بسبب الجدل الذي احتدم في الأوساط السياسية عقب تفتيش منزل الرئيس السابق دونالد ترمب في الثامن من أغسطس (آب)، قرر القاضي الفيدرالي الذي أصدر أمر التفتيش السماح لوزارة العدل بنشر الإفادة الخطية التي استخدمها مكتب التحقيقات الفيدرالي للحصول على الموافقة القضائية للتفتيش، على أمل أن يدحض ذلك اتهامات الجمهوريين بأن عملية التفتيش مسيّسة، وأنها تستهدف النيل من خصم سياسي يقترب من ترشيح نفسه مجدداً في انتخابات 2024. فهل حقق الكشف عن فحوى هذه الإفادة هدفه بتهدئة الأجواء؟ أم لا تزال المواقف صلبة والتباينات قائمة؟
أخلّت بالشفافية
كان من المعتقد أن يفجر كشف وزارة العدل الأميركية عن جزء من الإفادة الخطية للقاضي الفيدرالي، التي استخدمها محققو "أف بي آي" للحصول على مذكرة تفتيش مقر إقامة ترمب في فلوريدا، قنبلة مدوية، قد تكون لها آثار قانونية وسياسية وتاريخية في سياق الصراع القائم بين الجمهوريين الذين يتزعمهم ترمب وخصومه الديمقراطيين، على اعتبار أن هذه الوثيقة ستوفر نظرة ثاقبة حول كيفية قيام وزارة العدل بمتابعة المستندات السرية التي انتهى بها المطاف في نادي "مار إيه لاغو" بعد مغادرة ترمب البيت الأبيض.
غير أن هذه الإفادة المكونة من 38 صفحة، اشتملت على 20 صفحة مُنقحة، حجبت فيها عشرات الأسطر عن أعين القراء عبر شرائط سوداء، ما جعل عضوي مجلس النواب الجمهوريين دان بيشوب وآندي بيرغر، يعتبران أنها أخلت بمبدأ الشفافية، وأن الشعب الأميركي كان يستحق الاطلاع على هذه المعلومات، كما قالت النائبة الجمهورية إليز ستيفانيك، لشبكة "فوكس نيوز"، إنه إذا اعتقد جو بايدن ووزارة العدل المسيسة أن الكشف عن الإفادة سيكون كافياً لتبرير مداهمة الرئيس السابق خصم بايدن السياسي المحتمل في عام 2024، فإنهم مخطئون، لأن الشعب الأميركي يستحق الشفافية وليس إفادة خطية مشينة ومنقحة بشدة للتغطية على جو بايدن ومكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي"، وحمايتهما سياسياً من هذا التجاوز الخطير.
هدوء أكثر
لكن على الرغم من تعليقات الرئيس السابق ترمب على نشر الإفادة واعتباره أنها لم تغير شيئاً، وأنها حيلة من وزارة العدل التي تجاهلت الإشارة إلى تعاون فريقه وتقديمه مستندات إلى الأرشيف الوطني في يناير (كانون الثاني) الماضي، أصبح عديد من حلفاء ترمب هادئين في الأيام الأخيرة بعد أن كانوا يميلون بشدة في البداية إلى انتقادات عملية التفتيش، بخاصة بعد أن نشر جون سولومون المحافظ خطاباً من الأرشيف الوطني، كشف أن ترمب أخذ أكثر من 700 صفحة من المواد شديدة السرية معه بعد ترك منصبه، فضلاً عن تسريب بعض المحادثات الخاصة بين مستشاري ترمب والمقربين منه، والكشف عن مزيد من الحقائق للجمهور، ما يزيد من الشعور المتزايد بأنه قد يكون هناك بعض المبررات لإجراء التفتيش.
تضمنت التفاصيل الجزئية التي اشتملت عليها الإفادة، أن ترمب استحوذ على 184 وثيقة مصنفة سرية منها 25 سرية للغاية، وبعضها الآخر يتعلق بمراقبة أجهزة استخبارات أجنبية، فضلاً عن تحديد مكتب التحقيقات الفيدرالي المستندات التي تحتوي على معلومات الدفاع الوطني، والتي تم تخزينها في مكان غير مصرح به، وأنه كان هناك أيضاً سبب محتمل للاعتقاد بأنه سيتم العثور على دليل يثبت عرقلة تعاون فريق ترمب مع وزارة العدل، وأنه سيعثر عليها في المقر.
