أقبل إرث الملكة فكتوريا وعائلة "ويندسور" الحاكمة في بريطانيا نحو "أمير ويلز" يجر أذيال الأمجاد والقرون، بعد عقود قضاها الأمير في الانتظار يترقب ساعة يصبح فيها "الملك تشارلز الثالث"، على الرغم من تعلق ذلك بفقد ملكة هي "أم حبيبة" له، وصخرة شيدت عليها بريطانيا الحديثة شخصيتها وأحلامها.
الشاب الذي أصبح الآن شيخاً في الثالثة والسبعين من العمر، ليس طارئاً على المشهد في المنطقة العربية والعالم، فسنوات والدته الطوال في الحكم، قضى كثيراً منها هو الآخر حاكماً وأميراً ذائع الصيت، خصوصاً بعد أن ساق إليه القدر قرينته الأولى "ديانا" التي ملأت الدنيا وشغلته والناس، في حياتها وبعد مماتها، وهي السيدة التي صنفها الأديب الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي "فراشة وأسطورة"، رجح أنها "ستبقى أميرة كل الزمان... بهاء يضيء ظلام الغروب".
لكن "أمير ويلز" الذي عرف الناس بساطةً ومحبة للفنون، وقرباً من المهمشين والعرب والمسلمين، ومتسامحاً مع الشعوب التابعة طوعاً أو كرهاً لبقايا إمبراطورية كانت لا تغيب عنها الشمس، لا يبدو أنه سيبقى هو نفسه بعد أن أصبح ملكاً لبريطانيا وحارساً لأمجاد "باكنغهام" معقل البرتوكولات والتعاويذ والأسرار، فقد جند نفسه للأمة ولم يعد حراً طليقاً، مثلما تصور السينما والتقارير سلفه، وتفرض قيود المنصب.
وتحدث ملك بريطانيا عن تلك القيود في إحدى المناسبات قائلاً "أنا لست بهذا الغباء، إنني أدرك بالفعل أنها ممارسة منفصلة للسيادة، لذلك بالطبع أفهم تماماً كيف يجب أن يكون ذلك"، وهو قول جرى تداوله كثيراً في بريطانيا بعد التعليق الذي تسرب إلى الصحافة عن انتقاده "سياسة مروعة" لحكومة بوريس جونسون نحو المهاجرين بإرسالهم إلى "رواندا"، عوضاً عن منحهم اللجوء في المملكة المتحدة، ما أثار لغطاً وسجالاً حقوقياً وتهماً حول "ردة لندن" عن شعارات ظلت تتغنى بها لعقود.
"دقلة" ورقصة في السعودية
ومن بين الأشياء المعروفة عن الملك الجديد صداقته للعرب، والسعودية بشكل خاص، وهي التي زارها لنحو 10 مرات في حقب مختلفة، نظير الأهمية الاستراتيجية للرياض وطبيعة علاقتها التاريخية مع لندن على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بعد أن وطدها في عهد الملك عبدالعزيز رجل بريطانيا القوى جون فيلبي، الذي أصبح الحاج عبدالله فيلبي، وكان من أقرب المقربين لـ "ابن سعود"، إذ عاش في الرياض واختارها بلداً لإقامته وعيشه، متنقلاً بين أرجائها وكاتباً عن مدنها وتاريخها عدداً من المؤلفات التي قدمت المملكة الجديدة آنذاك لمجتمع بريطانيا والعالم الغربي.
وفور إعلان "تشارلز الثالث" ملكاً في بلاده بعد وفاة والدته إليزابيث الثانية، تداول العرب والسعوديون صوره في المناسبات التي زار فيها البلاد، خصوصاً تلك التي لبس فيها الزي السعودي وقام بأداء رقصة "العرضة" مع جموع من الأسرة الحاكمة في الرياض، وهي "رقصة الحرب" عميقة الجذور التي تؤدى في احتفال سنوي كل عام على الأقل في مناسبة رسمية، فضلاً عن الأفراح والفلكلورات الشعبية في المواسم الثقافية والغنائية.
وتداول كثيرون كذلك صورة الملك وعقيلته أخيراً في مصر وخلفهما الأهرام، في رحلة قيل إنها الخارجية الأولى له بعد أزمة "كورنا"، مما يعكس حجم المنطقة العربية في ذاكرة ابن الملكة الراحلة ووريثها الذي تكنّ له دول الخليج الملكية احتراماً خاصاً، إذ كان استقرار الحكم في لندن مثالاً يحتذى، وإن كان لكل حالة ظروفها وخصائصها المغايرة.
وأبهر السعوديين احتفاظ عقيلة الملك بـ "دقلة سعودية" وارتداؤها في حفل "يوبيل الملكة"، إذ كان المصمم السعودي يحيى البشري أهداها إلى تشارلز عندما زار جنوب السعودية قبل ربع قرن.
أضواء ديانا الحارقة
لكن الملك ذاع صيته أولاً بين السعوديين مثل عديد من شعوب العالم عندما كانت رفيقة دربه "ديانا"، وهي التي أضفت عليه من بريقها ما قال الراحل القصيبي الذي ألف عنها كتاب "الأسطورة"، أحاطه بأضواء إن كادت لتحرقه وتفسد سكينته الملكية، إلا أن ثباته وجسارته على رغم قسماته الهادئة كان مضرب الأمثال، فيوم "اقترب مهووس من تشارلز في أستراليا وفي يده مسدس كان يُعتقد أنه حقيقي، لم يتحرك ولم يهرب ولم يختبئ، ظل هادئاً ثابتاً في مكانه ليقول في ما بعد "ميراث ألف سنة أوقفني مكاني"، فكان خطأ "الفراشة" في نظر الشاعر الراحل أنها "أرادت أن تتحدى ألف سنة من التقاليد، تمشي مع الناس العاديين كما يمشون وتمزح كما يمزحون".
ولدى حديثه عن الأسطورة جارته عندما كان سفيراً للرياض في لندن، يخبرنا القصيبي الأديب بلقائه ديانا "أربع مرات" كانت ستصبح لربما خمساً لو أن زوجته "أم يارا" وافقت على اقتراحه دعوة الجارة "المحبوبة" إلى بيت السفير، قبل أن يكون الرفض المهذب غير قابل للاستئناف.
وهنالك يخبرنا غازي عن تشارلز في سياق الحديث عن ديانا، قائلاً "أستطيع أن أؤكد لكم أنه إنسان مثقف جداً، ذكي جداً، يهتم بالعاطلين في بريطانيا، وبالمعوزين في بنغلاديش، ويود حماية الطبيعة من التلوث، والمدن من المباني القبيحة، وهو إنسان مليء بالتسامح، يحترم كل الأديان ويؤمن بأن للمعرفة أكثر من طريق، يقضي جل وقته في جمع التبرعات لمشاريعه الإنسانية العديدة".
عدو الصحافة
أما مشكلة ملك بريطانيا الجديد في اعتقاد الوزير السعودي السابق، فهي كانت "أن الصحافة البريطانية تكرهه كراهية التحريم ولا تخفي هذا الكره، وقد فشل كل خبراء العلاقات الذين استعان بهم في حل المشكلة"، غير أن المؤلف ألمح إلى أن أحد أسباب تلك الكراهية يعود إلى "الفراشة" الراحلة "فهو مختلف تماماً عنها"، مما قد يعني أن الصحافة أصبحت في ما بعد أقل عداء له، وبعد أن أصبح الآن ملكاً لا يزال من المبكر الحكم على سلوكها نحوه، إذ حتى والدته الأكثر حذراً وحياداً، تروي التقارير معاناتها مع صحافة بلادها المعروفة بشراستها، إلا أنها ليست استثناء فالجميع داخل بريطانيا وخارجها طاولته أسنة رماحها، لدرجة أن هاري قال أخيراً إنه ترك البلاد خشية أن تلقى زوجته مصير أمه ديانا التي اتهم الصحافيون المطاردون بسفك دمها الذي تفرق مع ذلك بين القبائل.
وعلى ذكر "ديانا" فإن الأميرة التي قلبت العالم وليس بريطانيا رأساً على عقب "حباً وصوراً وجدلاً"، لا يبدو أنها بين الأثقال التي يمكن للملك (زوجها السابق) أن يتخلص منها في رحلته من "ويلز" إلى "عرش إنجلترا"، فإن لم تلاحقه في مقام طوقته بآخر، فهاهي الآن حاضرة في تاريخه لدى استعراض محطات حياته من الميلاد حتى الملك، فضلاً عن ولديها المثيرين للأضواء مثل أمهما، فالأول ويليام أصبح ولياً للعهد، والآخر المشاغب هاري سرت بقصته الركبان وليس غريباً أن تتجدد مع التحولات المنتظرة في عهد والده "تشارلزالثالث"، الذي لم ينسه وأبقى ابنه أميراً خلافاً لبعض التكهنات في أول خطابات الملك إثر تأبين والدته.
السؤال ماذا سيبقى لا ما يتغير
وعلى النقيض نظرة الملك السابقة إلى "الإسلام" والثقافات الأخرى، فعندما كان ولياً للعهد يصنف واحداً من الشخصيات الغربية المرموقة النادرة في احترامها الديانة المحمدية جهراً، حتى صنفته تقارير "المفتون بالإسلام"، إذ اعتاد الحديث بإيجابية وانبهار أحياناً نحو الحضارة الإسلامية وتجربته الروحية، مما يعتقد أنه ليس ممكناً بنفس المستوى لملك بريطانيا (رأس الكنيسة الإنغليكانية) من الناحية البروتوكولية على الأقل، وإن جاء في سياق احترام الأديان والتمسك بالحوار بين الثقافات، الذي غدا شعاراً عالمياً فارغ المضمون في مناسبات عدة، في تقدير الباحثين.
وعلى سبيل التمثيل على آراء ملك بريطانيا الجديد نحو الإسلام، كلمته التي جرى تناولها على نطاق واسع في 2010 بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيس مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد الذي أنشأته السعودية، وكان فيها صريحاً في دعوة العالم للإفادة من قيم الإسلام الجوهرية وسط انتقاد شديد للحضارة المادية.
وكان مما قال إن "جهود العالم الصناعي لا تنبثق حتماً من حبنا للبحث عن الحكمة، ولكنها تتركز في الرغبة بالحصول على أكبر عائد مادي، وهذه الحقيقة تتجاهل تعاليم روحية مثل تعاليم الإسلام الذي يؤكد على أن الجانب الحيواني من حاجتنا كبشر لا يشكل حقيقة ما نحن عليه".
وأضاف "مما أعرفه عن القرآن أنه يصف مراراً وتكراراً العالم الطبيعي على أنه صناعة أنتجتها قوة توحيدية راعية، والقرآن يقدم رؤية تكاملية للكون تشمل الدين والعلم والعقل والمادة جميعاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا السياق يروي الكاتب السعودي حمد الماجد، القريب من الشأن الإسلامي في بريطانيا لعقود، كيف أن "أمير ويلز" ذلك الحين قام في أبريل (نيسان) 2019 ، بزيارة مركز التراث الإسلامي البريطاني في مدينة مانشستر الذي يترأس الماجد مجلس أمنائه، "فتعمد الأمير الحصيف المثقف أن يغير النمط التقليدي لزياراته للمؤسسات المماثلة ذات النفع المجتمعي، فبدلاً من أن يكون هو المتحدث الرئيس على المنصة ثم يتلقى الملاحظات والتعليقات والأسئلة، كما تقتضي بروتوكولات اللقاءات التقليدية، مر على جميع المدعوين فرداً فرداً من الرموز السياسية ووجهاء مانشستر إلى "سكيورتي" المركز، وتحدث مع كل واحد منهم بلا تمييز بينهم، وكان عددهم يصل لحدود 100 شخص".
ولفت في مقالة له في "الشرق الأوسط" اللندنية إلى أن الملك البريطاني، أراد بذلك توجيه رسائل تطمين إلى جميع الأقلية المسلمة في بريطانيا "بعد الجريمة الإرهابية البشعة في نيوزيلندا، ذاك الزلزال الإرهابي الذي وصلت ارتداداته إلى كل الأقليات المسلمة في الدول الغربية، هكذا بدا لنا، وإلا فترتيبات الزيارة بدأت قبل وقوع الجريمة بشهرين ولا تعارض".
