"شقراء" لأندرو دومينيك يعود إلى "سيرة" الممثّلة الأميركية مارلين مونرو ليروي الفرق بين صورتها أمام العالم، وصورتها عن نفسها. من طفولتها المعذّبة عندما كانت نورما جين، إلى وصولها ذروة المجد في الخمسينيات، عبوراً بالهاجسين اللذين طبعا حياتها، وهما البحث عن والدها الذي لم تلتقه البتة ومحاولة الإنجاب. بعيداً من الغلامور والصور البراقة على أغلفة مجلات الموضة، يبحث الفيلم الذي عُرض أمس في مهرجان البندقية السينمائي بعد طول انتظار، عن شيء آخر في سيرة أيقونة الجمال، حاملاً إلينا، إلى المقلب الآخر من الشهرة والنجاج في أميركا الخمسينيات. ورغم أن العديد من الأفلام أنجز عن هذه المرأة الاستثنائية، فـ"شقراء" سيلقي بها في النسيان، ليصبح فيلماً مرجعياً عنها، لشدّة جماله وقدرته على الاقناع والمثول في الذاكرة.
هذا كله، رغم أن الفيلم مقتبس من رواية "شقراء" (700 صفحة) للروائية الكبيرة جويس كارول أوتس التي صدرت في العام 2000، واستندت فيها الكاتبة إلى الخيال لا إلى الوقائع، وسبق أن وجدت طريقها إلى التلفزيون من خلال مسلسل قصير. فكلّ ما سنراه في "شقراء" من تفاصيل عن حياة مارلين ينتمي إلى عالم الرواية والخيال، ولا يمت إلى السيرة الفعلية بصلة. أوتس جعلت من ماريلين بطلة (وضحية) روايتها وتخيلت حياتها بناءً على ما نعرفه عنها.
حياة صعبة
الدخول إلى الصالة لمشاهدة الفيلم الذي أنجزه المخرج الأوسترالي المقل جداً أندرو دومينيك (يعود إلى الإخراج بعد عشر سنوات غياباً)، كنت قد سألتُ نفسي لمَ 166 دقيقة لعرض حياة ممثّلة؟ ما الذي يستدعي هذه المدة في دورة حافلة بأفلام طويلة بلا غاية؟ الا ان الدقائق الـ166 تبخّرت في الأجواء، ولم أرَ نفسي إلا أمام مشهد الختام. مسك دومينيك بأضلاعنا طوال كلّ هذه المدة، حدّ أننا صعب علينا أن نشيح نظرنا عن الشاشة ولو لثانية واحدة. لكن لستُ أكيداً أن مَن سيشاهده على شاشة في منزله، سيتعاطى مع الفيلم بالطريقة عينها. فالفيلم هو من إنتاج منصّة نتفليكس وسيعود اليها بعد المهرجان، بدءاً من الثامن والعشرين من سبتمبر(أيلول)، مع الاكتفاء بعرضه في بضع قاعات داخل أميركا، كي يصبح مؤهلاً لترشيحه للأوسكار. لعلها سابقة أن يتحدّث فيلم عن السينما ولا يُعرض فيها.
مارلين مونرو عاشت حياةً صعبة ومعقّدة وتعيسة جداً. ولهذا السبب لا تزال تُنجز الأفلام عنها بعد 60 سنة على رحيلها، بجرعة أدوية زائدة وهي في عمر السادسة والثلاثين، بعد شقاء وعذابات نفسية واستغلال تعرضت لها. نهتم بها لأن موضوع التعاسة في الحياة عابر للأزمنة. ثم إن سيرتها محل تأويلات متعددة، ومن خلال مأساتها يُمكن تناول جوانب أخرى في الفن والاجتماع والسياسة، مثل إحساس المرأة أنها، مهما اشتهرت، تبقى ناقصة اذا لم تنجب، أو أن كلّ شيء يتكّون عند الإنسان في الطفولة. ومهما حاولنا أن نغيّر المسار بعد ذلك، فسيكون صعباً لا بل مستحيلاً في بعض الظروف. الفيلم يناقش هذه المواضيع من خلال فصول من حياة النجمة التي يكمن جزء من أهميتها، في أنها يوثّق أمراض المجتمع الأميركي في الحقبة التي عاشت فيها واشتهرت.
