يندر أن نقرأ سيرة من السير الرموز الثقافية القديمة في التراث الإنساني لا نجد صاحبها متبحراً في علوم كثيرة.
سيرٌ عديدة تقول عن صاحبها أنه كان شاعراً وطبيباً وعالم فلك وله مصنفات في اللغة والدين والفلسفة وإلى آخر هذه المصفوفات من العلوم والمعارف التي لا تكاد تخلو منها سيرة من السير التراثية في غياب شبه كامل لمفهوم التخصص، وانسياق شبه كامل أيضاً للموسوعيّة.
إن هذا ليس حكراً على الثقافة العربية فقط بل إن عدداً كبيراً من الرموز الثقافية في التراثين الغربي والشرقيّ يتصف بالصفة الموسوعية ذاتها.
فالجمع بين الصيدلة والموسيقى مثل الجمع بين الرياضيات واللغة، والأخلاق والتدبير، والطب والتشريع، والهندسة والشعر، وكل هذه العلوم والمعارف موجودة مثلاً في سيرة ابن سينا. وإذا أضفنا إليها علوم النحت والنبات والخرائط والجيولوجيا فتصبح تلك هي سيرة ليوناردو دافنشي.
الصفة الموسوعية التي كان يتصف بها مثقفو الحضارات السابقة أو حتى الأجيال الماضية صبغت صورة المثقف بصبغة ليست ضرورية لتحقيق الشرط الثقافي. فالموسوعيّة التي مارسها رموز تلك الحقب كانت في الغالب نتيجة لطبيعة التعليم غير المنهجية التي لا تقوم على التخصص بل على الشغف الشخصي، وعلى مدى التقدم في العلوم والمعارف المختلفة الذي لم يتسع إلى الحد الذي يصبح فيه التخصص ضرورة.
وعلى تقارب العلوم من جذرها المشترك قبل أن تمتد تفرعاتها إلى الحد الذي استدعى التقسيم والتصنيف، وكذلك أيضاً بسبب الحاجة الملحة لمخرجات العلوم التطبيقية في ظل غياب العلماء والمتخصصين ما اضطر الكيميائي أن يصير طبيباً، والشرعيّ أن يكون لغوياً، والرياضيّ أن يكون فلكياً.
ولكن الصورة الذهنية للمثقف ظلت حتى يومنا هذا تميل إلى الموسوعية كصفة، إن لم تكن شرطية بالضرورة فهي على أقل تقدير محبذة وجماهيرية.
فالعالم الموسوعيّ يطلق مدحاً من دون تبصر في احتمالية التسطيح ونقص العلوم قدرها، مثلما أن العالم المنغمس في تخصصه يطلق أحياناً ذماً على سبيل التندر وعدم الإلمام بأي شيء خارج نطاق التخصص.
وصارت المرحلة الانتقالية الطويلة من العلم التقليدي الذي يحبذ الموسوعية إلى العلم الحديث الذي يشترط التخصص مرحلة مليئة بالتجاذبات على مستوى العامة ممن يرى أن تناقص "العلماء الموسوعيين" هو دلالة على انحدار قيمي وعلميّ في جيل الدعة والتفريط، وأن جهل "العلماء المتخصصين" في الطب بأبسط قواعد اللغة إنما هو مؤامرة تهدف إلى تسطيح الفرد وانغماسه في تخصصه وتحويله إلى أداة مسيرة لا تجيد إلا صنعة واحدة.
عالم الدين الذي ينال حظاً من العلوم الطبيعية، لا سيما تلك الغربية، تتضاعف جماهيريته في الغالب بين تابعيه ومريديه. ذلك أنها تعكس في الثقافة المهزومة ملامح انتصار زائف على الثقافة المنتصرة. فعالمنا الفذّ الأريب نال علومكم، وتفوق عليكم، ولا شك أنه أيضاً كشف ألاعيبكم.
هذا العالم، ومن فوقه تلك الهالة الموسوعية، تنصّبه مباشرة حكماً عدلاً على ثقافتي الشرق والغرب. وللأسف أن بعضهم يستغل هذا المنبر الذي حملته إليه أكتاف المعجبين بعلمه المزدوج، فيطلق أحكاماً سطحية ومستعجلة ومتجنية على ثقافة بأسرها وحضارة بأكملها.
وقد رأينا من زيف تلك الأحكام من الذين اطلعوا على ثقافة الآخر نصف اطلاع ما هو أسوأ ممن لم يطلع عليها ولا يعرفها وغير معنيّ بها، ولكن، بسبب المزاج التراثي الذي يميل إلى الموسوعية بطبعه، وبسبب المزاج الأيديولوجي المتعطش لانتصارات صغيرة، يجد عالم الدين الذي يحمل شهادات غربية فسحة واسعة لنشر آراء ضحلة وأحكام مستعجلة تزيد من اتساع الهوة بين الثقافات.
وللأسف أن ازدواجه الثقافي منحه صدقية كبيرة لا يستحقها كثير منهم.