في الليلة الظلماء التي قسم فيها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والمارشال جوزيف ستالين مناطق النفوذ في أوروبا في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1944 عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت لغة الحوار بينهما "نصف ورقة".
تلك الورقة التي كتب عليها الزعيم البريطاني لنظيره الديكتاتور السوفياتي الذي لا يجيد الإنجليزية "ما رأيك في أن تهيمن روسيا على 90 في المئة من رومانيا، ونسيطر نحن على 90 المئة من اليونان، وأن نتقاسم يوغوسلافيا مناصفة؟".
يقول ونستون تشرشل في مذكراته، "نظر ستالين إلى الورقة وهو يستمع إلى الترجمة، وبعدما فهم تماماً ما يقال توقف قليلاً ثم أخذ قلماً أزرق ووضع علامة صح كبيرة على الورقة وأعادها إلينا". ومن هنا بدأ الاتفاق الذي تغيرت النسب فيه لاحقاً، لكنها وضعت أسس الاستقرار في القارة الأوروبية ليمتد لنصف قرن حتى سقط الاتحاد السوفياتي 1991.
يقول تشرشل حول حوار الورقة المكتوبة "حسمت المسألة برمتها في وقت لا يزيد على الوقت الذي استغرق في كتابتها". كانت تلك لغة حوارية دبلوماسية بين أطراف مختلفة ألسنتها، لكن المترجم بينهما كان قلماً أزرق وورقة بيضاء.
تلك إذاً صورة من صور الدبلوماسية وتفاهماتها، والدبلوماسية التي تمزقت على أطلالها خرائط وأنهار بين إنجليزي وروسي على نصف ورقة، لكنها لم تكن الورقة الأولى التي حددت مصائر الدول.
إذ انتهجت الدول في كثير من الأحيان حل "الورق" قبل البارود والنار، لأن الحرب وأوزارها كما يصفها الكاتب البريطاني الشهير نورمان إنجل في كتابه "الوهم الكبير" الذي نشر عام 1910 أن "لا أحد يخرج منتصراً فيها".
وقد ظلت الكتابة عنواناً دبلوماسياً عريضاً يتعاظم معها الورق بتعاظم إشكالاتها حتى أصبحت الأزمات بين الدول تترجم عبر كتب و"كتب ملونة"، كتب بيضاء وصفراء وأخرى لونت وعنونت بالسواد، ذلك لأنها تروي عصارة حقب سوداء مظلمة.
وإن كان مصير البلقان ورومانيا والمجر وغيرهما قد تحدد عبر نصف ورقة، فإن ثمة كتب مختلفة ألوانها ودرجات الحذر والتأهب فيها قد جاءت لتنذر تارة، وتارة لتدون ما جاء بعد جحيم الديكتاتورية والحرب والاستعمار، ليصبح مفهوم الكتاب الملون رديفاً للبيان السياسي أو المؤتمر الصحافي.
الكتاب الأبيض الصيني
هل أتاك نبأ تايوان حين دعتها الصين لكتابها؟ تلك لغة دبلوماسية كانت عبارة عن كتاب سمته بكين "الكتاب الأبيض"، وهو الأخير من كتب الدبلوماسية الذي لم يجف حبره بعد، وأتى عقب الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، في الثاني من أغسطس (آب) الماضي، تلك الزيارة الأولى لرئيس مجلس النواب منذ عام 1997، وهي التي أثارت غضب بكين وبارجاتها التي راحت تحوم وتنفث غضبها حول الجزيرة الصغيرة الحالمة المغامرة.
تقول الصين غاضبة بعد أن دعت تايوان لكتابها، "إن محاولات تحقيق استقلال تايوان لن تؤدي إلا إلى دفع الجزيرة إلى هاوية الكارثة، وإلحاق أضرار جسيمة بالمواطنين التايوانيين، ولحماية المصالح المشتركة للأمة الصينية بما في ذلك المواطنون التايوانيون، يجب علينا أن نعارض بحزم تقسيم واستقلال تايوان، وتعزيز إعادة التوحيد السلمي للوطن الأم".
