تحول مشهد لمسيحيين يؤدون قداساً احتفالياً خرج للعلن من قلب كنيسة اليعقوبية في ريف إدلب شمال سوريا إلى جدل واسع دار بين السوريين معارضة وموالاة بكل مشاربهم المعتدلة منها والمتشددة، في أعقاب إقامة احتفال نوعي داخل كنيسة بقيت مغلقة لعقد من الزمن تحولت منذ إغلاقها ملجأ لإقامة المهجرين شمال غربي البلاد.
"تحرير الشام"... تغيير نهج أم تلميع الصورة؟
بالعشرات ومع من تبقى في ريف المدينة التي تسيطر عليها جبهة "تحرير الشام" (النصرة سابقاً)، أكثر الفصائل المتشددة، احتفل المسيحيون بعيد القديسة آنا، وهذا التطور الجديد يعد نوعياً كون السماح بإقامة الشعائر الدينية المسيحية ظل أمراً محظوراً لعقد من الزمن.
ووصلت بعض الصور التي تناقلتها وسائل التواصل على نطاق ضيق لمصلين يحتفلون بإعادة فتح أبواب كنيسة قريتهم وسط حراسة أمنية مشددة، بخاصة أن الطائفة الأرمينية تحيي ذكرى القديسة آنا الأحد الأخير من أغسطس (آب) كل عام.
أوساط متابعة للشأن المحلي في إدلب تتحدث عن تغيير في نهج أكثر الفصائل المتطرفة تشدداً، بينما يستذكر المحلل السياسي السوري محمد هويدي العمليات الإرهابية التي نفذتها جبهة النصرة بحق المسيحيين، وقتل وتهجير المسلمين من الطائفة العلوية في مرحلة ما، ويضيف أن "جبهة النصرة ارتكبت جرائم طاولت مختلف الطوائف الأخرى واليوم تقدم نفسها داعماً للأقليات وليس لديها أي مشكلة معها، أعتقد أنه يوجد توجيهات للجولاني لتحسين صورة التنظيم، لقد زار المنطقة والتقى المسيحيين والدروز وتخلى عن العمامة واللباس الديني التقليدي وبدا يلبس بدلة أجنبية الصنع، أو كما يطلق عليها (الإفرنجية) هناك توجهات لهذا التنظيم لأن يكون مقبولاً على الصعيد الدولي".
ويوضح المتخصص في الشأن السياسي لـ"اندبندنت عربية"، أنه يرجح "ظهور جهود جديدة لشرعنة هذا التنظيم، ودراسة أن يكون مقبولاً"، ويبرهن "بزيارة المبعوث الأميركي الخاص بالملف السوري جيمس جفيري ووفد أميركي عام 2020 إلى إدلب الواقعة تحت سيطرة تحرير الشام في إشارة إلى إعادة ترتيب أوراق هذا الفصيل".
اليعقوبية والإيمان الثابت
في غضون ذلك، أعادت الصلاة في كنيسة القرية إلى الوجود المسيحي في إدلب زمن الحرب، حيث نبشت الذاكرة مآسي أعوام من الطرد والتهجير والتضييق حالهم كحال المسيحيين في مختلف الأراضي السورية التي عانت سابقاً سيطرة من قبل الجماعات المتشددة، فلم يبق لديهم سوى الهجرة إلى أوروبا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يروي أحد سكان قرية اليعقوبية، طلب حجب هويته، ما كابده أبناء طائفته المسيحية من صعوبة العيش بعد أن تقطعت بهم السبل بالاستمرار والحياة، إذ إنهم تعرضوا للاضطهاد والخطف والأسر والتعذيب وكانت طقوس العبادة تجري في البيوت بشكل غير معلن ووسط إخفاء كل مظاهر الديانة"، ويوضح، "لقد تعرضنا للتهجير والحرمان من المساعدات، وزاد الأمر صعوبة سفر الشباب من أبناء الطائفة إلى الخارج موزعين في أصقاع الأرض، ووحدهم كبار السن فضلوا البقاء وعدم السفر مؤثرين الموت بأرضهم".
في المقابل، يدافع الفريق الموالي لزعيم "جبهة تحرير الشام" الجولاني عن التعاطي الجديد مع المسيحيين بالمنطقة وقالوا إن "الأمر ليس كما يوصف بتغيير مسار الجبهة ونهجها، بل توسيع اندماج بقية الطوائف في المنطقة وعدم اقتصار إدلب على الكيان السني كما كان مخططاً له سابقاً"، معتبرين ذلك الانفتاح "فتح صفحة جديدة" بعد أعوام التهجير والنزوح القسري.
ولعل لقاء الجولاني في يونيو (تموز) الماضي وجهاء من الطائفة المسيحية بثلاث قرى (القنية والجديدة واليعقوبية) بشكل علني هدفه طلب عودتهم إلى قراهم في ريف المدينة، وتشير المعلومات الواردة عن تواصل مساعديه مع عائلات مسيحية هجرت إدلب وعرضوا عليها العودة مقابل إعادة أملاكها والعيش من جديد بكل حرية.
وقرية اليعقوبية تتميز بوجود نسبة كبيرة من المسيحيين الأرمن ويتكلم أبناؤها العربية والأرمينية وتعدد الطوائف من أرمن أرثوذكس وكاثوليك ولاتين كاثوليك.
وكانت قبل الحرب مزاراً سياحياً يقصده السياح من مختلف المدن السورية لما تتميز به من طبيعة خلابة، علاوة على وجود سياحة دينية تتمثل في انتشار مواقع لها قدسيتها مثل كنيسة ومزار القديسة آنا وكنيسة القديسة هربسيميه الأرمينية الأرثوذكسية وكنيسة للأرمن الكاثوليك، وكلها أقفلت أبوابها مع اندلاع شرارة الحرب عام 2011 وسميت بهذا الاسم نسبة ليعقوب البرادعي، صاحب مذهب من مذاهب الديانة المسيحية.
السباق إلى إدلب
إزاء ذلك، يتفق مراقبون للمشهد في شمال غربي سوريا إلى الآن على أن التحول في نهج وسياسة "تحرير الشام" يتعلق بالوقت ذاته بالتقارب بين أنقرة ودمشق، ومسارعة التنظيم إلى إعطاء صورة مغايرة بقدرته على التعايش مع جميع الأديان والطوائف، بخاصة أن الجبهة من الأحزاب المصنفة بالإرهابية، وثمة وإجماع عالمي على محاربتها لكونها تنحدر من فصائل متطرفة كـ"جبهة النصرة" و"القاعدة" وخليط من فصائل متشددة اندمجت في ما بينها وأبرزها جبهة فتح الشام وأنصار الدين وجيش السنة ولواء الحق ونور الدين الزنكي، وانضوت تحت مسمى "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني في يناير (كانون الثاني) عام 2017 وتنتهج سلوكيات تنظيم "القاعدة" ذاتها كونها فرعاً منه.
من جانبه، يرى المحلل السياسي السوري هويدي، "لا توجد رؤية واضحة لمشروع إعادة هيكلة تحرير الشام لكن التقارب بين دمشق وأنقرة لم يضع خطوطاً عريضة لشكل عودة العلاقات ومن أهم شروطها القضاء على الإرهاب"، ويوضح، "تركيا تنظر إلى قسد على أنها تنظيم إرهابي، بينما لا يرى الجيش الوطني المعارض وجبهة النصرة ذلك في حين تراها دمشق تنظيمات إرهابية".
ومع كل ذلك، تعتبر "جبهة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) ما تبقى من أبناء الديانة المسيحية في إدلب ورقة ضغط تلوح بها، ويعيش المسيحيون هواجس المصير المجهول في حال اندلعت الحرب لاسترجاع إدلب من قبضة الجولاني، وهل تكون لديهم رفاهية القرار بالفرار قبل احتجازهم كرهائن من قبل تحرير الشام أم ستصدق كلمة زعيم الهيئة الجولاني بكلمة (الأمان) التي منحهم إياها من دون المساس بهم؟