ارتفاع درجة حرارة الهواء وأمطار موسمية monsoon غزيرة بشكل غير اعتيادي وذوبان الأنهار الجليدية وسكان واقعون في براثن الفقر فيما تعجز البنية التحتية حيث يعيشون عن حمايتهم من غدر الطبيعة، عوامل كثيرة تعزى إليها الفيضانات المدمرة الأخيرة التي غمرت باكستان، بيد أن أزمة المناخ تبقى لا ريب السبب الأكثر أهمية.
لطالما كانت بلاد منطقة جنوب آسيا ضحية مناخ عدائي ولكنه أصبح العام الحالي واحداً من أسوأ المناخات التي تواجهها المنطقة.
أولاً، تعرضت الهند وباكستان لموجة حر لم يسبق لها مثيل، ازداد احتمال حدوثها 30 مرة بسبب أزمة المناخ، والآن، تسببت دورات متعددة من الأمطار الغزيرة التي تتساقط فوق المنطقة منذ يونيو (حزيران) الماضي في حدوث فيضانات كارثية، تاركة ثلث باكستان تحت الماء.
وقتل ما يربو على 1191 شخصاً من بينهم 399 طفلاً حتى الآن، بينما لحقت الأضرار بـ33 مليون شخص أو 15 في المئة من سكان البلاد البالغ عددهم 220 مليون نسمة.
"أمطار موسمية متوحشة" و"أمطار موسمية هائلة" توصيفان اثنان ضمن توصيفات كثيرة مستخدمة في الإشارة إلى هطول الأمطار الذي دمر أيضاً بنغلادش والهند المجاورتين العام الحالي.
واللافت أن المنطقة بأسرها مسؤولة عن مستوى ضئيل فقط من انبعاثات الكربون [أحد الأسباب الرئيسة لأزمة المناخ]، إذ تنتج باكستان وبنغلادش مثلاً أقل من 1 في المئة من البصمة الكربونية، غير أنها تبقى "بؤرة لأزمة المناخ" [منطقة حيث يتبلور تأثر المناخ بالاحتباس الحراري بشكل صارخ]، كما أوضح أخيراً الأمين العام لـ"الأمم المتحدة" أنطونيو غوتيريش وكما ورد سابقاً في تقارير أصدرتها "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" (IPCC).
وفق التقديرات الأولية، تبلغ الأضرار الناجمة عن فيضانات باكستان أكثر من 10 مليارات دولار (8.6 مليار جنيه استرليني).
وقالت وزيرة التغير المناخي الباكستانية شيري رحمن إن بلادها "لم تشهد قط دورة متواصلة من [الأمطار] الموسمية monsoon على هذه الشاكلة. ثمانية أسابيع من السيول المتواصلة تركت مساحات شاسعة من البلاد تحت الماء. إنه طوفان يطوق البلاد من الجهات كافة"، وفق توصيفها.
يوضح خبراء أن هذه الظواهر المناخية المتطرفة تعزى بشكل شبه مؤكد إلى أزمة المناخ ولكن وراء الحجم الهائل للدمار عوامل عدة أيضاً.
تغير نمط هطول الأمطار
شهدت باكستان معدلات أمطار تفوق بنحو 190 في المئة متوسط 30 عاماً في الربع السنوي من يونيو إلى أغسطس (آب) من العام الحالي، بإجمالي390.7 مليمتراً (15.38 إنش). كان يوليو (تموز) الشهر الذي شهد أطول هطول للأمطار في المنطقة منذ عام 1961.
إقليم السند الذي يبلغ عدد سكانه 50 مليون نسمة كان الأكثر تضرراً مع تسجيله زيادة في هطول الأمطار بنسبة 466 في المئة عن متوسط 30 عاماً. تفيض أنهار رئيسة مثل نهر "السند"، واستحالت المناطق المنخفضة حوله مستنقعات.
وتظهر صور التقطتها أقمار اصطناعية أن بعض أجزاء الإقليم تبدو كما لو أنها بحر داخلي، إذ غمرتها المياه ولم تترك سوى بقع قليلة من الأشجار أو الطرق المرتفعة مرئية.
