كان الدافع الفني الأول دائماً ينصب على التوثيق. فعندما خربش الإنسان الأول، لأول مرة بصخرة مدببة على جدار كهف في العصر الأوريغاني قبل أكثر من 30,000 سنة، كان ذلك لرسم الحيوانات التي رآها والثورات البركانية التي شهدها. وعندما تطورت أنظمة الكتابة في أمريكا الوسطى القديمة بعد آلاف عدة من السنين، تم توظيفها للاحتفاظ بسجل عمن كان موجوداً في ذلك الزمن وأين. الشيء ذاته ينطبق في الآونة الأخيرة مع قدوم السينما. فمن بين الأفلام الأولى التي تتكون من أكثر من لقطة واحدة وتحكي قصة في تسعينيات القرن التاسع عشر نجد تجسيداً لحياة يسوع المسيح وإعادة انتاج معارك من الحرب اليونانية - التركية.
يبدو منطقياً أن نرغب في الاستفادة من وسائل التعبير الجديدة من أجل خلق صور جديدة للماضي والحاضر. فهذه طريقة لترك أثرنا الصغير في الكون، لنقول، "مرحباً، كنت هنا يوماً وأشياء مهمة حدثت حينئذ". والأمر الأقل وضوحاً هو السبب- وهذا يبدو فريداً بالنسبة للأفلام، بينما ينطبق بشكل أقل بكثير على الفنون البصرية الأخرى أو الكتابة- إذ نميل إلى تضخيم الإعلان عن أعمال السيرة الذاتية وتلك التاريخية على أنها تتوج الإنجازات الإبداعية.
تأملوا ذلك: سبعة من آخر عشر جوائز الأكاديمية لأفضل ممثل ذهبت إلى التجسيد الناجح لشخصيات رجال مشهورين. وفي عام 2008، كان الفائز الممثل شون بن في دور السياسي الأميركي هارفي ميلك في فيلم "Milk". وفي عام 2012 ، كان الفائز باللقب دانييل داي لويس بدور أبراهام لينكولن في فيلم "لينكولن" (فالعناوين التي تحمل أسماء رنانة ومشهورة ومميزة ليست بمحض الصدفة، بل تسعى إلى أن تنال الإحترام منذ البداية). وبين هذين الفائزين، كان لدينا كولين فيرث الذي حصد الجائزة عن دور الملك جورج السادس، بينما رأينا أخيراً ماثيو ماكونهي يحظى بالتكريم لتجسيده دور الناشط في مجال مكافحة مرض الإيدز رون وودروف، كما حصل إيدي ريماين على الجائزة لتأديته دور ستيفن هوكينغ، وحصل ليوناردو دي كابريو على الجائزة أيضاً في دوره كحارس الحدود هيو غلاس، وفي وقت قريب غاري أولدمان بدور وينستون تشرشل.
ناهيك عن تمثيل الشخصيات التاريخية التي يتم ترشيحها ولكنها تفشل في نيل الجوائز (تهزمها عادةً أفلام سير ذاتية أخرى) في نفس العقد الزمني، من أمثال شخصيات: ريتشارد نيكسون، ونيلسون مانديلا، ومارك تسوكربيرغ، وألين تيرنينغ وستيف جوبز. لكننا لا نجد ميلاً مماثلاً من الانحياز تجاه الشخصيات الشهيرة في فئة أفضل ممثلة، ولكن هذا التناقض يعود إلى الطبيعة التاريخية التي يسود فيها الرجل، أكثر من الميل الساحق نحو الشخصيات الخيالية.
وهناك جدل من نوع آخر، عما إذا كانت جوائز الأوسكار- التي تعيش الآن أزمة هوية ذاتية- تعتبر مفيدة ومخلصة كطريقة لتقييم جهود صناعة الأفلام، ولكنها على الأقل لا تشكل بحد ذاتها دليلاً يُهتدى به لما يُعدّ صالحاً أو طالحاً (من وجهة نظر الأكاديمية) في عالم السينما في أي وقت من الأوقات.
وهناك الكثير مما يمكن تحليله والحديث عنه عندما يتعلق الأمر بسيادة أفلام السيرة وبالأفلام التاريخية بشكل أوسع- إذ إننا لأغراضنا هنا سنعتبرهما توأماً. لنبدأ الحديث عن التمثيل، الذي رأينا أنه يظهر تحيزاً كبيراً تجاه هذين النوعين من الافلام من حيث حصوله على الإشادات.