ويشدد الكتاب الأبيض الخاص بتايوان على أن "شؤون الصينيين يجب أن يقررها الصينيون أنفسهم، وأن قضية تايوان شأن داخلي لجمهورية الصين الشعبية، ما يؤثر في مصالح الصين والمشاعر الوطنية للشعب الصيني"، وحل القضية "لا يحتمل أي تدخل خارجي" وفق الكتاب الأبيض.
وأفاد الكتاب الذي جاء تبياناً لمآلين لا ثالث لهما السلم أو الحرب، بأنه "لا يجب على أحد أن يستخف بالعزيمة القوية والإرادة الراسخة وقدرة الشعب الصيني الكبيرة على حماية سيادة الدولة وسلامة أراضيها. نحن مستعدون لمواصلة السعي بصدق وبذل الجهود من أجل إعادة التوحيد السلمي، لكننا لا نعد بالتخلي عن استخدام القوة والاحتفاظ بإمكانية قبول جميع الإجراءات الضرورية".
الكتب البيضاء الإنجليزية
تلك لغة الكتاب الصيني الأبيض، وللإنجليز كتب بيضاء أيضاً، وهي الكتب التي دأبت الحكومة البريطانية على إصدارها وفيها تبيان محدد لسياستها إزاء قضية معينة، ففي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1914 أصدر البريطانيون كتاباً أطلقوا عليه "الكتاب الأبيض"، يتضمن المراسلات الرسمية البريطانية والعثمانية قبل وقوع الحرب بين الحلفاء وإمبراطورية الأناضول في الحرب العالمية الأولى، كانت مراسلات ومعاهدات جمعت في كتاب أبيض.
وفي كتاب آخر أبيض صدر سنة 1939 عن الحكومة البريطانية، قالت فيه إنه عبارة عن وثيقة سياسية تأتي رداً على "ثورة فلسطين 1936"، وهو الذي صدر بعد الموافقة الرسمية في مجلس العموم في الـ23 من مايو (أيار) 1939، وكانت الوثيقة قد اعتبرت سياسة حكم لفلسطين الانتدابية من عام 1939 إلى رحيل بريطانيا عام 1948.
لكن الوثيقة التي تمت صياغتها للمرة الأولى في مارس (أذار) 1939 من جانب واحد، أي الحكومة البريطانية، كانت نتيجة فشل مؤتمر لندن (1939)، ودعت الوثيقة إلى "إقامة وطن قومي لليهود في دولة فلسطينية مستقلة في غضون 10 سنوات"، رافضة فكرة لجنة بيل بتقسيم فلسطين.
الكتاب الأخضر النجدي
وفي إطار الكتب الملونة ودبلوماسيتها، ثمة كتاب خرج من رحم دبلوماسية الصحراء، "الكتاب الأخضر النجدي" الذي صدر باسم "سلطان نجد"عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود (مؤسس الدولة السعودية الحديثة وأول ملوكها)، وكان عبارة عن كتاب تاريخي يتحدث عن المراسلات بين الملك عبدالعزيز والسلطات البريطانية، حول مخرجات "مؤتمر العقير" الذي تم في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) عام 1922، وكان هذا المؤتمر من المؤتمرات المهمة التي رسمت الحدود البرية، بين سلطنة نجد (السعودية في ما بعد) من جهة، والعراق والكويت من جهة أخرى. وهو كتاب نادر نشر بأمر الملك (السلطان في حينها) يتضمن تاريخ البرقيات والرسائل التي وقعت في الفترة الزمنية من الـ19 من سبتمبر 1923 إلى الـ21 من فبراير (شباط) من عام 1924 ميلادية، لتبيان موقفه بعد تأزم المفاوضات بينه وبينه الأطراف الأخرى.
وضمن رسائله، في جواب سلطنة نجد على مقترحات للكولونيل نوكس ممثل السلطات البريطانية، "صديقي العزيز أخذت بيد السرور كتابكم المؤرخ في الـ24 من يوليو (تموز)، المتعلق بالمسائل المتفق عليها مبدئياً والمختلف عليها بيننا وبين العراق، إني قبلت الاشتراك في المؤتمر العربي بكل ارتياح لأني أحب الصفاء والسكون أن يسود بيني وبين جيراني، ليتفرغ كل فريق لمهماته الداخلية ولحقن الدماء التي تراق من وقت لآخر بلا سبب جوهري موجب لذلك، وإني قدمت لمندوبي قبل سفرهم النصائح الكافية في هذا السبيل، وأن نفسي لتتوق إلى قرب الوقت الذي يجب أن يحس الجميع بحقوق الجوار".
ويواصل الملك العربي في رسالته "إن المسألة الأساسية في نظري هي مسألة العشائر المجرمة الملتجئة وهي حيوية بالنسبة إلى نجد، ولم نجد في ما قدم إلينا من الاقتراحات الحل الذي يقطع دابر الفساد"، ويواصل في الرسالة "إني لأعجب من أن حكومة متمدنة مثل الحكومة العراقية تقبل أن تصبح مأوى وملاذاً للأشقياء وقطاع الطرق".
ونشر الكاتب والمؤرخ السعودي محمد آل زلفة مراجعة للكتاب النجدي، قائلاً "عقب مؤتمر العقير في الكويت الذي كان الغرض منه وضع الحدود بشكل ثابت ومحدد مع تلك الأطراف وخاصة العراق والأردن، ولكن لم ينته المؤتمر إلى شيء بسبب مواقف الأطراف الممثلة للعراق والأردن وموقف الشريف الحسين شريف مكة، أو ما أصبح يطلق عليه حينذاك ملك الحجاز"، مضيفاً "نشر الملك عبدالعزيز في أعقاب فشل مؤتمر الكويت كتاباً أطلق عليه اسم (الكتاب الأخضر النجدي) يوضح فيه موقفه بشكل جلي، ويدحض فيه أقاويل المتقولين الذي يريدون أن يحملوا عبدالعزيز فشل ذلك المؤتمر، ويعد هذا الكتاب وثيقة مهمة لدارسي التاريخ والسياسة، وهذا الكتاب يعد في عداد الكتب النادرة مع أهميته وحق الأجيال الاطلاع عليه وما كان يميز الملك عبدالعزيز الوضوح والشفافية في توضيح مواقفه بشكل لا لبس فيه للرأي العام العربي والدولي".
كتاب القذافي الأخضر
ثمة "كتاب أخضر" رسم من خلاله الرئيس الليبي السابق معمر القذافي سياسته، وسطر خلاله رؤية فلسفية للحكم الذي تسنمه لعقود أربعة.
وصدر الكتاب الذي ترجم للغات عدة عام 1975، وفيه يعرض أفكاره حول أنظمة الحكم وتعليقاته حول التجارب الإنسانية والاشتراكية والحرية والديمقراطية، ويعتبر هذا الكتاب أساس النظام الجماهيري الذي ابتدعه القذافي الذي راح ضحية ثورات "الربيع العربي 2011"، ولم يغنه كتابه الأخضر من هدير الطرابلسيين شيئاً.
وينقسم الكتاب الأخضر إلى ثلاثة فصول، فصل يتناول "حل مشكلة الديمقراطية (سلطة الشعب) وأداة الحكم والمجالس النيابية والحزب والطبقة والاستفتاء والمؤتمرات الشعبية ومن يراقب سير المجتمع والصحافة".
وفصل يتناول حل المشكل الاقتصادي (الاشتراكية)، والفصل الثالث والأخير يتناول "الركن الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة"، وفيه مواضيع حول "الأسرة والمرأة والأقليات والسود والتعليم والألحان والفنون والرياضة والفروسية والعروض".