والحال أن التغيرات في أنماط هطول الأمطار كانت متوقعة نظراً إلى الارتفاع في درجة الحرارة الذي قاسته المنطقة، ذلك أن الهواء الأكثر دفئاً يحتفظ بنسبة أكبر من الرطوبة.
القرن الماضي، ارتفعت درجة حرارة الهواء السطحي في مختلف أنحاء آسيا، مما أفضى إلى موجات حر أقوى وأكثر تكراراً وأطول. في غمرة موجة الحر القاتلة في أبريل (نيسان) ومايو (أيار) من العام الحالي، شهدت الهند وباكستان كلتاهما درجات حرارة حطمت أرقامهما القياسية المسجلة سابقاً.
مع ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض، من المرجح أن تصبح هذه الحوادث المناخية أكثر شيوعاً في الأعوام المقبلة. من المحتمل جداً أن تكون أزمة المناخ أدت دوراً في نشوب هذه الفيضانات، وفق الدكتورة فريدريكا أوتو عالمة في المناخ تشارك في قيادة مبادرة "وورلد ويذر أتريبيوشن" [إسناد المناخ العالمي] World Weather Attribution (WWA)، علماً أنها عبارة عن جهد دولي يعنى بتحليل التأثير المحتمل للاحترار العالمي في حوادث الطقس الشديدة القسوة والإبلاغ عنه.
وذكرت الدكتورة أوتو في تصريح إلى "اندبندنت" أن "عمليات الرصد عبر التاريخ كشفت عن زيادة حديثة في هطول الأمطار الغزيرة يقابلها انخفاض في هطول الأمطار المعتدلة في منطقة الرياح الموسمية في جنوب آسيا. وفي توقعات النماذج الحاسوبية الافتراضية، ستصبح فترات هطول الأمطار الغزيرة هذه أكثر تكراراً، لذا نتوقع بالتأكيد أن نشهد مزيداً من هذه الحوادث المناخية في الأعوام المقبلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن خبراء في الأرصاد الجوية يشيرون إلى مخاوف بشأن التغيرات في مسار الظواهر المناخية الموسمية في أنحاء المنطقة كافة أيضاً، موضحين أن أزمة المناخ مسؤولة عن ذلك وفق تحليل أجرته مؤسسة "اتجاهات المناخ" Climate Trends في دلهي الهندية.
أحد هؤلاء ماهيش بالاوات نائب رئيس قسم "الأرصاد الجوية وتغير المناخ" في خدمة الأرصاد الجوية الخاصة "سكايمت" Skymet المتخصصة في التوقعات المناخية ومقرها دلهي، أشار إلى وجود اتجاه غير مألوف في نمط الأمطار الموسمية بالمنطقة، ما أسهم في تفاقم هطول الأمطار في باكستان، علماً أن هذا الاتجاه المناخي بات واضحاً أكثر على مدى الأعوام الخمسة الماضية.
ولفت إلى أن نظام الطقس شهد خلال هذه الفترة اتجاهات غير طبيعية تسمى "منخفضات الموسمية". والأخيرة دوامات في الغلاف الجوي للأرض تنتج جزءاً كبيراً من الأمطار في جنوب آسيا إضافة إلى كثير من حوادث هطول الأمطار الشديدة.
وقال بالاوات "إن المنخفضين المتعاقبين [للأمطار] الموسمية (نظام ضغط منخفض في الأمطار الموسمية) سافرا مباشرة من خليج البنغال عبر وسط الهند إلى جنوب السند وإقليم بلوشستان في باكستان. إنه حدث نادر، عادة لا نشهد الظواهر المناخية تسير في مثل هذا الاتجاه".
بينما كانت الرياح الشرقية تدفع هذه الظواهر المناخية نحو باكستان، كانت الرياح الغربية تقترب من المنطقة من بحر العرب.
وأوضح عالم الأرصاد أن تقارب هذه الكتل الهوائية المتعاكسة حاصر الظاهرة المناخية فوق منطقة السند وبلوشستان لفترة زمنية طويلة، فكانت النتيجة هطول أمطار غزيرة.
