يرفض نقاد وكتّاب مصريون تداول مصطلح حول ما يسمى "الأدب القبطي" الذي كثيراً ما تم الكلام عنه والكتابة في إطاره، ويؤكدون أن وجود شخصيات قبطية في بعض الأعمال الأدبية "مسألة طبيعية" داخل مجتمع يحترم قيمة التعددية الدينية والثقافية.
وشهدت السنوات الأخيرة في مصر مزيداً من الإجراءات التي اتخذتها الدولة في شأن تحسين أوضاع المسيحيين، ومنها القانون رقم 80 لسنة 2016 الذي يسر إلى حد كبير بناء الكنائس وترميمها، فضلاً عن حرص الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ انتخابه في عام 2013، على زيارة الكنيسة المصرية ليلة عيد الميلاد، في خطوة كانت لها مكاسبها الرمزية وعدت "رسالة دعم واضحة".
وعلى الرغم من هذه الإجراءات فإن بعض الوقائع التي تحدث في فترات متباعدة تدفع بعض خبراء الحالة الدينية إلى الحديث عن "مواطنة منقوصة" وعن أشكال مختلفة من التمييز الديني، يجري التعبير عنها أحياناً في بعض الأعمال الإبداعية، مما يفتح الباب مجدداً للتساؤل حول إمكان وجود ما يسمى "الأدب القبطي". ويميز النقاد هذا الإنتاج عن الأدب الذي تم إنتاجه ضمن مراحل نمو اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية)، ويتضمن نصوصاً مسيحية تعود إلى ما بعد القرن الثاني الميلادي.
ضد المصطلح
ورداً على سؤال حول إمكان وجود أدب قبطي معاصر ترفض الدكتورة نيفين مسعد، أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة الحديث عما يسمى "الأدب القبطي" وتفضل الحديث عن وجود الشخصية القبطية في الأدب المصري.
وقبل ربع قرن أجرت مسعد دراسة وصفية حول النصوص الإبداعية التي أنتجها أقباط، بغرض الوقوف على تصوراتهم عن "الهوية المصرية"، ونشرت نتائج تلك الدراسة في مجلة "الكتب - وجهات نظر" عام 1998 ثم عادت واستأنفتها بفحص النصوص التي تم إنتاجها خلال السنوات الأخيرة.
تلاحظ مسعد في حديثها مع "اندبندنت عربية" أن الشخصية القبطية عانت مختلف أشكال التنميط والتهميش في الكتابات الروائية، إلى أن ظهرت رواية "خالتي صفية والدير" لبهاء طاهر (1992)، ثم "لا أحد ينام في الإسكندرية" لإبراهيم عبد المجيد (1996)، وفي الروايتين ظهر القبطي كشخصية مركزية داخل نسيج اجتماعي متعدد. وتميز مسعد هذه النصوص عن روايات أخرى كتبها مبدعون أقباط مثل إدوار الخراط ونبيل نعوم، لأنهما جاءا من داخل المجتمع القبطي، وكتبا روايات تعتمد طابعاً سيرياً في الغالب. وبالمثل جاءت أعمال رؤوف مسعد، وهو على الرغم من كونه من أتباع الكنيسة الإنجيلية فإن نصوصه تستند إلى جانب سير - ذاتي واضح.
توضح الأكاديمية المصرية أن التغيير الأهم في ملامح الشخصية القبطية في الأدب المصري أوجدته أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، بحيث قدمت الروايات التي أنتجها الشباب، وربما للمرة الأولى، نقداً قاسياً للكنيسة المصرية وأبرزت كتابات مبدعين مثل روبير الفارس وهاني عبد المريد ومينا جيد وعادل الميري وهدرا جرجس وغيرهم، بوضوح لافت، التناقضات الناتجة عن الاختلافات بين الطوائف المسيحية. وتعاطت الروايات بجرأة مع كل ما هو مسكوت عنه، وتجاوزت "الحساسيات القديمة" في النظر إلى رجل الدين أو الرباط المقدس في حالات الزواج. وعالجت كثيراً من الأمور المرتبطة بـ"الجندر" أو النوع الاجتماعي ومحاذير تناول العلاقات العاطفية المختلطة.
