بعد فترة وجيزة من إطلاق العالم الغربي مجموعة واسعة من العقوبات ضد روسيا بسبب حربها ضد أوكرانيا، جادل الرئيس الأميركي جو بايدن بأن الإجراءات كادت بالفعل تتسبب في "انهيار" الاقتصاد الروسي، لكن بعد ستة أشهر تبدو الصورة أكثر اختلاطاً.
وبينما يتفق معظم الاقتصاديين على أن روسيا تعاني أضراراً حقيقية ستتزايد بمرور الوقت، فإن اقتصادها على الأقل ظاهرياً لا يبدو أنه ينهار بعد، وسرعان ما انعكس الانخفاض الأولي في قيمة الروبل بعد أن حدت الدولة من معاملات العملة، وبعد انخفاض الواردات الروسية، وهي صورة اقتصادية بالكاد يمكن وصفها بأنها صحية، لكنها هدأت مخاوف الجمهور بشأن أزمة العملة.
كما لم ترتفع نسبة البطالة بشكل ملحوظ وكذلك تستمر روسيا في كسب ما يعادل مليارات الدولارات شهرياً من صادرات النفط والغاز.
في موسكو وسانت بطرسبورغ لا تزال المطاعم والبارات مزدحمة ومحال البقالة ممتلئة حتى لو قفزت الأسعار، ويصعب العثور على بعض السلع المستوردة مثل الويسكي.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة ستة في المئة هذا العام وهو انخفاض حاد، لكن أقل من 10عشرة في المئة أو أكثر التي توقعها بعض الاقتصاديين في البداية.
بوادر الضيق
من المؤكد أن إشارات التحذير تومض في كل مكان، متناقضة مع ادعاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن العقوبات قد فشلت، فقد انخفض تصنيع السيارات والسلع الأخرى بسبب عدم قدرة الشركات على استيراد المكونات، ما أدى إلى ظهور جيوب من العمال الساخطين والمغادرين في بعض البلدات.
كما خفضت شركات الطيران الرحلات الدولية إلى ما يقرب من الصفر، وسرحت الطيارين وفككت بعض الطائرات لقطع الغيار التي لم يعد بإمكانها شراؤها من الخارج، وفر آلاف الأشخاص المتعلمين من البلاد ومئات الشركات الأجنبية بما في ذلك "إيكيا" و"ماكدونالدز"، التي أغلقت أبوابها، وأظهرت الميزانية الفيدرالية الروسية في يوليو (تموز) بوادر الضيق.
وقال ماكسيم ميرونوف الاقتصادي الروسي في "IE Business School" في مدريد لـ"واشنطن بوست"، إن العقوبات "تعمل بالتأكيد، لكن للأسف أبطأ بكثير مما كان يتوقعه الجميع قبل ستة أشهر".
قطع الشريان الرئيس لروسيا
لإلحاق مزيد من الضرر، كما يقول الاقتصاديون، يجب على الاتحاد الأوروبي قطع شريان الحياة الرئيس لروسيا، أي عائدات تصدير النفط والغاز.
وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا قد حظرتا واردات النفط والغاز الروسية، لكن أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة الروسية وافقت فقط على تقييد المشتريات بمرور الوقت.
ويضغط البيت الأبيض وآخرون من أجل اتخاذ إجراءات فورية أكثر من خلال تحديد سقف عالمي لأسعار النفط الروسي، الأمر الذي سيجبر موسكو على البيع بسعر مخفض مقارنة بالأسعار العالمية.
ويضغط الدبلوماسيون الأميركيون على الحلفاء لقبول الحد الأقصى، الذي يعتبرونه "أكبر إجراء اقتصادي كلي باق"، وفقاً لمسؤول كبير في إدارة بايدن، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لـ"واشنطن بوست"، لكون المحادثات الدبلوماسية حساسة.
