بينما يشهد العالم صعود النزاع بين الصين وجزيرة تايوان الساعية إلى التحرر من الهيمنة الصينية، على غرار تحررها سابقاً من الاحتلال الياباني، يبحث القارئ العربي عن كتب تايوانية مترجمة إلى العربية، مثل كتب تاريخية أو روايات وقصص ودواوين شعرية، بغية التعرف إلى أدب هذه الجزيرة فلا يجد ما يرضي فضوله، واللافت هنا أن المكتبة العربية تمتلئ منذ عقود بالعديد من المؤلفات المترجمة من الأدب الصيني والياباني، ومعروف أن الصين تقدم في الفترة الاخيرة دعماً كبيراً لدور النشر العربية لترجمة الأدب الصيني ونشره، فهل العزلة السياسية والعوامل الجغرافية التي تعانيها تايوان تؤثر في وصول الأدب التايواني إلى القراء العرب؟ والمقصود بالأدب التايواني هو الأدب الذي كتبه التايوانيون بأي لغة مستخدمة في تايوان، بما في ذلك اللغات اليابانية ولغة الماندرين والتايوانية والهان واللغات الأسترونيزية.
تاريخ معقد
تاريخ جزيرة تايوان معقد ويتوازى مع مشهد أدبي نشط بوجود عدد كبير من كتاب الروايات والقصص القصيرة والشعر، منذ تلك المرحلة التي كانت فيها تايوان مستعمرة يابانية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وقد كانت مدة 51 عاماً خاضعة للحكم الياباني، بحيث مثلت تلك المرحلة صراعاً للشعب التايواني الذي تشكلت حياته من خلال التغييرات والتحديات التي حدثت في الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، ولأن الأدب يجسد انعكاساً للعصر فإنه وفقاً للكاتب والمؤرخ التايواني يي شيتاو "يمكن تقسيم تطور الأدب التايواني في القرن الـ 20 إلى ثلاث مراحل، "الفترة الوليدة" (1920-1925)، تليها "فترة النضج" (1926-1937)، وأخيراً "فترة الحرب" (1937-1945).
يقول "تم دمج مجموعة منوعة من تقنيات الكتابة من جميع أنحاء العالم في كتابة الأدب التايواني، لذا يمكن النظر إلى الأدب التايواني على أنه يحتوي تقاليد إبداعية عدة من مختلف الأعراق، وإذا أخذنا في الاعتبار التعبيرات الأدبية بما في ذلك التقليد الملحمي الشفهي الموجود عبر قرون في الثقافة التايوانية، فيمكننا بالتأكيد تتبع الظهور التاريخي لأدب تايوان منذ أكثر من 1000عام عندما عبّر السكان الأصليون عن إبداعهم شفهياً. لذا وبشكل أساس يعمل المتحف الوطني لأدب تايوان على الحفاظ على الأساطير والحكايات الشعبية للسكان الأصليين في تايوان خوفاً من تلاشي هذه الثقافات الشفوية".
لعل هذا التصور الرئيس للأدب التايواني يمنح التفاتة ضرورية إلى المقارنة بين الموروث الثقافي القديم والنتاج الروائي الحديث للكتاب والروائيين، فقد انشغل كتاب تايوان المعاصرون بالتعبير عن القضايا الوجودية التي فرضت على حياتهم، وأهمها فكرة الهوية والتشظي المكاني، وتحررهم من سلطة الحكم الياباني أولاً ثم النزاع بسبب رغبتهم في الحصول على استقلالهم التام عن الصين. وتجلت هذه الصراعات الدائرة على الأرض عبر شخوص الروايات التي عبرت عن انقسام الذات والهوية واللغة، بيد أن هذه الخصائص لم تتموضع على خريطة الأدب العالمي بشكل واضح يجعل من الأدب التايواني يحضر بقوة عبر الترجمة إلى اللغات الأكثر انتشاراً، وظلت الأسماء التي حظيت بالترجمة محدودة ولم تنتشر داخل نظام أدبي يتجاوز الثقافة الأصلية.
"رجل يدير ظهره إلى البحر"
تنتمي رواية "رجل يدير ظهره إلى البحر" للكاتب وانغ وين شينغ (1939) الصادرة حديثاً بالترجمة الفرنسية (دار)، إلى الأدب التايواني الحديث، وتمثل طفرة أدبية بالنسبة إلى الكتابة الروائية بسبب انتمائها للحداثة الأدبية الغربية واعتبارها أكثر رواية استفزازية تم نشرها على مدى عقود مضت.