ولما كانت المنطقة قاحلة والسمات الجغرافية للكتلة الأرضية تحول دون امتصاصها على نحو سريع كميات كبيرة من المياه، تسببت بحدوث فيضانات مفاجئة.
وأضاف بالاوات أن هذه الظاهرة "يمكن أن تعزى جيداً إلى تغير المناخ الذي غير مسار أنظمة المناخ الموسمية، ونراها الآن تسافر في اتجاه الغرب أكثر عبر الأجزاء الوسطى من الهند".
بدورها، درجات حرارة سطح البحر الأعلى من المتوسط فوق المحيط الهندي التي تعمل على تعديل الطقس الإقليمي والمناخ فوق شبه القارة الهندية، تؤدي إلى مزيد من التبخر، مما يقود إلى رطوبة وأمطار إضافية.
دور ذوبان الأنهار الجليدية
كذلك أدى ذوبان الأنهر الجليدية في جبال الهيمالايا على المدى الطويل الذي سبق أن تفاقم بسبب موجة الحر القياسية التي ضربت المنطقة العام الحالي، إلى زيادة حدة الفيضانات المفاجئة في باكستان مع تدفق مزيد من المياه على المنحدرات طوال الصيف لتنضم إلى الفيضانات.
معروف أن باكستان تحتضن ما يزيد على سبعة آلاف و200 نهر جليدي، أي أكثر من أي مكان آخر خارج القطبين. وتشكل هذه المساحات الجليدية مصدراً للأنهار التي تمثل نحو 75 في المئة من إمدادات المياه المخزنة في البلاد.
كذلك يعتبر ذوبان الأنهار الجليدية تأثيراً آخر لارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. قال باحثون إنه مع انخفاض تساقط الثلوج وصعود درجات الحرارة في الصيف بسبب تغير المناخ، نجد أن الأنهار الجليدية غير قادرة على استعادة الكتلة التي فقدتها، من ثم أخذت تتقلص.
وجدت دراسة أجريت عام 2021 أن جبال الهيمالايا، إحدى السلاسل الجبلية الرئيسة في البلاد، تفقد جليدها أسرع بـ10 مرات أقله مما كانت عليه في المتوسط على مدى القرون الماضية.
قالت وزيرة شؤون المناخ رحمن لوكالة "أسوشييتد برس" في وقت سابق من الأسبوع الحالي إن "لدينا أكبر عدد من الأنهار الجليدية خارج المنطقة القطبية، ويطرح هذا الواقع تأثيره فينا. بدلاً من الإبقاء عليها سامية عظيمة وحفظها من أجل الأجيال المقبلة والطبيعة، نتركها تذوب أمام أعيننا".
ويزيد طين هذه المشكلة بلة تفشي اجتثاث الغابات الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنمية العشوائية في دول الجنوب [الدول الفقيرة على الكرة الأرضية]. كان على البلدان ذات الموارد المحدودة إعطاء الأولوية للتنمية والتخفيف من حدة الفقر، وكان ذلك أحياناً على حساب الضرر البيئي.
ولكن مع ذلك فإن هذه الكوارث المناخية تحمل العالم على إعادة التفكير في هذه الأمور. تتخذ البلدان النامية مضطرة قرارات صارمة من أجل إعطاء الأولوية إلى العمل المناخي والقدرة على الصمود حتى في ظل العقبات الخطيرة التي يفرضها الافتقار إلى البنية التحتية المناسبة المقاومة للمناخ.
الحاجة إلى تمويل أنشطة مكافحة تغير المناخ
يعتقد الخبراء أن التغيرات التي أحدثتها أزمة المناخ وجدت لتبقى وأنها ستدفع الحوادث المناخية المتطرفة فوق منطقة جنوب آسيا برمتها على الرغم من مساهمتها المحدودة في هذه المشكلة.
بينما يتحدث العالم عن التخفيف من وطأة تأثير أزمة المناخ والتكيف مع التغيرات، تبقى الحقيقة المؤسفة أنه من المحال التكيف مع الحوادث المناخية المتطرفة التي ستؤدي إلى خسائر في الأرواح والممتلكات وترسم تحديات طويلة الأجل.