الكتاب الأسود
وفي الجوار غير بعيد، في تونس المحاذية لسواحل البحر المتوسط شمال أفريقيا، خرجت البلاد عقب ثورة ألقت بظلالها على حاكمها الراحل زين العابدين بن علي بكتاب "أسود"، صادر عن إدارة الإعلام والتواصل برئاسة الجمهورية التونسية، وتحت إشراف المنصف المرزوقي الذي كان رئيس الجمهورية، وذلك في أواخر نوفمبر عام 2013، تحت عنوان "منظومة الدعاية تحت حكم ابن علي - الكتاب الأسود".
وجاء الكتاب بغلاف أسود في إشارة إلى "الحقبة القمعية التي كانت تعيشها البلاد في ظل حكم زين العابدين بن علي، وفيه يفتح الرئيس السابق والمعارض السابق لنظام بن علي، أرشيف وحقائق في مجال الإعلام، وكذلك نوعية الإعلاميين الذين تعاملوا مع الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي من التونسيين والأجانب والانحراف عن مهنية وأهداف الصحافة في تصوير الوقائع والحقائق لا في تزويرها"، بحسب الجمهورية التونسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وواجه الكتاب الأسود والمرزوقي انتقادات كبيرة من جهات مختلفة في المجتمع التونسي، وقد اتهمت الأصوات المعارضة الرئيس بالانشغال بالتأليف عن القضايا الرئيسة للمجتمع التونسي المتمثلة في محاربة الفساد والفقر وتحديات التنمية، أو السعي إلى تصفية حسابات سابقة في ظل طموح العهد الديمقراطي الجديد.
إلا أن الرئيس المرزوقي آنذاك نفى كل تلك الاتهامات، مصرحاً أن الكتاب هو بمثابة وثيقة متعلقة بأرشيف الدولة التونسية.
الكتاب الأسود في العهد الأسود
لكن أبعد من ذلك، في عهد الملك فاروق في مصر تسبب كتاب أسود أيضاً في نفي مكرم عبيد باشا بعد تأليفه لكتاب "الكتاب الأسود في العهد الأسود"، وهو كتاب يتضمن "فضائح حزب الوفد" الذي ترأس الحكومة المصرية عام 1943، وكانت قد أثارت الصحف ما تضمنه "الكتاب الأسود" من فضائح لرئيس الحكومة مصطفى النحاس وطاقم حكومته، حينها غضب الملك فاروق من ذلك، وطالبت المعارضة الملك بمحاسبة رئيس الوزراء مصطفى النحاس.
وهدد الملك بسبب الكتاب بإقالة الحكومة لكن السفير البريطاني آنذاك رفض، وأوعز النحاس لأعضاء حزبه بمجلس الشيوخ تقديم أسئلة برلمانية له عما تضمنه الكتاب الأسود، وقام النحاس من خلال البرلمان بالرد على الاتهامات التي ساقها عبيد في كتابه.
وأتى تأليف الكتاب الفضائحي بعد فصل عبيد من حزب الوفد ليذكر فيه الفساد الذي كان يسيطر على الوزارة الوفدية، وجسد فيه مكرم باشا الاختلاسات التي كانت في الوزارة الوفدية وانتشار الرشوة والمحسوبية فسمى عصر وزارة الوفد بالعصر الأسود.
كانت هذه دبلوماسية تداعت لها الرسائل والأغلفة الملونة، وهي التي تسبق تارة زحف المدرعات نحو الحدود، وتارة تأتي بعد أن تضع الحرب أوزارها، لكنها تظل شكلاً أدبياً يخلد ما دار على الجغرافيا في أرفف عتاقة التاريخ.
وعلى رغم هذا تظل لكل أمة دبلوماسيتها وطريقة إدارتها لشعرة علاقاتها بدءاً من الورق إلى البارود.