إنها من نوع الروايات التي تقلب المياه الراكدة وتنتقد بعنف ساخر كل ما يحدث في تايوان عبر تقديم نماذج لشخصيات مشوهة إما نفسياً أو جسدياً، نماذج تسبب المجتمع في عطبها وتركها تواجه مصيرها منفردة.
تتألف الرواية من "مونولوغات" غاضبة لرجل مشرد أعور ومثقف يتم طرده في ظروف غامضة من العاصمة "تايبيه"، فيهيم على وجهه ثم ينعزل عن العالم في قرية صيد ساحلية فقيرة في جزيرة تايوان أوائل الستينيات، ويتعرف إلى أشخاص متعددين مثل الصيادين وبائعات هوى وموظفين وعجائز، وبعد الدخول في علاقات مع هؤلاء الأشخاص الغريبي الأطوار ينتقل البطل من المرارة الداخلية إلى اعتبار نفسه مجرد مهرج وأحمق. يعاني البطل أيضاً من اضطراب في هويته الجنسية ويسعى إلى أن يكون محترماً لدى الآخرين عبر التعامل بنوع من السخرية الممتزجة بالغموض والغطرسة، مطلقاً على نفسه لقب "الرئيس" ومطالباً الآخرين بأن ينادوا عليه بهذا الاسم.
تأخذ الرواية القارئ عبر "مونولوغات" البطل الداخلية من الحداثة الفخورة في السبعينيات إلى "ما بعد الحداثة" العبثية المتشككة في جوهر الأشياء والقيم والمفاهيم، لكن البطل الحقيقي هو اللغة نفسها التي تسخر من كل شيء يواجهه "الرئيس"، بدءاً من أولئك الكهنة الذين يتم النظر إليهم على أنهم أنصاف آلهة، ابتدعوا الكتابة منذ زمن سحيق مروراً بالموظفين المتعلمين الذين يقدرون امتيازاتهم أكثر من صعوبات حياتهم ووصولاً إلى العالم الذي يحيط به.
إنها سخرية مريرة تتضمن تفكيكية مبهمة سواء في المضمون أو الأسلوب، وقد أثارت هذه الرواية المكتوبة بلغة هجومية وتضم قدراً من الجرؤ اللفظي، إعجاب القراء بمجرد ظهورها على جانبي مضيق بحر الصين، وتم وصفها بأنها أكثر التجارب جذرية في اللغة الصينية لأنها تدمج بين التعبيرات القديمة والمفردات الجامحة والإيقاعات البسيطة، إضافة إلى كثير من علامات الوقف والتقطيع ضمن الجملة الواحدة لنقرأ، "سوف يفكر الرئيس أنه يمكن للعاطلين الذين لديهم الوقت للشعور بالندم أن يصبحوا رجالاً جيدين. يجب قول الحقيقة، الرئيس في أعماقه لم تكن لديه رغبة على الإطلاق في أن يكون رجلاً صالحاً، وكان من الصعب جداً أن يكون رجلاً أميناً، وهذا يتطلب يقظة لا تكل، لكن بدلاً من ذلك عند أدنى خطأ من الإهمال يقع في ورطة، وبعد ذلك بوقت طويل سيأتي سقوطه من مكان لم يتخيله من قبل، والذي لم يكن بإمكان أي شيء أن يهيئه له، ولا حتى آخر سيناريوهات التخويف التي قام بها".
ولكن تدريجاً يتحول البطل إلى عراف ويتنبأ بموته في البحر، وفي سياق "مونولوغ" في إحدى الليالي يبدأ الراوي في طرح رؤيته للعالم التي تدور حول الصين والحرية والجنس والكهانة، هو والآخرون ممن يلتقي بهم.
"الناس في تايبيه"
يستعيد شيانيونغ بيا الذي يصنف ضمن أهم الكتاب التايوانيين في روايته "الناس في تايبيه" قصة هذه المدينة خلال الخمسينيات من القرن الماضي، إنها تايبيه ما بعد الحرب، وهي ملجأ للمنفيين من جمهورية الصين الشعبية، ويقدم بيا وجهة نظره حول حقبة من الزمن على وشك الانتهاء، وكيف يكون رد فعل الناس على ما يحدث.
