عند "جهينة الخبر اليقين"، مثل معروف، مثله "في الصيف ضيعت اللبن"، وذات مرة كان عندي الخبر وضيعته في الصيف، عملت سنوات عدة بإدارة الأخبار والشؤون السياسية بالإذاعة والتلفزيون والجرائد، كانت طاولة الأخبار يحيط بها عدد من محرري الأخبار وتدعى "الديسك"، وعند كبير المحررين توجد سلة توضع فيها الأخبار المحررة المقرر نشرها فيقوم محرر مسؤول بإحالتها للمطبعة، كنت تلك الليلة المحرر المسؤول، ومن سوء الحظ مر رئيس التحرير، على غير عادته، على المطبعة عند الفجر، حيث تكون الجريدة قد طبعت، فتصفحها السيد الرئيس فلم يجد خبراً كان بعثه، ملحاً على بروزه في الصفحة الثالثة.
ذلك اليوم ازدحم بالأخبار والمحرر من راجع الخبر، في زحمة الشغل، أراد وضع الخبر في السلة، فسقط منه سهواً خارجها، ومع كثرة الأخبار، كنا في نقاش حامي الوطيس، حول خبر ساخن عاجل، فلم أراجع ما استلمت من أخبار، فضاع الخبر المهم في هذا الزحام، وبات الدرس الأول لي، في معرفة الخبر الضائع.
لكن ازدحام الأخبار، بخاصة عواجلها، زاد خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة، وفي هذه الفترة ثمة خبر مركزي، كالنار في الهشيم، يغطي على بقية الأخبار وقد يزيحها، هذا من جهة، يريح المحررين، ومن جهة أخرى يضيع منهم خبراً مهماً، من أجل سطوة الخبر الأهم، ومن الطبيعي أن المتابعة الدقيقة والحكيمة تتم في حال الاستقرار، ما إن غاب تضيع حقائق عدة، ولا يكون ثمة لحظة للتأمل والتفكر، فتعم الفوضى حيث يسود التملق والادعاء، فلا يكون عند جهينة الخبر اليقين.
استضافت تونس، يومى 27 و28 أغسطس (آب) 2022، القمة الثامنة لندوة طوكيو الدولية حول التنمية في أفريقيا "تيكاد 8"، بمشاركة حوالى خمسة آلاف مشارك، من اليابان ومن القارة الأفريقية، لكن طغت على أجواء افتتاح الندوة أزمة دبلوماسية إقليمية بين تونس والمغرب، على خلفية استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد رئيس جبهة بوليساريو ورئيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية المعلنة من طرف واحد إبراهيم غالي الذي شارك في اجتماعاتها، وقد أعلن المغرب، رداً على ذلك، عدم المشاركة في الندوة، واستدعى سفيره لدى تونس للتشاور بشأن ما اعتبره موقفاً عدائياً من جانب تونس، من جهتها، دعت تونس سفيرها للتشاور وأبدت الخارجية التونسية في بيان، استغرابها الشديد من الموقف المغربي، وما يحمله من تحامل غير مقبول عليها، مؤكدة أن الاتحاد الأفريقي المشارك في تنظيم "تيكاد" هو من استدعى إبراهيم غالي رئيس جبهة بوليساريو ورئيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قبل، أعترف أنني ككثيرين، في قبضة المؤسسات الإعلامية الكبرى، فما أتابع تغمرنا به هذه الوسائل، حول أفريقيا والصين، وبالتالي لم ألتفت مرة لندوة طوكيو الدولية حول التنمية في أفريقيا "تيكاد 8" في دورتها الثامنة. وكانت وسائل إعلام يابانية قد أوضحت أن الندوة بمثابة "رد" طوكيو على الولايات المتحدة وأوروبا، ومنافستها الأبرز الصين التي تعمل بخطى حثيثة، على ترسيخ وجودها في أفريقيا، لا سيما عبر مشاريع بنى تحتية في إطار مبادرتها "الحزام والطريق"، وندوة تونس، نسخة أولى من "تيكاد" منذ تفشي فيروس كورونا، والثانية في أفريقيا بعد أن استضافتها كينيا عام 2016، والندوة أطلقتها طوكيو عام 1993، وتعقد كل ثلاث سنوات، ونسخة تونس عملت على "مناقشة كيفية إنشاء عالم مستدام في السياق المعقد لجائحة "كوفيد"، والوضع في أوكرانيا، واليابان تراهن بـ"تيكاد"، "على تعزيز شراكاتها مع الدول الأفريقية استناداً إلى نقاط قوتها، التي تتمثل في النمو المقترن بالجودة، والتركيز على الإنسان، وفق ما أوردت وزارة خارجيتها في تقديمها الندوة على موقعها الإلكتروني.
"تيكاد 8"، هو الخبر المركزي كلقاء دولي يحدث في تونس المضطربة والهشة ويدور حول أفريقيا المستهدفة دولياً، والقارة المحور لصراع دولي حالي، هذا هو الخبر الضائع في خضم خبر جانبي تناول مسألة عويصة في المغرب العربي، دعوة واستقبال الرئيس التونسي سعيد رئيس جبهة بوليساريو غالي، الخبر الذي تناقلته كل وسائل الاعلام وأفردت له مساحة جيدة، في غمار عواجلها، بعد أن قام البلدان المغرب وتونس بسحب سفيريهما للتشاور، ونتبين من خلال متابعة ردود فعل القطيعة المستجدة، أن الخبر عض الرجل الكلب وليس العكس بطبيعة الأخبار، فالمؤتمر تحول إلى خلفية لخبر جهينة أن تونس انقلبت على المغرب وأضافت مشكلة أخرى إلى سلة مشاكلها.
النتيجة أن الخبر الرئيس تحول لخبر ثانوي، وأن الخبر ما أشعل الحس الشعبوي المغربي والتونسي، فالقياس انقلب، النظرة صارت إلى النتائج السلبية للندوة وليس لإيجابياتها، وتخلق عن مؤتمر دولي صب الزيت على النار في محيط إقليمي، في مغرب عربي يعيش التوتر وتفاقم المشاكل السياسية والاقتصادية، وأختم القول على حالة الإزاحة هذه، بكلمة جيمس دروكمان أستاذ العلوم السياسية من جامعة "نورث وسترن" الأميركية "يمكننا إيصال الحقائق للناس، بل يمكننا حملهم على قبول تلك الحقائق، ومع ذلك فقد لا يغير ذلك شيئاً".