وقال المسؤول إن روسيا تواجه "ركوداً اقتصادياً حاداً، ومن شبه المؤكد أن الركود سيستمر في العام المقبل أيضاً". وأضاف "انظر، لقد تمكنوا بين ارتفاع أسعار الطاقة وبين بعض إدارتهم من أن يكون لديهم ركود اقتصادي أقل حدة قليلاً من بعض التقديرات الأولية، لكنني أعتقد أن ما تراه الآن هو نوع من اقتصاد بوتيمكين (واجهة خارجية لبلد لا يسير بشكل جيد، مما يجعل الناس يعتقدون أن البلد يسير بشكل أفضل).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الوقت الذي روجت فيه السلطات الروسية للمهرجانات والحفلات الموسيقية الموالية للكرملين والمعسكرات العسكرية للأطفال هذا الصيف، خمدت العلامات الخارجية للضرر الاقتصادي في موسكو، حيث أدى الطقس الصيفي الجميل إلى جذب الحشود إلى الحدائق والمقاهي الخارجية.
وقال أحد أصحاب الحانات في العاصمة الروسية لـ"واشنطن بوست" إنه يتأقلم مع الواقع الجديد، وأضاف رجل الأعمال الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته "عديد من الشركات والموزعين غادروا السوق، لكن البدائل تظهر كل يوم، لذلك نحن نتحول". وأضاف "على سبيل المثال، هناك عديد من شراب الجن الروسي الآن، بعضهم ليس نصف سيئ".
في حين اشتكى آخرون من ارتفاع أسعار البقالة والحلويات المستوردة، وقالت امرأة تعمل مديرة وسائل التواصل الاجتماعي من موسكو، تحدثت هي الأخرى شريطة عدم الكشف عن هويتها، "في ما يتعلق بأسعار المواد الغذائية أصبحت بعض الأشياء أكثر كلفة، خصوصاً بعض الفواكه الغريبة أو السلع المستوردة، مثل القهوة". وأضافت "أنا من محبي القهوة، لكن الأشخاص المحترمين مثل إيلي أو لافاتزا قد ضاعفوا الأسعار".
شركات أجنبية تهجر روسيا
انضمت "إيكيا" إلى مئات الشركات الغربية الأخرى في الانسحاب من السوق الروسية بعد الحرب في أوكرانيا، كما اضطرت شركة "TVSZ" إلى ترك موظفيها وإيقاف خط التجميع بعد أن أوقف مورد أميركي حيوي من شركة "Timken" ومقرها أوهايو، التي تصنع المكونات المعروفة باسم محامل الدحرجة، عملياته الروسية في مارس (آذار).
كما تضررت العشرات من الشركات الصغيرة المرتبطة بالمصنع، بما في ذلك شركات النقل ومتعهدو الطعام في بلدة تضم 58000 نسمة على نهر تيخفينكا، وهو طريق تجاري يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر.
وقال مدير المصنع يفغيني كوزمينكو لوسائل إعلام محلية في يونيو (حزيران) إن الشركة تأمل في العثور على مصنع روسي قادر على صنع تلك المحامل، وأضاف "كل شخص يحتاج إلى الإنقاذ، اليوم الأولوية لإنقاذ الوظائف".
لكن السكان غضبوا بسبب بقاء الآلات صامتة لأشهر عدة، خصوصاً بعد تصريح حاكم المنطقة بأن الأمر سيستغرق على الأقل حتى سبتمبر (أيلول) لحل المشكلة.
واشتكت إحدى العاملات، ماريا شيدرينا، "نحن نجلس في المنزل منذ ما يقرب من شهرين"، وأضافت أنها ستؤدي بكل سرور أي نوع من الأعمال في المصنع إذا كان متاحاً.
إعاقة تصنيع السيارات
وكان انهيار الواردات من المكونات قد أدى إلى إعاقة جميع أنواع التصنيع، وأبرزها إنتاج السيارات الذي انخفض بنسبة 62 في المئة تقريباً خلال النصف الأول من العام، وفقاً لوكالة الإحصاء الحكومية الروسية.