ومن أبطال الرواية السيدة تشيان مغنية الأوبرا التي تحولت إلى مغنية كباريه، إذ تعود للحياة الفنية في المنفى ولكن في قاعات الرقص وتتذكر أمجاد الماضي بتحسر، ثم تايبان جين الفتاة الجميلة والبسيطة التي تعمل في الشارع، وليو قائد كتيبة متقاعد يستعيد في خريف حياته بطولاته وأمجاده العسكرية، وجميع هؤلاء الأبطال يغرقون في أحلامهم المحطمة وعزاؤهم الاستئناس في إقامة مآدب أعياد ميلاد يجتمعون فيها، ويسترجعون ذكرى أيام الأمس حيث براءة الحب الأول وأمجاد الشهرة والبطولة العسكرية.
وتأتي كل قصة بمنظور جديد لحياة السكان المقتلعين من جذورهم، لذا تبدو تفاصيل حياة وأفكار الشخصيات كما لو أنها نوع من الشهادات تثري المستوى الإنساني والتاريخي والاجتماعي.
ويمكن اعتبار حال الحنين عنصراً طاغياً على تركيب الشخصيات، كأن يركز الكاتب على التقاط مشهد عادي يثبت التحول بين اللحظة الآنية والماضية عبر تتبع مسارات المنفى ومآلات الأحزان في دروبها المشوبة بالاستسلام والعجز، إذ يصل هؤلاء الأبطال إلى اللاشيء تقريباً. وينبغي الإشادة أيضاً بترجمة آندريه ليفي الذي أجاد نقل الأسلوب الخاص بكل شخصية، من طريقة تفاخر مغنية الأوبرا القديمة إلى مزاح العاهرات ولغتهن الخاصة في التعبير عن أنفسهن ووصف العالم، أو حتى اللهجات العسكرية للجنود القدامى.
أما الكاتب شيانيونغ باي فهو من مواليد العام 1937، وأجبرت عائلته بسبب الحرب الصينية - اليابانية ثم الحرب الأهلية على البحث عن ملاذ في تايوان، وخلال الستينيات غادر باي لإكمال دراسته في الولايات المتحدة، فاستقر هناك يعمل في تدريس اللغة الصينية في جامعة "سانتا باربرا" في كاليفورنيا، وله أكثر من عمل روائي مترجم إلى اللغة الفرنسية منها "صبي من كريستال" و "طفولة جيلان".
رواية بوذية
تعتبر الكاتبة هسياو لي هونغ المولودة عام 1950، واحدة من أشهر الكاتبات في تايوان، بسبب حساسيتها الأنثوية وتفسيرها الخيالي الفريد للمثل البوذية الباطنية، وكتبت هونغ أربع روايات وترجمت روايتها "1000 قمر على 1000 نهر" إلى اللغة الإنجليزية، وأشاد النقاد والقراء بأسلوبها السلس والعذب وإضاءتها على واقع الحياة التايوانية سواء في الريف أو المدينة، وصنفت الرواية ضمن أكثر الكتب مبيعاً عند نشرها للمرة الأولى مرة في تايوان، كما فازت بجائزة United" Daily Literature" عام 1980.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحتفي الرواية بالحياة الإقليمية للطبقة المتوسطة، فهي تتوقف أمام تفاصيل إنسانية ترتبط بالحب والخيانة والحياة الأسرية وقوة التقاليد في بلدة ساحلية جنوب تايوان خلال السبعينيات، وتظهر في كتابة هونغ لمحات حكمية وإضاءات مشرقة حول كيفية التعامل مع الأزمات العاطفية، مثل وفاة شخص عزيز وعلاقة حب تواجه البعد المكاني والتحولات النفسية، واعتمدت الكاتبة أيضاً على رسم الطقوس والإيقاعات اليومية للحياة الإقليمية بشكل واضح حتى يظهر تأثير الإرث الثقافي على حياة الشخصيات بوضوح من خلال القيم الكونفوشيوسية والبوذية، وبيان اختلافها بين سكان البر الرئيس (الصين) الناطقين بلغة الماندرين، وسكان الريف في تايوان الذين ترتبط حياتهم بالقيم الزراعية في خضم مجتمع يتجه باندفاع نحو الصناعة.
وتستعين الكاتبة أيضاً بروح التعاليم البوذية لإثراء القصة من خلال استخدام تورية سلسة بين حوارات الأبطال والشعر والأغاني الشعبية والحكايات التايوانية الشفهية المتوارثة عبر الأجيال، وأيضاً في محاولة إدراك أثر الطبيعة الجغرافية ودور الأماكن في حياة الشخصيات أثناء بحثهم عن المعنى والعزاء في تقلبات الحياة التي لا يمكن التنبؤ بها.