ولكن ما الذي يُعدّ تمثيلاً جيداً؟ ويجيب المخرج ماركوس غيدود على هذا السؤال بالقول إنه "إذا أخبركم أحد أن هناك معايير موضوعية، فذلك هراء. الأمر متعلق بالذوق الشخصي. وهناك ميول شائعة. إذ أحب كثيرون تمثيل فيليب سيمور هوفمان. ولكنك إذا لم تكن من بينهم، لا تكون مخطئاً. في أسوأ الأحوال، تُعدّ مجرد شخص غريب الأطوار".
ربما يصح القول إن محاولة حصر التفوق في المهنة بمعايير معينة تُعتبر طريقاً مسدوداً، ولكن قد نتمكن من لحظ تمييز مفيد هنا، ما بين التمثيل الجيد وتوفره بكثرة، نظراً إلى أن الأدوار الأكثر تمثيلاً عوضاً عن تلك الأفضل تمثيلاً هي التي باتت تنال الأوسمة في الآونة الأخيرة. وقد يبدو هذا وجهة نظر تسد الفراغ، لكن خذ أي شخص حتى بأقل اهتمام بالسينما، فسيخبرك أن هيو غلاس ربما ليس هو الدور الذي كان من المفترض منح ليوناردو دي كابريو جائزة الأوسكار عنه. وأصبح فيلم "The Revenant"، موضوع سخرية لثقافة البوب، حيث إن عويل وتذمر دي كابريو من تهديد وجودي إلى غيره في فيلم "البقاء على قيد الحياة" مرهقة Alejandro G Iñárritu يُقرأ كمسابقة فاضحة للحصول على الجائزة.
إن قوة التمثيل- دون أن نخلط بينها وبين المبالغة - تبدو بكل تأكيد موضة العصر، وهي تأتي في العادة مصاحبة لأفلام السير الذاتية. فالمبالغة اللفظية أو الجسدية، أو التصرفات الغريبة أو نبرة الصوت الفريدة يمكن أن تنتهي على اعتبار أنها تحايل إذا ما ربطت بدور خيالي الكامل، بينما القيام بذلك في تصوير شخص في الحياة الحقيقية فينظر إليه على اعتبار أنه دليل على قيام الممثل فعلياً بتجسيد الدور تماماً. وتصف المراجعات بشكل ساحق ما يوصف بأن الممثل "يفقد شخصيته" في الدور. ويمكن أن يكون من قبيل السخرية أن يُطلق على رسم شخصيات شهيرة واقعية مجرد انطباع أو تجسيد للشخصيات، ولكن من الغريب أن التبرع بالأطراف الصناعية أو شحذ نبرة أو سلوك معين أو مشية يبدو أنه يمثل الكثير للحصول على فرص لجوائز الممثل.
وأطبق هذا على غاس فان سانت، مخرج فيلم Milk، الذي أكمل منذ وقت قريب جداً فيلماً بعنوان "Don’t Worry, He Won’t Get Far on Foot" الذي يلعب فيه جواكين فنيكس دور صانع الشخصيات الكرتونية المقعد جون كالاهان- والذي ربما عرف عنه شهرته ذائعة الصيت أكثر من خلال فيلمه المبني على الخيال بعنوان Good Will Hunting. فهو يقول، "لا أعتقد أن هذا صحيح دائماً [أي أن لدى أوسكار تحيزاً تجاه أفلام السير الذاتية]. أعتقد أن الأدوار الخيالية تفوز مراراً، ولكن ليس في العقد الأخير- ففي بعض الأحيان تكون إثارة الجمهور مغلفة بمدى دقة الأداء في إعادة إنتاج الواقع الفعلي".
إن هذا الافتتان بالسينما الشفافة، ليس فقط بين أوساط الجماهير بل بين الممثلين أيضاً الذين يصوتون لأقرانهم في حفل الأوسكار، قد يأتي على حساب بعض التجسيد البارز لشخصيات خيالية. وربما جاء المثال الأكثر فظاعة في العام الماضي فقط. فقد كان تيموثي شالاميت شخصية لا تنسى في فيلم Call Me By Your Name ، حاضراً تماماً وفي حالة من التعايش الإبداعي مع نجمه المرافق الذي لا يمكن لمعظم الممثلين إلا أن يحلموا به، ليحول إيليو بيرلمان من شخصية في رواية صغيرة غير معروفة نسبياً عام 2007 إلى شخصية سينمائية رومانسية لسنين طويلة.
