يردد المسؤولون الروس من الرئيس فلاديمير بوتين إلى أعضاء حكومة الكرملين، أن الاقتصاد الروسي تمكن من الصمود في وجه العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية. ويؤكدون أن الغرب تضرر من العقوبات أكثر مما تضررت موسكو، بخاصة في ما يتعلق بنقص موارد الطاقة وارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي.
وحققت الموازنة الروسية فائضاً كبيراً بالفعل في الأشهر التالية على بدء الحرب في أوكرانيا، إذ إن ارتفاع أسعار الطاقة جعل الدخل القومي من الصادرات يتضاعف تقريباً في الأشهر الثلاثة التالية لبداية ما تسميه القيادة الروسية "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا. وزاد العائد من صادرات الغاز والنفط والفحم في الأيام المئة الأولى ليصل إلى أكثر من 100 مليار دولار، أغلبها من الصادرات إلى أوروبا.
لكن منذ شددت دول الاتحاد الأوروبي العقوبات على روسيا وبدأت تقليل اعتمادها على الطاقة من روسيا، تراجعت الصادرات الروسية من النفط والغاز لأوروبا. وإذا كان ارتفاع الأسعار حالياً لا يجعل هذا التراجع ينعكس على دخل موسكو من صادراتها فإن تلك نظرة قصيرة المدى، لكن على المدى البعيد ستفقد روسيا أكبر زبائنها لمبيعات الطاقة.
هذا ما أكده المدير التنفيذي لـ"وكالة الطاقة الدولية" فاتح بيرول، في كلمته أمام مؤتمر عن الطاقة في النرويج. ووصف بيرول تربح روسيا من ارتفاع الأسعار منذ بداية الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات على موسكو، بأنه تحليل "ضحل وقصير النظر للوضع الحالي".
تضرر قطاع الطاقة
وقصد مدير "وكالة الطاقة الدولية" أن تلك المنافع الآنية بزيادة العائدات لن تحول دون الأضرار طويلة الأمد على قطاع الطاقة الروسي. ومما يعزز وجهة النظر تلك التجربة الماثلة أمام العالم بشأن قطاع الطاقة في إيران الذي تضرر جراء العقوبات الأميركية والغربية والدولية على طهران بسبب برنامجها النووي أو دعمها للإرهاب، فقد أدى توقف الاستثمار في إنتاج النفط والغاز الطبيعي إلى تراجع هائل في القدرات الإنتاجية لإيران، حتى أنها منذ سنوات لا تستطيع الوصول إلى سقف حصتها ضمن اتفاقات إنتاج منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك". وحتى في حال إعادة إحياء الاتفاق النووي ورفع بعض العقوبات عن إيران، فإن إعادة تأهيل قطاع الطاقة ليتمكن من زيادة الإنتاج سيحتاج إلى وقت لا يقل عن عام. كما أن ذلك يواجه أيضاً عقوبات أخرى تحد من قدرة الشركات العالمية على الاستثمار في تطوير حقول الغاز الطبيعي الإيراني المتدهورة خلال فترة العقوبات.
وأكد فاتح بيرول في كلمته أمام المؤتمر أن تأثير خفض أوروبا وارداتها من الغاز الطبيعي الروسي ستبدأ في الظهور في شكل خسائر طويلة الأمد لروسيا، مهما كانت قدرة موسكو على إيجاد مشترين الآن لبعض صادراتها بأسعار تفضيلية.