ووفقاً لموقع "أكسيوس"، فإن هذه المعلومات من شأنها أن تقضي على أي حجة مفادها أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان في رحلة صيد أو مطاردة غير مبررة في منزل الرئيس السابق، فقد كان لدى عملاء "أف بي آي" معلومات مفصلة حول ما قد يجدونه، ولماذا يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعريض الأمن القومي للخطر، ومع ذلك لم تقدم الوثيقة المنقحة تفاصيل حول ما يمكن أن يشكل عرقلة محتملة للتعاون مع وزارة العدل أو الأرشيف الوطني.
هل ترمب في خطر قانوني؟
وتشير المعلومات التي كشف عنها في الإفادة الخطية، إلى أن الأمن القومي للولايات المتحدة وسلامة عملاء الاستخبارات، ربما تعرضوا لخطر شديد عندما خزنت وثائق الدفاع الوطني على ما يبدو في غرفة داخل منتجع "مار إيه لاغو"، ومع ذلك يبدو الأمر محيراً لكثير من الأميركيين حسبما يقول كلارك كاننغهام، أستاذ القانون في جامعة ولاية جورجيا، نظراً لأن هناك كثيراً من الحديث في وسائل الإعلام حول المعلومات السرية.
ومع ذلك، فإن التخزين غير السليم للمعلومات السرية يُعد جريمة يحاسب عليها القانون، ولكن هذا ليس ما يجري التحقيق حوله، فهناك جريمة أخطر بكثير بموجب قانون التجسس تبدو على المحك حتى بالنسبة إلى رئيس سابق كان يمتلك في البداية حيازة قانونية لمعلومات الدفاع الوطني، فحينما يحتفظ بهذه المعلومات بعد مطالبة الحكومة إعادتها، فسيكون بذلك قد ارتكب جناية حتى لو كان قد رفع السرية عن مثل هذه الوثائق، كما يقول عندما كان رئيساً.
وعلى الرغم من عدم وجود ما يشير إلى أن وزارة العدل تخطط لتوجيه اتهامات في أي وقت قريب ضد ترمب، إلا أن ما يثير القلق، هو أن جاسوساً صينياً اخترق مقر إقامة ترمب في "مار إيه لاغو" أثناء رئاسة ترمب، ولهذا فإن الخطر يتمثل في ما إذا دخل جاسوس أجنبي إلى تلك الغرفة التي تحتوي على الوثائق، وخرج بمعلومات تكشف عن عملاء سريين للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، أو كيف كانت الاستخبارات الأميركية تراقب وتجمع معلومات سرية حول العالم، الأمر الذي سيكون ضرره مذهلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لماذا المصادر البشرية؟
حسب المعلومات التي كشفتها الإفادة، فإن الوثائق الموجودة في مقر ترمب، كان من شأنها أن تعرض المصادر البشرية لأجهزة الاستخبارات الأميركية للخطر. ولهذا كان تفتيش المنزل مدفوعاً باكتشاف أنه احتفظ بمواد عالية السرية تتعلق باستخدام المصادر البشرية في جمع المعلومات الاستخبارية، كما توثق الإفادة، جهوداً تفصيلية من قبل الأرشيف الوطني ووزارة العدل لاستعادة المواد التي بحوزة ترمب من دون اللجوء إلى التفتيش الذي من شأنه أن يخلق حتماً رد فعل سياسياً قوياً من الرئيس السابق وأنصاره، وحينما تمت عرقلة تسليم بقية الصناديق، قاموا بنقل المواد التي تم تمييزها على أنها سرية، مشيرين إلى انتهاكات محتملة لقانون التجسس وعرقلة قوانين العدالة.