قال مدير البحوث في "معهد بهارتي للسياسة العامة" والباحث الرئيس لدى "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" الدكتور أنجال براكاش "خلال الأشهر الستة الماضية، أعلنت منطقة جنوب آسيا بأكملها عن تعرضها لسلسلة من الظواهر الجوية المتطرفة. بينما تكافح بنغلادش وباكستان والهند فيضانات شديدة، تعاني الصين أحوال جفاف هائل وواسع النطاق. إننا إزاء بدايات كبرى لتغير المناخ".
وأضاف "لا نعرف أبداً متى ستفاجئنا الحوادث المناخية على حين غرة بغض النظر عما نفعله. لن نتمكن أبداً من النجاح بشكل تام. الحل الوحيد بالنسبة إلينا عمليات الإنقاذ ولكن تحقيق ذلك يلزمه المال".
كذلك أدى ضعف تطوير البنية التحتية في المنطقة دوراً رئيساً في حجم الضرر.
كانت غالبية المنازل التي لحق بها الدمار في باكستان موجودة في مناطق منخفضة جغرافياً. عانت أفغانستان دماراً مهولاً في خضم هذه الرياح الموسمية أيضاً، إذ دمرت مئات المنازل لأن الفقراء كانوا يسكنون منازل مبنية من طين وحجارة.
وأوضح أوروب غانغولي، بروفيسور في الهندسة المدنية والبيئية في "جامعة نورث إيسترن" أنه حتى البنية التحتية الحكومية كالسدود والخزانات كانت "غير مهيأة إلى حد يرثى له" في باكستان.
في حديث إلى "اندبندنت" قال غانغولي إن "أخطار الطقس والكوارث المائية، مثل الفيضانات، لا تتحول عادة إلى كوارث إلا في حال وجود نقاط ضعف تشوب البنية التحتية وتعرض مجتمعي للأخطار. ينطبق هذا على جنوب آسيا... كما الحال في الولايات المتحدة، حيث تسبب إعصار ’كاترينا‘ بحدوث فيضانات في نيو أورلينز عام 2005، أو في الواقع بأي مكان في العالم."
واعتبر أن "العمل على جعل البنية التحتية التي تشكل شريان الحياة في البلاد، مثل النقل وتوزيع المياه والطاقة وشبكات الاتصالات"، أكثر قوة ومرونة يخفف من وقع هذه الحوادث المناخية.
ولكن بناء القدرة على الصمود يتطلب المال أيضاً.
في الواقع، يكابد الاقتصاد الباكستاني صعوبات جمة أصلاً وفاقمت الفيضانات الأخيرة هذه التحديات. بلغ تضخم أسعار المواد الغذائية مستوى مرتفعاً، ومن المتوقع صعود الأسعار أكثر بعدما واجهت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الحرارة الشديدة أو الفيضانات، حتى إن الدولة الباكستانية تفكر في شراء الخضراوات من منافستها الهند.
ولكن باكستان ليست وحيدة في قلب هذه العاصفة من التحديات، بل تنطبق على معظم دول الجنوب، لذا فإن مسألة تمويل مكافحة تغير المناخ، علماً أنها شكل من أشكال التعويضات التي تقدمها الدول الغنية إلى نظيرتها الفقيرة عن الأضرار التي سبق أن لحقت بالمناخ، تعتبر ضرورة ملحة قبل انعقاد قمة المناخ "كوب 27" المقبلة. لكن الدول الغنية لم تف بتعهداتها حتى الآن.
وقال الدكتور براكاش "تستدعي كل هذه الحوادث تحقيق العدالة المناخية، لأن تغير المناخ لم يكن من صنع شعوب دول جنوب آسيا. بعض هذه الدول إما محايدة لانبعاثات الكربون أو سالبة للكربون [بمعنى أنها تأخذ من غازات الاحتباس الحراري أكثر مما تبعث]".
وأوضح "تبلغ بصمتنا الكربونية 1.9 طن وتشكل واحدة من أدنى المستويات بالمقارنة مع المتوسط العالمي البالغ أربعة أطنان. على دول جنوب آسيا أن تجد جهات مرجعية منسقة وتثير ضجة مناخية من أجل الأموال ولكن هذا لا يحدث الآن".
© The Independent