وقدرت وحدة "غلوبال كوموديتيز إنسايت" في مؤسسة "ستاندرد أند بورز" أن تعهدات أوروبا في حزم العقوبات أدت إلى انخفاض وارداتها من الغاز الطبيعي الروسية بنسبة نحو 75 في المئة. وتعد دول أوروبا المستورد الرئيس للغاز من روسيا، إذ بلغت وارداتها قبل الحرب ما يزيد على نسبة 40 في المئة من استهلاكها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"لقد خسرت روسيا واحداً من أهم شركائها الاستراتيجيين في مجال الطاقة، إضافة إلى خسارتها الثقة لدى المستهلكين حول العالم". هكذا قال بيرول، مضيفاً "ولا يجب الخلط ما بين فقدان شريك استراتيجي مهم وتحقيق تبادلات انتهازية قصيرة الأمد"، كما صرح فاتح بيرول الإثنين. وأضاف مدير وكالة الطاقة الدولية "لا نعتقد أن روسيا تكسب، أو أنها ستكسب أبداً معركة الطاقة".
وتوقع بيرول أن تنهار كل آمال روسيا في تعزيز إنتاجها من النفط على المدى الطويل نتيجة التعقيدات المحيطة بحقول الاستخراج في مواقع القارة القطبية، مؤكداً أن كل خطط زيادة الإنتاج المتعلقة بالغاز الطبيعي المسال "ترجع إلى نقطة الصفر" الآن.
كانت "وكالة الطاقة الدولية" في تقريرها عن مستقبل قطاع الطاقة العالمي لعام 2021 توقعت أن تزيد روسيا إنتاجها من النفط بمعدل نصف مليون برميل يومياً بحلول عام 2030، وذلك بحسب خطط التطوير المعلنة، لكن فاتح بيرول قال "بالنسبة إلى النفط، فإن توقعات إنتاجه في روسيا ستتضرر بشدة من دون توفر الدعم من الشركات، تلك التي توفر التكنولوجيا أو شركات تقديم الخدمات، لأن أغلب النمو في الإنتاج كان يفترض أن يأتي من حقول ذات طبيعة جيولوجية معقدة جداً مثل منطقة القطب المتجمد والحقول البحرية، ولن يكون ذلك ممكناً من دون دعم تلك الشركات".
وأضاف "أما بالنسبة إلى الغاز الطبيعي المسال، فإن خطط روسيا لزيادة إنتاجها الحالي من 30 مليار متر مكعب إلى 130 مليار متر مكعب تعود الآن إلى نقطة الصفر، ذلك لأن زيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال ليست ممكنة في غياب الشركات التي كانت تخطط لتلك الزيادة".
فك الارتباط بالطاقة
ولا تقتصر التحديات طويلة الأمد على فقدان ثقة زبائن روسيا في مجال الطاقة، بخاصة الأوروبيون، وتوقف خطط زيادة الإنتاج نتيجة العقوبات وانسحاب الشركات من روسيا، وإنما أيضاً يتوقع أن يؤدي تطوير العالم مصادر طاقة بديلة إلى تأثير طويل الأمد في أحد أهم مصادر الدخل القومي لموسكو.
وتتوقع "غلوبال كوموديتيز إنسايت" ألا تعود الشركات العالمية الكبرى، والشركات الغربية تحديداً إلى قطاع الطاقة الروسي، على الرغم من استمرار بعض الشركات في العمل مع شركات طاقة روسية صغيرة، بخاصة في مجال الغاز الطبيعي المسال. ويقدر فاتح بيرول أن مخزونات روسيا من الغاز الطبيعي الآن عند مستوى 92 في المئة، نتيجة الانخفاض الكبير في صادراتها من الغاز إلى أوروبا.
وتوقع بيرول أن تزيد روسيا من حرق الغاز في الفترة المقبلة، مضيفاً "سنرى مزيداً من ذلك في الأشهر المقبلة مع امتلاء المخزونات الروسية من الغاز، كما سنرى مزيداً من حرق الميثان في الأشهر المقبلة لأنه لم تعد هناك سعة إضافية للتخزين".
وأكد مدير "وكالة الطاقة الدولية" أن الوضع الحالي مهم جداً، للدفع نحو الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة والتحول العالمي إلى الطاقة النظيفة. وأضاف "قد تكون الأزمة الحالية نقطة تحول تاريخية لتسريع تطوير التكنولوجيا اللازمة للطاقة النظيفة، ودفع جهود التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة".