تثير الحرب الأوكرانية مجموعة من التبدلات الاستراتيجية الأساسية في النظام الدولي. وتكاد وجهات النظر المتباينة عن ذلك المنحى تتقاطع في أن حرب أوكرانيا تشكل نقطة تحول في الاستراتيجيات العالمية، بل إنها تقترب من أن تكون إيذاناً بظهور نظام عالمي جديد.
في ذلك الصدد، ذكرت "وول ستريت جورنال" أن المستشار الألماني أولاف شولتز وعد في فبراير (شباط) 2022 بإعادة النظر في سياسات بلاده رداً على غزو روسيا أوكرانيا وقتذاك. وبعد ستة أشهر من نقطة التحول هذه [حرب أوكرانيا]، يبدو الأمر أفضل مما توقعه كثر، حتى لو بدا أسوأ بالنسبة إلى آخرين، فقد أعلن شولتز عن ثلاثة تحولات في خطاب أمام برلمان بلاده في 27 فبراير، أي بعد ثلاثة أيام على بدء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغزو. أولاً، ستعيد برلين الاستثمار في جيشها بغية تحقيق هدف منظمة حلف شمال الأطلسي المتمثل في إنفاق اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وتحديداً، ستستخدم تلك الأموال في تحديث معدات كالطائرات المقاتلة. ثانياً، ستتعامل ألمانيا مع سياسات الطاقة باعتبارها مسألة أمن قومي وستستغني عن الغاز الطبيعي الروسي. ثالثاً، ستتوقف برلين عن انتهاج الدبلوماسية من أجل الدبلوماسية، ولا سيما مع الحكام المستبدين في العالم.
ولفتت "وول ستريت جورنال" عبر مقال رأي للكاتب جوزيف سي ستيرنبيرغ، إلى أن الارتفاع الهائل في أسعار الطاقة، جاء "نتيجة للابتزاز الروسي"، لكنها أشارت إلى أن احتمال حلول شتاء بارد ومظلم لا يدفع الألمان إلى التشكيك في جدوى التضحية من أجل تأييد أوكرانيا، فقد ذكر نحو 70 في المئة من المشاركين في استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة العامة "زد دي أف" الشهر الماضي أنهم يؤيدون مواصلة بلادهم دعم أوكرانيا. وقد يتضاءل هذا الدعم حينما يحل فصل الشتاء، لكنه لن يصل إلى حد تأييد حرب بوتين ضد كييف. "ويبدو أن وقوع حرب على أرض أوروبية وما تلاه من ظهور أدلة واضحة على وحشية الغزو، حركا الناخبين الألمان لإجراء حسابات جديدة تتعلق بالتكاليف والمكاسب في مجال دورهم في العالم"، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال".
ووفق الكاتب ستيرنبيرغ، "يبدو أن ألمانيا، في هذا الإطار، تعيد تقييم مصالحها التجارية بجدية. وليس الاعتماد في الطاقة على روسيا إلا الجانب الأسوأ. إذا وضعنا الوقود جانباً، ليست علاقة ألمانيا التجارية مع روسيا كبيرة. لا يزال فرض عقوبات على موسكو يضر بألمانيا اقتصادياً. وفي العام الماضي، لامست صادرات ألمانيا إلى روسيا نحو الـ26.60 مليار يورو (26.59 مليار دولار)، لكنها تعادل شحناتها إلى السويد. ويتعلق السؤال الأكبر بالصين التي تمثل 104 مليارات يورو من الصادرات السنوية و142 مليار يورو من الواردات. في ذلك الصدد، شرع غزو أوكرانيا في إطلاق تحول في المفاهيم لدى الألمان في شأن المساومة مع المستبدين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق الكاتب نفسه، فقد سادت في ألمانيا خلال سنوات طويلة مضت، نظرة إلى التجارة تعتبرها جزءاً من الدبلوماسية. في ذلك السياق، ظهر شعار "التغيير عبر التجارة". في المقابل، بات النقاش الجاري في ألمانيا ينظر الآن إلى التجارة بوصفها نقطة ضعف استراتيجية محتملة "إذا لم تتنبه لها الشركات والسياسيون".
وفي نفس مماثل، تناول ذلك المقال في "وول ستريت جورنال" علاقة ألمانيا مع الصين، التي قد تتعرض لأزمة جراء الوضع في تايوان. ووفق الكاتب ستيرنبيرغ، ليس لدى ألمانيا رغبة في الانسحاب الفوري من الصين، ولا ينبغي لها ذلك. وأضاف، "الألمان يميلون إلى فهم أن عليهم الاستعداد الآن للابتعاد عن الصين، بدلاً من أن يفاجأوا أكثر من اللازم في وقت لاحق، في حال اقتضت الأحداث ذلك، مثل غزو صيني لتايوان".
ولفت مقال "وول ستريت جورنال" نفسه إلى وجود سياسيين ذوي شعبية متينة وميالين لاتباع سياسة متشددة تجاه روسيا والصين، خصوصاً وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك ووزير الشؤون الاقتصادية والعمل المناخي روبرت هابك وكلاهما من "حزب الخضر". وأشار المقال إلى أن هؤلاء السياسيين يشرفون على التغييرات الجارية في ألمانيا إلى جانب شولتز المعروف بمقارباته الأكثر سلاسة. وذكر بأن فضائح سياسية حول نفوذ روسي في ألمانيا، كالعلاقات التجارية التي ربطت المستشار السابق غيرهارد شرودر بالكرملين والروابط غير المشروعة بين المالكين الروس لخط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" وحكومة ولاية مكلنبورغ- بوميرانيا الغربية الشمالية الشرقية، عززت الموقف الشعبي الألماني المؤيد لأوكرانيا.
وكذلك يشير المقال نفسه إلى حدوث انقلاب في حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" المعارض، على سياسات المستشارة السابقة أنغيلا ميركل [تنتمي لذلك الحزب، بل قادته سنوات طويلة]، لا سيما في مجال الشؤون الخارجية، إذ بات زعيمه الجديد فريدرش ميرتس يصر على مقاربات أكثر تشدداً. وقد أيد ميرتس خطة شولتز تعزيز الإنفاق العسكري التي تشمل ميزانية عسكرية تاريخية بقرابة 100 مليار يورو، حتى إن حدث ذلك على حساب المساعدات الخارجية، بالتالي بات "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" يحظى بتأييد شعبي أكثر من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يقوده شولتز، وفق استطلاعات الرأي الأخيرة.