ووفقاً لمسعد فقد قاربت الروايات التي كتبها أقباط خلال السنوات الأخيرة نماذج المعاناة اليومية وواجهت إجمالاً كل أشكال التنميط، مما يعد تغيراً جذرياً، فلم يعد التركيز كما كان في الماضي على الطقوس الدينية وما يقع في دائرة المأثورات. وترجع أستاذ العلوم السياسية هذا التحول الكبير إلى ما تسميه "مكاسب الخروج للشأن العام"، فقد مثلت أحداث يناير 2011 -كما تقول- قفزة كبيرة وسعت من مشاركة الأقباط في المجال العام، بالتالي تشجع المبدعون على كسر "دائرة المحرمات".
مواجهة دوائر الأقليات
وتؤكد الكاتبة والروائية الشابة كارولين كامل مكاسب اتساع المجال العام التي أوجدتها انتفاضة يناير 2011، وبفضلها تجرأ المبدعون الأقباط على تناول موضوعات كان من الصعب التعاطي معها روائياً. ومست شخصيات أثيرت حولها أسئلة عدة من دون المساس بقيمتها. وأبرز هؤلاء المعلم يعقوب، ذلك المغامر القبطي الذي تعاون مع حملة نابليون بونابرت التي جاءت لمصر 1798 ثم خرج مع جنودها في عام 1801، ومات ميتة غامضة، وأصبح بطلاً روائياً بامتياز.
وترفض كامل وضع روايتها الأولى "فيكتوريا" (دار الكرمة 2022) ضمن "الأدب القبطي"، وترى أن القبول بالمصطلح يعني بالضرورة الإقرار بوجود "أدب إسلامي" أو "أدب هندوسي" و"أدب يهودي"، وغير ذلك من الديانات السماوية وغير السماوية.
وتضيف، "ما أكتبه موجه لعموم القراء وعندما أكتب أنحي هويتي الدينية، وأرفض حصر عملي الأدبي في هذه الدائرة الضيقة. فما أسعى إليه هو مواجهة كل أشكال التصنيف، ونبذ كل تصنيف يضعني في دائرة الأقلية سواء في النوع أو الديانة أو مستوى الكفاءة المهنية". تشير كامل إلى أن واقع الإبداع المصري يكشف عن ثراء وتنوع لافتين، ومن مكاسب هذا التنوع تناول الشخصية القبطية سواء من كاتب مسيحي أو من منظور كاتب مسلم، كما فعل عادل عصمت في رواية "حكايات يوسف تادرس" (كتب خان، 2015)، بالتالي فالعبرة تأتي من الجودة الفنية ولا تكتسب من خانة "الديانة" في بطاقات الهوية.
الكاتب روبير الفارس يرى أن تصنيف الأدب على أساس المعتقد الديني يتضمن إساءة للأدب وينطوي على طائفية متعمدة، بغرض حصر عمليات تلقيه ضمن دوائر ضيقة. ويلاحظ الفارس أن الأعمال الروائية التي نشرت خلال السنوات العشر الأخيرة كشفت عن أصوات أكثر جرأة مقارنة بكتابات الأجيال السابقة، ويقول، "نزعت أنا وأبناء جيلي القداسة عن التاريخ القبطي ورموزه، وكشفنا كثيراً من المسكوت عنه، سواء في ما يتعلق برجال الدين أو أنماط العنف المرتبطة بهذا التاريخ الذي كان مجهولاً".
وبحسب روبير فإن هذا التحول جاء ثمرة من ثمار أحداث 2011 ونتيجة من نتائج الثورة التكنولوجية التي جلبتها الإنترنت، وأتاحت المعرفة بلا حدود، بالتالي أظهرت عديداً من النصوص والوثائق التي سمحت بكسر البنية السلطوية وأتاحت مقاربة عديد من الموضوعات الشائكة.
وينوه الفارس بأن تناول الموضوع القبطي يحتاج إلى معرفة جادة وحقيقية، ولا يجوز لكاتب أن يقترب من هذا الموضوع من دون أن يعتمد على ثقافة واسعة تتيح له إنتاج أعمال ذات قيمة، على نحو ما فعل بهاء طاهر في "خالتي صفية والدير". وهي من وجهة نظر روبير الفارس تقع ضمن دائرة الأعمال الفريدة، ومعها رواية "البشموري" لسلوى بكر التي يصعب العثور فيها على "ثغرة "أو "نقص" لأن عدتها المعرفية كاملة.
أدب طرح الأسئلة
وانطلاقاً من تجربتها المهمة في رواية "البشموري" ترى الروائية سلوى بكر أن مصطلح "الأدب القبطي" مثل مصطلح "الأدب الإسلامي"، تم إيجاده في سياقات سياسية ملغومة، تقبل بفكرة الاستبعاد الاجتماعي وتحد من روافد المواطنة. وتشير بكر إلى أن اللغة القبطية كانت خطوة رئيسة في مسار تطور اللغة المصرية القديمة، بالتالي ينبغي إعادة النظر في التراث الأدبي كله، لإعادة الاعتبار للمكون القبطي، كمكون فاعل، لأنه ما زال مجهولاً لدى الغالبية. ومن ثم ليس لدينا ما يلائم الحديث عن "أدب قبطي" قديم.
ومن جهة أخرى يندر العثور على كتاب داخل المكتبة المصرية تناول هذا التراث من منظور أدبي وليس من وجهة عقائدية، باستثناء كتاب نادر عنوانه "الأدب القبطي قديماً وحديثاً" لمحمد سيد كيلاني نشرته دار الفرجاني عام 1962. ويبرز الكتاب نماذج نصوص أنتجها مؤلفون أقباط حتى منتصف القرن العشرين، فضلاً عن مقاربة نقدية للنصوص التي قاربت موضوعات مسيحية، وكتبها شعراء مثل أحمد شوقي وعبد الرحمن شكري وأحمد محرم وغيرهم من الشعراء المسلمين. ويعترف كيلاني في المقدمة عن أن تناول موضوعه كان شائكاً في ما مضى، ويتحدث عن بدء ظهور الأدب القبطي في مصر، لكنها بدايات كانت كلها من الأدب الديني الذي يخدم المعتقدات المسيحية، ثم اتسعت دائرته لخدمة أبناء الطائفة من خلال الصحف والمجلات القبطية التي اختارها روبير الفارس موضوعاً لأحدث مؤلفاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتنظر بكر إلى روايتها "البشموري" كمحاولة لتناول حدث تاريخي مؤثر في تاريخ الأقباط المصريين وتقول، "حين قرأت كتاب (تاريخ البطاركة) لساويرس بن المقفع وجدت لغة أدبية فريدة من نوعها أوقعتني في أسرها، ودفعتني دفعاً إلى الغوص في نصوص تعود لأزمنة بعيدة، كانت مولدة لخطابات وتساؤلات مثيرة حول الهوية المصرية. ومن ثم جاءت روايتي لتعزيز هذا التوجه نحو (إثارة التساؤل) عن الدين كمكون للهوية، وهذا واحد من الأدوار التي يلعبها الأدب".
من جهته يشدد المؤرخ محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث في جامعة القاهرة على أن مصطلح "الأدب القبطي" مصطلح فضفاض لا قيمة له، لافتاً إلى أن غالبية التراث الذي أنتجه المسيحيون المصريون كتب باللغة العربية، ونحن ننسب الأدب إلى اللغة وليس إلى المعتقد الديني.
ويشير عفيفي الذي يعد من أبرز المتخصصين في تاريخ الأقباط إلى أن أدباء مصر في القرن العشرين كتبوا روايات مهمة ركزت على بعض هموم الأقباط كمواطنين لا كأقلية، ومن ذلك ما أنتجه فتحي غانم في "بنت من شبرا" أو يحيى حقي في "البوسطجي" التي تبحث في علاقة حب بين عاشقين من ديانتين مختلفتين. علاوة على كتابات يوسف الشاروني وإدوار الخراط ونبيل نعوم ونعيم صبري، التي يصعب فصلها عن السياق العام للأدب المصري.