وسيتم تشريح أدائه والفيلم نفسه من قبل منظري الأفلام وسيؤثرون على صانعي الأفلام المستقبليين لعقود قادمة، ومع ذلك كان دور غاري أولدمان الواثق والمهني عن وينستون تشرشل في فيلم Darkest Hour هو الذي فاز في حفل توزيع جوائز الأوسكار التسعين. ولا يمكن تجاهل هذا كنتيجة لمرشح واحد لكونه جديداً في الفن، في حين أن الآخر كان أحد المحاربين القدامى المحترمين- تذكر، تم ترشيح شخصية أخرى، هي دانييل داي-لويس، للجائزة، لكنه لم يحصل عليها. وبشكل قاطع، قدم دانييل داي-لويس بالنسبة لي- أفضل أداء في عمله أيضاً، ولعب، دور شخصية خيالية هي رينولد وودكوك في فيلم بول توماس أندرسون البراق Phantom Thread.
ومرة أخرى سيكون من الخطأ التأكيد على أهمية الجوائز- إذ سيحظى أداء كل من داي-لويس وتشولميت بالتقدير بغض النظر عن أي شئ آخر- ولكن للأوسكار تأثير قوي على طريقة صياغة الفيلم. وعندما يتعلق الأمر بإجراء مراجعة للمهنة أو الوفيات، فمما لا شك فيه أن هذا الاتجاه يؤدي إلى أن يصبح الممثلون "مشهورين..." بالنسبة للأدوار التي لم يكونوا اشتهروا بها، أو على الأقل لم ينالوا الإعجاب عنها.
وبوضع الجمهور والحماس لهذا المجال في جانب واحد، فهل سينظر الممثلون أنفسهم إلى أدوارهم القائمة على قصص حقيقية على أنها الأدوار الأفضل؟ ألم يكونوا محدودين نوعاً ما بشكل مبدع في ظل أن ظهور الشخصية لم يكن بناء على تقديرهم الخاص أو تقدير المخرج.
قال ماثيو مكوننغهي لصحيفة الاندبندنت: "لقد مررت بتلك التجربة، حيث كانت سيرة ذاتية وشعرت بتلك المسؤولية بشأن التقليد التام لتلك الشخصية لدرجة أنني لم أشعر بالأجنحة- لم أشعر أنني طرت في السابق أبداً.
"لقد قمت بأداء مسؤول، وربما ربطت بين كل النقاط وكنت دقيقاً من الناحية التاريخية، ولكن هل حلّقت روح الرجل فعلاً؟ يظل ذلك أمراً خاضعاً للنقاش".
يمكن لهذه المسؤولية أن تكون عبئاً؛ ولكن بنفس الطريقة، من يمكنه أن يقاوم رفض فرصة معالجة شخصية من الوزن الثقيل؟ هل كان بوسع ناتالي بورتمان أن "ترفض" لعب دور جاكي كندي؟ وأن يرفض أيضاً جامي فوكس دور ري تشارلز؟ وأن ترفض ميريل ستريب دور مارغريت تاتشر في فيلم (المرأة الحديدية)؟
إنه الثقل الدراماتيكي وحالة هذه الشخصيات التي تميز العصر هي التي تشجّع المخرجين على تناولها. وعلى الرغم من أنك قد تكون معجباً بمخطط النص الأصلي الذي كنت تركته على الموقد الخلفي لفترة طويلة جداً، إلا أنه لا يمكنك أن تؤجله لفترة أطول قليلاً لكي تحقق، ربما، الرسم السينمائي النهائي للإنسان الذي قام بتغيير العالم؟ فهناك حاجز الميزانية الضخمة للدخول في أفلام السير الذاتية، وبمجرد أن يحقق المخرج التأثير باستخدام ستوديو ضروري لتحقيق ذلك، فعادةً لا يمر وقت طويل قبل أن يفعل ذلك.