وتوقفت شركة "AvtoVAZ"، التي تصنع سيارة "لادا" الروسية الشهيرة، عن العمل لأشهر عدة، حيث علقت شركة "رينو" الفرنسية المالكة للأغلبية عملياتها ثم باعت حصتها البالغة 68 في المئة إلى كيان روسي حكومي مقابل روبل واحد.
وفي يونيو (حزيران)، استأنفت الشركة المصنعة إنتاجها بطراز سيارة "مضاد للعقوبات" يفتقر إلى الأكياس الهوائية وأنظمة المكابح المانعة للانغلاق وتكييف الهواء وضوابط الانبعاثات.
ومنحت شركات صناعة السيارات التي توظف 600 ألف شخص في جميع أنحاء روسيا، في بعض الحالات، إجازة للعمال وبدأت في دفع ثلثي رواتبهم.
وقالت إلينا ريباكوفا نائب كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي، جمعية البنوك وشركات التمويل، إنه للحفاظ على معدل البطالة مستقراً عند نحو أربعة في المئة، ضغط الكرملين على الشركات المتعثرة لإعطاء العمال إجازة مدفوعة الأجر جزئياً أو لتقصير ساعات عملهم بدلاً من تسريحهم، وأشارت إلى أن ذلك سيساعد في منع الاضطرابات على المدى القصير، لكنه لن يستمر على المدى الطويل.
وتوقفت روسيا عن نشر عديد من الإحصاءات الاقتصادية، مما يجعل من الصعب الحكم على مدى شدة العقوبات، لكن بعض البيانات تظهر بوادر ضائقة.
كما تراجعت مبيعات التجزئة في روسيا بنسبة عشرة في المئة خلال الربع الثاني من 2022، مقارنة مع العام الماضي، فقد حد الروس من إنفاقهم، كما أن ثقة المستهلك في أدنى مستوى لها منذ عام 2015، في حين لا يخطط 78 في المئة من الروس لعمليات شراء كبيرة، وفقاً لماريا شاجينا خبيرة العقوبات في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
عجز في الميزانية الروسية
وفي يوليو (تموز)، أبلغت روسيا عن عجز في الميزانية الفيدرالية قدره 900 مليار روبل (14.9 مليار دولار) مع انخفاض بعض مصادر الإيرادات الضريبية، و"فجوة ضخمة" تعادل ثمانية في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لسيرجي غورييف الاقتصادي والعميد في "ساينس بو" في باريس.
ومع ذلك، فقد ثبت أن بعض جوانب العقوبات سهلة الاختراق أو أنها ليست شديدة القسوة كما هو مأمول، وقالت شاجينا إن فشل أوروبا في وقف مشتريات النفط الروسي بسرعة بسبب اعتمادها كان فرصة كبيرة ضائعة.
من المقرر أن يحظر الاتحاد الأوروبي معظم مشتريات الخام الروسي في ديسمبر (كانون الأول) ومنتجات النفط المكرر في فبراير (شباط). وأضافت شاجينا "لو كنا قد استهدفنا النفط منذ البداية، لكنا قد رأينا بسرعة أكبر العواقب الهائلة التي كان يتحدث عنها السياسيون".
الروبل خيب أمل مصممي العقوبات
يشكل انتعاش قيمة الروبل خيبة أمل أخرى لمصممي العقوبات، وكان هبوطه مع بداية فرض العقوبات دفع عديداً من الروس إلى الإسراع لسحب الأموال من أجهزة الصراف الآلي، واستجاب البنك المركزي الروسي بوضع قيود صارمة على تبادل العملات والسحب والتحويلات بالعملة الصعبة في الخارج.
إضافة إلى الانخفاض الحاد في واردات روسيا، أدى إلى انخفاض الطلب على العملة الصعبة ودعم الروبل، وهو حل مصطنع وربما غير مستدام، في تخفيف عمليات السحب للبنوك وقلل من احتمالات حدوث اضطرابات عامة فورية.