استغلال الجميع لها
سيرتها تراجيدية إلى حدّ كبير، لأن كلّ مَن التقتهم أو صادفتهم تقريباً على طريقها، استغلّوها وعاملوها بسوء. بدءاً من أمّها المدمنة على الكحول التي حاولت قتلها وهي في الثالثة من العمر، معتبرةً أن هذا المولود غير المرغوب فيه، كان سبباً لترك حبيبها (أي والد ماريلين) لها. لكن كان لمارلين عدو آخر أيضاً: مصنع الأحلام هوليوود. بحسب الفيلم، أن هوليوود هي التي قتلتها، هي التي صنعتها وهي من قضت عليها. ولكون الفيلم من نسج الخيال، فهذا يبقى مجرد وجهة نظر، نوافق عليها أو لا.
هوليوود بالنحو الذي يصوّره الفيلم، شريرة، لا ترحم، استغلالية، ظالمة، ومرتع للذكورية ولكراهية النساء. وهذا ينسجم مع نظرة كاتبة الرواية عن بلادها في تلك الحقبة. كلّ مشاهد الحشود الجميلة بصرياً التي ينقلها الفيلم ترينا رجالاً يتهافتون بوحشية وظمأ جنسي، لمشاهدة ماريلين، وهوليوود كانت تمنحهم ما يريدونه من جنس من خلالها. لعل التعاسة التي عاشتها مارلين أتت من الهوة التي بدأت تتعمّق بين ما تريده منها هوليوود وما تريده هي. فكلما زاد استغلال مشغّليها لها واستمرارهم في تكريسها جسداً للترفيه، ازدادت حاجة ماريلين إلى الروحانيات والحبّ الذي استحال عليها إيجاده، حتى عندما عاملها الشريك جيداً كما كانت الحال مع آرثر ميللر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورغم المآسي الشخصية المتواصلة، ورغم أن والداها لم يرغبا فيها، كانت مارلين محط أنظار العالم كله، ووقع ملايين تحت سحرها وإطلالاتها الأيقونية التي لا تزال إلى اليوم تزين جدراننا. هذه هي المفارقة التي يحاول الفيلم النظر في تفاصيلها، بالكثير من القسوة والفجاجة أحياناً، فيتحوّل "شقراء" من فيلم عن مارلين إلى فيلم عن الشهرة وعن كيفية إدارتها، وعن الظاهر من الأمور وباطنها، وكيف من الممكن أن يبتلع هذا كله حياة الإنسان إذا لم يعرف كيف يواجهها. فالنصف الثاني من الفيلم يجرّنا حرفياً إلى كابوس نراه ونعيشه من وجهة نظر مارلين.
بصرياً، الفيلم مذهل. بين مَشاهد بالأسود والأبيض تعيدنا إلى عصر هوليوود الذهبي ومَشاهد بالألوان، يقدّم دومينيك معزوفة سينمائية تبقينا على أعصابنا، وكأنه أراد العزف على وتر واحد. هذا الجانب من العمل دقيقٌ للغاية، حدّ أننا نعتقد أن بعض المَشاهد ما هي سوى مَشاهد من الأفلام نفسها، قبل أن يغالطنا المَشهد التالي. كلّ هذا العالم الهوليوودي الغابر اخترعه دومينيك بحرفته العالية التي ما عادت محل شك. أمّا الممثّلة آنا ديه أرماس (من أصل كوبي إسباني)، التي ما كان ليتحقق الفيلم من دونها، فهي الإنجاز الأعظم. يصعب ان نصدّق ان المرأة التي أمامنا ليست ماريلين بشحمها ولحمها. فهي تحملها في نبرة صوتها، كصرخة تصلنا من الستينيات على لسان مَن غنّت يوماً "الرجال يفضّلون الشقراوات"!