كان ذلك قبل أن يصبح إدغار ديغا، ديغا وكفى، أي قبل أن يصبح اسم عائلته علامة على مكانته الفنية التي ترسخت مع انتمائه المتذبذب إلى الانطباعيين من خلال "اكتشاف" إدوار مانيه له، وبالتأكيد قبل زمن طويل من النص الذي سيكتبه السينمائي الفرنسي الكبير جان رينوار عن أبيه بيار أوغست رينوار ويعبر فيه عن عدم حبه لديغا الذي بدا بالنسبة إليه متعجرفاً مترفعاً يتسم بنرجسية طاغية. ففي مثل هذه الأيام بالذات قبل قرن ونصف القرن أي في بدايات خريف 1872، غادر إدغار ديغا فرنسا إلى لندن أول الأمر لينضم إلى عدد كبير من فنانين وأدباء فرنسيين قصدوا العاصمة الإنجليزية هاربين من العنف الدامي الذي تحولت إليه كومونة باريس وانتفاضة أهلها تحت ذل الهزيمة التي ألحقتها بهم القوات الألمانية الغازية. صحيح أن ذلك الذل لن يكون مساوياً للذل اللاحق الذي ألحقه الاحتلال النازي بفرنسا عند بدايات الحرب العالمية الثانية، لكنه كان على أية حال ذل هزيمة حطمت آمالاً كثيرة وفرزت الفرنسيين كالعادة فكان المبدعون أول الهاربين تماماً كما كانوا قبل هربهم أكثر الحالمين بانتصار كومونتهم. كان ديغا في عداد المغادرين وهو الذي كان قبل ذلك قد جند في قوات المشاة لكن ضعف نظره جعله يسرح فلم يعد لديه ما يفعله وقد اشتد القتال والعنف، فتوجه إلى لندن.
إلى العالم الجديد...
لكن ديغا سرعان ما غادر لندن إلى العالم الجديد وتحديداً إلى مدينة نيو أورلينز ذات الجذور الفرنسية وتحديداً بدعوة من خاله ميشال موسون، الذي كان من أعيان المدينة وكبار التجار فيها. فالحقيقة أن أم ديغا سيليستين كانت من مواليد تلك المدينة وكانت دائماً ما تطلب من ابنها أن يلبي يوماً دعوة خاله فيزوره. وهكذا إذ لاحت له الفرصة هنا، توجه إلى مسقط رأس أمه ويبدو أنه لم يندم أبداً على ما فعل، على الرغم من أن إقامته لم تدم سوى نحو تسعة أشهر قيض له خلالها أن يمضي ردحاً في نيويورك، ولكن أن يتشرب نوعاً خاصاً من حداثة ومن إحساس بالمادية الرأسمالية التي استساغها، وسيبدو أنها هي ما سيكمن في خلفية كراهية جان رينوار له كما سنرى، لكن ذلك سيكون بعد زمن طويل. ففي الوقت الذي قام فيه ديغا برحلته الأميركية العائلية كان لا يزال في مقتبل العمر، حتى وإن كانت اللوحات التي رسمها هناك تكشف عن أن نضوجه الفني ووعيه التشكيلي كانا متكاملين. وحسبنا مثلاً للتيقن من هذا أن نتأمل واحدة من أجمل وأقوى اللوحات التي رسمها خلال تلك الرحلة وهي "وجوه في وكالة القطن في نيو أورلينز" (1873) لنتيقن من ذلك. فهذه اللوحة التي لا يزيد عرضها على 92 سم وارتفاعها على 73 وكانت في مقدمة اللوحات التي سيؤثر الرسام الشاب العودة بها إلى فرنسا بدلاً من أن يتركها في العالم الجديد، هذه اللوحة التي لن يفوت كثر من مؤرخي الفن التحدث عنها بوصفها واحدة من مصادر إلهام الرسام الأميركي إدوارد هوبر، من ناحية التلوين و"الميزانسين"، ولكن كذلك من ناحية ما فيها من تعبير مدهش عن اللا تواصل بين الشخصيات المرسومة فيها، يمكن اعتبارها المؤسسة الحقيقية لفن ديغا بأكمله بأكثر مما فعل أي تيار آخر أعلن انتماءه إليه.
قبل الباليه وسباقات الخيل
كان الزمن الذي رسم فيه ديغا هذه اللوحة سابقاً كثيراً للزمن الذي سيبدع فيه لوحاته حول راقصات الباليه ودروس الرقص ثم ميادين سباق الخيل. ففي هذه اللوحة لدينا العالم المغلق، على العكس من عوالم الانطباعيين التي كانت تتحرك في الهواء الطلق، ولدينا شخصيات حقيقية يمكننا التعرف إلى معظمها. فالوجوه المرسومة هنا هي وجوه أقارب ديغا بدءاً من خاله، وأخيه رينيه الذي كان يرافقه في سفرته، ووجوه موظفي الوكالة وشريك للخال وصهره... لكنهم جميعاً لا يفعلون سوى ما يبدو أنهم يقومون به عادة في حياتهم اليومية: ينتظرون أخبار البورصة لمتابعة تطورات أسعار القطن، ويقرأون الصحف ويزجون الوقت، بل ثمة من بينهم من ينكب على كميات من القطن المعد للشحن أو المتسلم للتو ليرى ميزاتها ومدى جودتها. إنها حياة يومية لعالم رأسمالي يعيش حياته من دون مفاجآت، وهو في هذا يكاد يكون تمهيداً لتلك الحياة ذات المشاغل اليومية وإنما في مجالات أخرى أقل ارتباطاً بالتجارة وشؤونها وبالرأسمال والسعي إلى مراكمته، الحياة التي سيرسمها ديغا لاحقاً بخاصة في لوحات الباليه ومدارسه حيث إن هناك أيضاً ثمة التركيز على ما يقتضيه العمل من دون أن يكون ثمة تواصل خارج إطاره بين شخصيات اللوحات. ولنقل هنا إن ديغا عرف في هذا الاتجاه الذي هيمن على إبداعه وأعطاه خصوصياته كيف يعكس ما تعلمه في أميركا حول قيمة العمل؟ لسنا ندري ما إذا كانت الأشهر التي قضاها الفنان الشاب في العالم الجد قد كانت كافية بالنسبة إليه للاستحواذ على أفكار سوسيولوجية من هذ النوع، لكنها وكما هو واضح كانت كافية لتحدث قلبة أساسية في ذهنيته، قلبة لا شك أنها انعكست على توجهاته الفنية.
حدود الانطباعية
ومن هنا حيت انضم ديغا إلى الانطباعيين وارتبط بمانيه بخاصة وكذلك برينوار الأب طبعاً، عرف كيف يفرض نفسه بشروطه. ومن المؤكد أن هذا التوجه لديه بأن يكون "انطباعياً" على حدة فارضاً على رفاقه بدءاً من سيسلي إلى رينوار ومونيه وبازيل والآخرين أن يقبلوا به كما هو أو بالأحرى "كما صنعته العقلية الأميركية"، عرف في الوقت نفسه كيف يفرض عليهم تلك الذهنية الأميركية المناهضة لعقليتهم المتوسطية والريفية. ومرة أخرى كان هذا في أساس ما سيأخذه عليه جان رينوار وعبر عنه بوضوح في كتابه "رينوار...أبي" الذي لن يكتب ويصدر على أية حال إلا بعد أن كان كل المعنيين به قد رحلوا بمن فيهم إدغار ديغا، وإلا في زمن كان نوع من الإعجاب القديم بأميركا وذهنيتها العملية قد ترك المكان لموقف أقل ترحيباً بكل ما هو أميركي. ولسوف يكون من حسن حظ إدغار ديغا (1834 – 1917)، أنه رحل قبل أن يقرأ الكتاب ويدرك مقدار ما كانت تغيظ الفرنسيين نزعته الأميركية التي لا شك أنها انعكست دائماً في فنه ولقيت من الترحيب في أميركا أضعاف ما لاقته في فرنسا، حتى وإن كنا نعرف أنه على الرغم من إنجازه خلال شهوره الأميركية القليلة عدداً كبيراً وبديعاً من اللوحات، ومن بينها إلى جانب "وجوه في الوكالة" (التي سينتج لوحات معادلة لها بعد سنوات في فرنسا لعل من أبرزها "وجوه في البورصة" – 1979)، "فناء في منزل في نيو أورلينز" (1872) و"تجار القطن في نيو أورلينز" (1873)، على الرغم من ذلك لم يترك أياً منها هناك بل عاد بها جميعاً إلى فرنسا، وها هي ذي اليوم مشتتة في عديد من المدن الفرنسية والأوروبية علماً بأن "وجوه في الوكالة" معروضة الآن في مدينة بو في الجنوب الفرنسي، على الرغم من محاولات أميركية عديدة جرت لـ"استعادتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مفاجآت وبقايا عائلية
ولنذكر هنا على أية حال أن المدينة الأميركية قد استعارت قبل سنوات لوحة "وجوه في الوكالة"، ولوحات "أميركية" أخرى لديغا حيث عرضت هناك وسط احتفالات صاخبة لمناسبة الذكرى الـ300 لتأسيس تلك المدينة، نيو أورلينز في ولاية لويزيانا بالجنوب الأميركي، المدينة والولاية اللتين كانتا فرنسيتين قبل شراء الولايات المتحدة لهما لكنهما لا تزالان حتى الآن فرنسيتي الهوى وتعتبران "مرور" إدغار ديغا فيهما من مفاخر تاريخهما... وديغا بدوره اعتبر نفسه طوال حياته "ابن لويزيانا"، الولاية التي سيحكي دائماً بعد عودته منها كيف استقر فيها جزء كبير من عائلته، بما في ذلك شقيقاه وأحفادهما والذين قد اكتشفوا أن فرعاً من عائلة ديغا له أصل أسود، من خلال زواج شقيق جدة الرسام لأمها، فنسنت ريلو، بامرأة سوداء تدعى كونستانس فيفانت. من دون أن يفوتنا اليوم أن المسكن، الواقع في شارع إسبالانادا حيث عاش ديغا مع عائلة خاله، مفتوح منذ زمن للجمهور ولا يزال يضم الاستوديو الذي أنتج فيه الفنان مجموعته المكونة من 17 عملاً حققها في نيو أورلينز.