داعش" الصادر باللغة الكردية فيرى أن "مسألة التطرف لا تنحصر فقط بأفكار وأيديولوجيا محددة أو بمنظمة وحركات مثل داعش والقاعدة، بل نجد لها مكانة في معظم الدول التي تعاني توتراً سياسياً واقتصادياً".
وقال بيرا "معلوم أن تنظيمي داعش والقاعدة عموماً هما في أضعف حالاتهما، وقد فقدا قدرتهما على خوض أية حرب ميدانية، ما أجبرهما على شن هجمات خاطفة صغيرة ومحدودة، ينفذها أحياناً أفراد ناقمون غرر بهم تحت مسمى الدفاع عن العقيدة الدينية، أو أن بعضهم يلجأ للعنف بدافع سياسي أو للانتقام من سلطة معينة عبر الترويج لجماعة متطرفة ما، حتى إن لم يكن يرتبط بها بشكل مباشرة، ونجد أنه يأخذ من تنظيمات مثل القاعدة وداعش وأنتي بالاكا وبوكو حرام مثلاً أعلى، ويختار طريق العنف باسم الدين".
وتشير التقديرات إلى انضمام أكثر من 500 شاب من الإقليم إلى صفوف التنظيم منذ ظهوره عام 2014، نصفهم قتل في المواجهات العسكرية.
وفي أواخر مايو (أيار) الماضي، كشف قائد المحور الثاني لقوات البيشمركة الكردية اللواء حاجي عثمان عن مقتل عنصر كردي من التنظيم في إحدى المواجهات في منطقة كرمسير قرب قضاء خانقين التابعين لمحافظة ديالي، وقبل ذلك أعلن جهاز "مكافحة الإرهاب" في السليمانية اعتقال "أمير في التنظيم متهم بنحر اثنين من أفراد البيشمركة".
حلول غير عسكرية
حول المسببات والسبل الكفيلة للحد من ظاهرة التطرف لدى الشباب، يعتقد بيرا أن "الاعتماد على الخيار العسكري لمواجهة الجماعات المتشددة حتماً لن يكون مجدياً من دون اتباع استراتيجية وأساليب مختلفة، فالمعركة الحقيقية تكمن في اتباع نهج إصلاحي في السياسة والإدارة وبرامج توعية، وتحسين الحالة الاقتصادية مع توفير فرص عمل، كأضعف إيمان لمنع الشاب من الانجرار وراء التطرف".
وقال، "في الدول الإسلامية، خصوصاً تلك التي تعاني اضطرابات سياسية واقتصادية، تتوافر بيئة خصبة للتطرف، الإقليم والعراق ليسا بمنأى عن الحالة، ومؤكد سيكون هنالك ضحايا لهذا الفكر، وهنا تحديداً لا يجوز التمييز بين مدينة وأخرى، صحيح أن ظهور هذه الخلايا في مناطق السليمانية أكثر من غيرها قد يكون مرتبطاً جزئياً بأن بعض الحركات المتشددة كان لها حضور في ما سبق، لكن ليس شرطاً أن يكون سبباً رئيساً، لأن أربيل كان لها نصيب من هذه الاعتقالات أيضاً".
عوامل مشجعة
بدوره، أشار المحلل السياسي ياسين عزيز إلى أن توفر وسائل الاتصالات المتطورة والتدهور الاقتصادي يشكلان عصباً رئيساً يعتمد عليه التنظيم لضم أعضاء جدد.
وقال "العالم أصبح قرية صغيرة يصعب فيه فصل منطقة عن أخرى، مع تطور الاتصالات ووجود الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت فضاءً مفتوحاً لنشر مختلف الأفكار ومنها المتشددة، فإن من السهولة أن يقع بعض الشباب غير المطلع على أصول الدين تحت تأثير التطرف الفكري، وهذا لا يحدث فقط في الإقليم، بل نجد له مكانة في كل دول العالم، بينها دول متطورة من حيث الحريات، وكذلك على المستوى الأمني".
وأضاف أن "الإقليم يشهد حالة من عدم الاستقرار على مستويات عدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهذه جلها تعتبر عاملاً رئيساً يمنح الجماعات المتطرفة فرصة لاستغلالها من أجل كسب عطف بعض الأفراد ودفعهم للانضمام إليها، إلى جانب تفشي البطالة التي تخلق فراغاً ويأساً ونقمة في نفوس الشباب ليصبح في ما بعد مؤهلاً للوقوع تحت تأثير الفكر المتطرف، ومن ثم فريسة سهلة بيد الجماعات مثل داعش".
وفي أسباب تزايد نشاط الخلايا في السليمانية وتوابعها أكثر من غيرها، يختلف عزيز مع رؤية بيرا في عدم جواز التمايز بين المناطق بالقول إن "هذه المناطق تبدو أقل استقراراً سياسياً واقتصادياً إذا ما قورنت مع محافظتي أربيل ودهوك، وكذلك وقوعها قرب الحدود مع إيران، وعادة يكون من الصعب السيطرة على الحدود، ولا ننسى أن بعضها كانت معقلاً لجماعات متشددة مثل أنصار الإسلام بين أعوام 2000 ولغاية 2003".