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، تعد الوثائق المتعلقة بعمل المصادر السرية من أكثر الوثائق حساسية وحماية في الحكومة الأميركية. ونظراً لأن مكتب التحقيقات الفيدرالي، عثر على بعض الوثائق الحساسة في صناديق تم استردادها من منزل ترمب، شعر عملاء "أف بي آي"، أن المصادر البشرية للاستخبارات الأميركية قد يكونون معرضين للسجن أو الموت، وأن أسرار الحكومة الأميركية معرضة للإفشاء، وقد يؤدي فقدان أحدهم إلى انتكاسة عمليات الاستخبارات الخارجية الأميركية لسنوات.
ولأن المصادر البشرية السرية هي شريان الحياة لأي خدمة تجسس، فإن هذا يفسر القلق الشديد داخل الوكالات الأميركية من أن المعلومات الواردة من مصادر سرية وضمنت في بعض الوثائق السرية التي خرجت من منزل الرئيس السابق، قد تكون قد وقعت في الأيدي الخطأ، بخاصة وأن ترمب لديه تاريخاً طويلاً في التعامل مع المعلومات السرية بقليل من الاهتمام مقارنة مع بقية الرؤساء الآخرين.
هل رفع السرية محتمل؟
وعلى الرغم من أن ترمب أعلن أنه رفع السرية عن المواد التي أخذها إلى مقره في فلوريدا، إلا أن الوثائق التي استردت منه في يناير، تضمنت بعض الوثائق التي تحمل علامة "إتش تي سي"، بمعنى أنها عالية السرية جداً لنظام التحكم في المصادر الاستخبارية البشرية. وهي وثائق تحتوي على مواد يمكن أن تحدد جواسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ما يعني أن رفع السرية الشامل عنهم سيكون، في أفضل الأحوال، مضللاً، لأن الكشف عنهم سيعرض حياتهم للخطر، حسبما يقول جون بيلينغر، المستشار القانوني السابق لمجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش.
وحتى لو كان لدى أجهزة الاستخبارات مصدر واحد فقط، فقد يكون ذا أهمية هائلة، وعلى سبيل المثال، تعرضت الاستخبارات الأميركية لانتكاسة خلال الجزء الأول من العقد الماضي، حينما قامت الحكومة الصينية بتفكيك شبكة مصادر وكالة الاستخبارات المركزية داخل الصين، ما أدى إلى شل عمليات التجسس للوكالة في البلاد لسنوات عدة، كما اخترقت شبكات المصادر البشرية الأميركية في إيران وباكستان، ما دفع الوكالة إلى مطالبة مسؤوليها ومحلليها بمضاعفة الجهود لحماية هويات الجواسيس والمخبرين.
وفي عام 2010، عندما نشرت "ويكيليكس" وعديد من المحطات والمواقع الإخبارية، آلاف البرقيات الدبلوماسية الأميركية من موظفي وزارة الخارجية المنتشرين في جميع أنحاء العالم، كان القلق الأكبر بين المسؤولين الأميركيين هو احتمال تحديد المصادر الأجنبية التي تساعد الولايات المتحدة بالاسم في الوثائق.
ويقول غلين غيرستيل، المستشار العام لوكالة الأمن القومي، إن فهم مدى حساسية أي من الوثائق السرية، وما هي المصادر البشرية التي يمكن اختراقها يتطلب فحص الوثائق من قبل مكتب مدير الاستخبارات الوطنية من أجل فهم ما بداخلها لغرض إجراء تقييم للأضرار، لهذا فإن هذا الفحص هو أحد أسباب قيام وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي بعملية التفتيش لجمع المواد.
كما طلبت لجنتا الاستخبارات في مجلسي النواب والشيوخ إجراء مثل هذه المراجعة، لكن ليس من الواضح متى سيبدأ مجتمع الاستخبارات مثل هذا الفحص لتقييم الضرر الذي ربما تسبب فيه سوء التعامل مع الوثائق.
ما لا نعرفه
لكن ما لا نعرفه وسط هذا التحقيق المستمر حتى الآن، هو من يعمل داخل منزل ترمب مع العملاء الفيدراليين، الذي أبلغ "أف بي آي" بمكان الوثائق؟ ومن غيره رأى أو لمس الوثائق بينما كانت غير مؤمنة؟ وهل سيتهم دونالد ترمب في النهاية بارتكاب جنحة أو جناية أو سينتهي الأمر إلى عدم توجيه أي تهمة على الإطلاق؟