مجلس الاحتياطي الفيدرالي موجود بحق. كان ذلك هو الرأي الفوري الذي أبدته الأسواق يوم الجمعة الماضي بعد الخطاب الذي ألقاه جاي باول رئيس المجلس، في ندوة محافظي المصارف المركزية التي استضافتها مدينة جاكسون هول في ولاية وايومنغ.
كانت الرسالة تتلخص بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيستمر في رفع معدلات الفائدة والتراجع عن التيسير الكمي، الوصف القبيح لضخ المصارف المركزية الأموال في النظام المالي، إلى أن يعود التضخم إلى اثنين في المئة. وقال إن ذلك هو محور "التركيز الشامل الآن" للمجلس، وإن ذلك سيعني "تطبيق سياسات نقدية متشددة لبعض الوقت".
قد يتصور المرء أن هذا كان موقفاً مسكناً، لكن الأسواق كانت تأمل في أن تكون هناك إشارة ما إلى أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيتبع سياسات نقدية متساهلة في حال ترنح الاقتصاد الأميركي. لم يحدث هذا وانخفض مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" بنسبة ثلاثة في المئة، والآن في الأسواق كلها لا تعكس هذه التقلبات القريبة الأجل سوى كيفية تموضع التجار. وأظن أننا يجب أن ننتظر إلى ما بعد عطلة عيد العمل نهاية الأسبوع المقبل، لكي نتوصل إلى المغزى الحقيقي من موقف مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حينها سنستطيع التوصل إلى تخمينات معقولة في شأن ما قد يحدث خلال الخريف في الوقت الحالي، إليكم أبرز ما توصلت إليه.
أولاً، يدرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن سمعته على المحك الآن، فالتضخم غير مرغوب فيه على الإطلاق، والمجلس إلى جانب البنوك المركزية الأخرى محرج بسبب التهاون الذي سبق وأبداه مع الوضع. قبل سنة وفي المنتدى نفسه، جادل جاي باول بأنه وعلى رغم معدلات التضخم التي كانت قد بدأت بالارتفاع، فإن هذا الارتفاع سيكون "عابراً". لقد كان على خطأ، فلا تقتصر أسباب التضخم على الحرب في أوكرانيا وحسب، التي أثرت بشكل خاص على أوروبا والمملكة المتحدة. لقد كان هذا نتيجة فشل أعم، ولاسيما في ما يخص السماح لطفرة المضاربة بالخروج عن السيطرة [تحدث فقاعة المضاربة عادة بسبب التوقعات المبالغ فيها للنمو المستقبلي، أو ارتفاع الأسعار، أو الأحداث الأخرى التي قد تسبب زيادة في قيم الأصول]. قد يغالي مجلس الاحتياطي الفيدرالي الآن في التعويض، لكن هذا خطر يتعين عليه أخذه.
ثانياً، من شأن خطوة كهذه أن تغير مزاج الأسواق في أميركا وفي أماكن عدة أيضاً، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الأسهم الأميركية تمثل 55 في المئة من الإجمالي العالمي. النقاش الأكبر في الولايات المتحدة الآن حول ما إذا كان التعافي الجزئي في أسعار الأسهم منذ منتصف يونيو (حزيران) قابل للاستمرار، أو ما إذا كان احتمال تباطؤ النمو في الأرباح من شأنه أن يدفع السوق الهابطة [ يهدث هذا عندما تتعرض السوق لانخفاضات طويلة في الأسعار] إلى مرحلة هبوط ثانية. وسيكون من الرائع معرفة الإجابة، لكن بالطبع لا أحد يستطيع أن يعرفها. والأمر الجدير بالذكر هنا هو أن المراهنين على هبوط السوق سيرون في احتمال تشديد السياسات النقدية "لبعض الوقت" تبريراً لموقفهم.