وقالت ريباكوفا إنه في حين أن عديداً من الدول الغربية والآسيوية قلصت بشدة الصادرات إلى روسيا للامتثال للعقوبات، أو لأن الشركات الفردية تختار عدم التجارة مع روسيا، فقد انتعشت الصادرات من بعض الدول بما في ذلك تركيا والصين إلى حد ما في الأسابيع الأخيرة.
في غضون ذلك، بدأ منظمو الرحلات السياحية الروس في تقديم رحلات تسوق إلى بيلاروس، حيث يمكن للمستهلكين شراء علامات تجارية مثل "زارا" و"نايك" التي تركت السوق الروسية.
وعلى الرغم من صعوبة العثور على السيارات وقطع غيارها على الروس بشكل خاص، فإن باعة القطع المستعملة على وسائل التواصل الاجتماعي يملأون بعض هذه الفجوة ويقدمون قطع غيار أو أجهزة يتم جلبها من كازاخستان وبيلاروس.
وقال أحد الإعلانات في مجموعة Telegram التي تضم ما يقرب من 18000 شخص، "سنطلب ونوفر لك قطعاً جديدة من أوروبا أو كازاخستان، أقراص الفرامل والزيوت ومجموعات القابض لسيارات "أودي" و" بي أم دبليو"، وقطع غيار جديدة للسيارات الأميركية". وأضاف الإعلان "لن نجد كل شيء ولكن يمكننا أن نجد الكثير".
لقد حاول المسؤولون الروس إقناع الجمهور بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وقال سيرجي كيرينكو النائب الأول لرئيس الإدارة الرئاسية في منتدى للشباب الشهر الماضي، إنه مع رحيل الشركات الأجنبية فإن روسيا بحاجة فقط إلى أن تحلم بأحلام كبيرة.
وذكر كيرينكو مشاهير الروس مثل الكاتب أنطون تشيخوف وأول رجل في الفضاء يوري غاغارين "لقد ابتكروا شيئاً جديداً، لم يكونوا خائفين من الحلم ومتابعة حلمهم في الواقع، يعتمد مستقبل بلدنا العظيم على مدى طموحكم".
لا تعمل بالسرعة الكافية
لكن في حين أن العقوبات قد لا تعمل بالسرعة الكافية لإثارة انتفاضة عامة أو لتقييد قدرة روسيا على شن حرب في الأشهر المقبلة، فإن التأثير طويل المدى سيكون ضاراً للغاية بالبلاد، كما يقول الخبراء.
وكتب إيليا ماتفيف أستاذ العلوم السياسية في سانت بطرسبورغ في ورقة بحثية حديثة، "الفجوة التكنولوجية بين روسيا والاقتصادات المتقدمة ستتسع بمرور الوقت".
وأضاف "في غياب التعاون العالمي ومع مغادرة مئات الآلاف من المهنيين المهرة البلاد، فإن التقدم الابتكاري والتكنولوجي في روسيا أمر مستحيل بكل بساطة".
ولا يزال لدى بوتين نقود، لأنه كسب كثيراً من الأموال في الأشهر الأولى من الحرب عندما كانت أسعار النفط مرتفعة والاقتصاد لم ينخفض بعد. وقال غورييف "الآن بدأت العقوبات تؤتي ثمارها، تبدأ في التأثير بشكل كبير".
وجادل الاقتصاديون في جامعة ييل في ورقة بحثية حديثة بأن العقوبات تسبب ألماً هائلاً، وكتبوا "عناوين الأخبار المهزومة التي تجادل بأن الاقتصاد الروسي قد انتعش ليست واقعية ببساطة، فالحقائق هي أن الاقتصاد الروسي بأي مقياس وعلى أي مستوى يترنح، والآن ليس الوقت المناسب للضغط على المكابح".