خذ داميين تشازيل مثلاً، الذي حقق نجاحاً باهراً في فيلم قُدرت تكلفته بـ 3 مليون دولار أميركي (2.25 مليون جنيه إسترليني) ويحمل اسم Whiplash، إذ تقرب من هوليوود عن طريق فيلم الحب La La Land، وكان الآن ابتعد كثيراً عن الموسيقى في فيلم First Man، الذي يصور السيرة الذاتية لنيل آرمسترونغ، الذي كان أيضاً أول فيلم رئيسي له لم يكن قد كتبه بنفسه. فهذه الملحمة الفضائية بلا شك ستكون رائعة وناجحة للغاية بيديه الماهرتين، ولكن يبقى أن نرى فيما إذا كانت لهذا الفيلم تلك الشخصية التي ميزت الأفلام السابقة، التي كانت تتضمن الكثير من جوانب نفسيته فيها.
ويقر فان سانت أنه يشعر بالتزام تجاه "الرسم بمسؤولية [للشخصيات التاريخية]. فأنا أحاول عدم التصرف بشكل زائد لأن هؤلاء الأشخاص حقيقيون وموثقون، وهناك العديد من الأشياء التي تتعلق بالشخص الحقيقي التي أريد دراستها، لذا فإنني لا أحتاج في الحقيقة إلى البحث خارج نطاق ما هو موثق وما هو حقيقي.
ويقول لي، "يتعرض التفسير دائماً لمشكلة الوضوع رهينة لموضوعية الآخرين، أي الأشخاص الذين عاشوا القصة أيضاص. ويمكن أن يكون من الصعب قليلاص أن يكون المرء فيما يتعلق بالتفاصيل. فقمة أفلامنا [Milk] كان دائماً يتعلق بـ "بأعظم" ما قام به هارفي، لذا في الوقت الذي قمنا فيه بعمل الفيلم فإن معظم القصص كانت قد استهلكت جداً. وفيما يتعلق بما إذا كنا مصيبين أو غير ذلك بشأن تاريخ هارفي، فقد تم قبوله بشكل أو بآخر كحقيقة في الكتب والأفلام السابقة.
ورغم أنه يمكن أن يكون من الصعب البحث، إلا أن فان سانت لا يرى عملية وضع شخص معروف على الشاشة الكبيرة على أنه أمر مقيد أو بسيط. "أعتقد أن لديك دائماً القدرة على التجريب، حتى لو كان ذلك شخصاً معروفاً جداً. وباستثناء اللحظات الكلاسيكية في حياتهم- التي لا تحتاج فعلاً إلى الخوض في تجربتها- فسيكون هناك فروقات بسيطة في الطريقة التي يمثل فيها الممثل".
إن القصص الحقيقية كتلك الواردة في "Spotlight" أو "12 Years a Slave" تجعل القصص المبتدعة تبدو في أفضل أحوالها مفرطة، وزائدة في أسوأ أحوالها.
ولا يتذكر فان سانت أفلامه التاريخية على اعتبار أنها أكثر أو أقل متعة من غيرها. فيقول "حينما تصنع فيلماً، فمهما كان نوع ذلك الفيلم، فإن كل شيء يصبح حتمياً في تلك اللحظة- من حيث المتعة- ولا يمكنك التمييز بين فيلم وآخر".
وفي تحليل الوضع المهيمن لأفلام السيرة الذاتية والتاريخية في عالم هوليوود، فالحقيقة هي أنه لا يمكن التغاضي عن حقيقة أنها في العادة أفلام "مهمة". فالفيلم المهم، ذلك النوع الذي قيل لنا أنه "يجب على كل شخص أن يشاهده"، يحقق تقدماً على منافسيه بسبب أهميته الثقافية أو السياسية، سواء كان ذلك أمام الكاميرا أو وراءها. وليس ذلك حصرياً بالنسبة لأفلام استندت إلى قصص حقيقية بالطبع، كما أن العديد من الأفلام الخيالية بالكامل كانت قد استفادت من كونها "مهمة" مؤخراً، ولكن النوع التاريخي من هذه الأفلام يتسلل إلى مراتب أعلى في المسرح نتيجة للموضوع الذي تعالجه. فكيف يمكن لعمل من الخيال، مهما كان متقناً، أن يعطى الأولولية بالتفضيل على عدم تغطية الاعتداء الجنسي الجماعي على الأولاد الصغار في الكنيسة الكاثوليكية (2015 Best Picture winner, Spotlight)، وصفاً حارقاً للعار الوطني للعبودية الأمريكية (2013 Best Picture winner, 12 Years a Slave)؟ فقصص حقيقية كهذه تجعل القصص المبتدعة تبدو في أفضل أحوالها مفرطة، وزائدة في أسوأ أحوالها.
© The Independent