ثالثاً، أياً كان اتجاه أسعار الأصول السائدة في الولايات المتحدة،فإن أكثرها هشاشة سيقع تحت ضغوط متزايدة، وكل من يحاول التكهن بسعر العملات المشفرة إما شجاع أو أحمق أو الاثنين معاً، لكن من المحتم بأن العودة إلى معدلات أعلى للفائدة لفترة طويلة سيؤدي إلى الحد من جاذبية كل الأصول التي لا تحقق عائداً آنياً. إنها عملية حسابية بسيطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذا كان بإمكان المرء الحصول على عائد صفري على النقود وكان بمقدوره أن يقترض بتكاليف زهيدة للغاية، سيكون الاحتفاظ بالبتكوين أمراً لا يترتب عليه أية تكلفة. أما إذا كان عليه أن يتخلى عن عائد يبلغ أربعة في المئة مثلاً، وكان الاقتراض يكلف ستة في المئة، يصبح الاحتفاظ بالبتكوين أقل جاذبية.
رابعاً، إذا واصلت الولايات المتحدة رفع معدلات الفائدة، سيرفع هذا المعدلات في كل مكان. وتتوقع الأسواق أن يصل معدل الفائدة على الأموال الفيدرالية [معدل الفائدة الرئيس] إلى ذروة تراوح ما بين 3.5 في المئة وأربعة في المئة. وهذا لا يعني أن بنك إنجلترا سيرفع معدلات الفائدة حتماً إلى ذلك المستوى، بل سيواجه ضغوطاً كبيرة لحمله على القيام بذلك.
خامساً، ستشمل الآثار غير المباشرة بقاء الدولار مرتفعاً، وهذا من شأنه أن يصعب الأمور في بقية أنحاء العالم، ويعد الجنيه الإسترليني عرضة للتقلب لأسباب سياسية وبسبب العجز المتزايد في ميزان المدفوعات الذي يتطلب تمويلاً، واليورو أيضاً معرض إلى خطر بسبب بطء المصرف المركزي الأوروبي في زيادة معدلات الفائدة وبسبب التوترات الداخلية داخل الاتحاد الأوروبي.
قد تستطيع ألمانيا بسهولة تحمل معدلات فائدة مرتفعة، لكن إيطاليا لن تستطيع ذلك، كما أن أغلب الاقتصادات الناشئة عرضة للخطر أيضاً لأن دولاراً أقوى سيعني زيادة في تكاليف الواردات بما في ذلك الأغذية، وهذا أمر مخيف في الوقت الحالي. في المقابل هناك عدد قليل من الفائزين، أبرزهم مصدرو النفط والغاز، لكن عدد الخاسرين يتجاوز كثيراً عدد الفائزين.
سادساً، حتى الأصول الصلبة في خطر من ارتفاع معدلات الفائدة، فأسعار المنازل في الولايات المتحدة بلغت ذروتها، ولاسيما في مواقع كانت رائجة من ذي قبل مثل سان فرانسيسكو. على مشتري المنازل في بقية أنحاء العالم أيضاً أن يعيدوا حساباتهم في شأن المنازل التي يستطيعون تحمل تكاليف شرائها.
هل ستنهار سوق الإسكان العالمي؟ حسناً، كلا، ويرجع هذا إلى عدة أسباب، أولها أن الأسواق مختلفة تماماً عن بعضها بعضاً، وثانيها أن هنالك عدداً كبيراً من المشترين نقداً، وثالثها أنه في أماكن كثيرة ما يزال هناك طلب يفوق العرض، لكن أسواقاً أكثر هدوءاً في كل مكان تبدو حقاً النمط المرجح على مدى السنتين المقبلتين.
سنتان؟ هذا هو السؤال الرئيس حقاً، أليس كذلك؟ كم من الوقت سيمر قبل أن يتمكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي من إعلان النصر على التضخم ويبدأ بخفض معدلات الفائدة؟ هو لا يعرف، نحن لا نعرف، لكنني مرتاح إلى جدية المجلس أخيراً. دعوا الاقتصاديات جانباً. لا تستطيع المجتمعات أن تعمل على نحو لائق عندما يستفيد الناس من المضاربة أكثر مما يستفيدون من العمل، وحيث لا تستطيع الأسر الشابة أن تتحمل تكاليف شراء المنازل. الطريق نحو التعقل قد بدأ.
© The Independent