واعتبر أن خطوة ولي عهد بريطانيا حينها، نظر إليها المعنيون على أنها رسالة مبطنة لليمين المتطرف المتنامي في أوروبا، فهو "بحصافته وخبرته أراد أن يوظف زيارته لمركز التراث الإسلامي البريطاني في مدينة مانشستر لتوجيه رسالة مزدوجة غير مباشرة، أولاً لتطمين كل الأقلية المسلمة البريطانية، وثانياً ضد العنصريين ورموز اليمين المتطرف مهما علا صوتهم وزاد ضجيجهم".
وبين الأمور التي استوقفت الكاتب السعودي في شخصية "تشارلز الثالث" إلى جانب ثقافته، اتسام الأمير السبعيني حينها "باللياقة البدنية واللباقة الاجتماعية، اللياقة البدنية التي مكنته من الوقوف مدة لا تقل عن ساعة ونصف الساعة دون أن تبدو عليه علامات الإجهاد أو مؤشرات الملل، ودون أن يجلس على كرسي قط، واللباقة الاجتماعية التي منحته قدرة مذهلة في الحديث مع كل فرد من الحضور الـ 100 بلا استثناء، كل واحد سمع منه وأسمعه ولاطفه وظفر منه بتعليق ظريف وخفة دم تبعث على الابتسامة حيناً والقهقهة حيناً آخر"، مشيراً إلى أن تلك سمة تحتاج إلى قدر كبير من "حسن الإصغاء وحلاوة الرد وسرعة البديهة، وهو ما يفتقده بعض الساسة والإعلاميين ورجال الأعمال، وهو درس مهم للأجيال الصاعدة".
جلباب يصعب التخلص منه
ولا تختلف شهادة شيخ الأزهر أحمد الطيب كثيراً عما دون الكاتب السعودي، فقد عرف هو الآخر "أمير ويلز" عن قرب في مناسبات عدة، كان فيها "الإمام الأكبر" ومنظمته العريقة مشغولان بهاجس "الإسلاموفوبيا" في بريطانيا والغرب، خصوصاً ما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، فتأتي خطابات "تشارلز" وتعليقاته أشبه بغيث من التعايش يطفئ أطرافاً واسعة من ألسنة اللهب المتأججة في أتون الحروب الأيديولوجية والعسكرية، منتقداً استهداف الإسلام كدين وشعوب بالكراهية، وغزو العراق الذي تبعت حكومة بريطانيا في عهد توني بلير نظيرتها الأميركية في شن الغارات عليه تحت ذرائع تبين سريعاً أنها واهية وكاذبة.
ولذلك انتهز الطيب فرصة وجود الملك في مصر فدعاه إلى زيارة الأزهر، حيث أعرب عن سعادته بلقياه، إذ "وجد فيه قائداً يتحلى بالحكمة والمسؤولية وصوتاً غربياً منصفاً فى حديثه عن الإسلام والمسلمين".
لكن "تشارلزالثالث" الذي شهد كثير من المراقبين في مناسبة جلوسه على عرش أسلافه أنه كان أحد حماة الأقليات في بريطانيا الأشداء حتى في أحلك الظروف، أقر بأن شخصيته التي سخرها في خدمة "القطاع غير الربحي" ستتغير، وأنه بدلاً من ذلك سيكون ملكاً على طريقة والدته، التي عرفت برصانتها وتجنبها الخوض في الشأن السياسي العام.
على الرغم من ذلك يعتقد كثيرون أن "تشارلز الملك" مهما حاول التخلص من "تشارلز الأمير"، سيبقى منه ما يحافظ على بصمته المتفردة في هذا السياق، ولا أدل على ذلك من تفويض ابنه وليام الذي أصبح ولياً للعهد بحراسة إرثه الإنساني العريض الذي قدر بنحو 500 مؤسسة في مختلف الاتجاهات الإنسانية والبيئية والتعليمية.
ونقلت صحيفة "التايمز" البريطانية عن كاتب السيرة الملكية هوغو فيكرز اعتقاده بأن تشارلز سيظهر في دور شخص مختلف عنه في دور ملك، على الرغم من صعوبة التنبؤ بكيفية ترجمة ذلك في حياته اليومية، فهو "رجل مثقف جداً، إذا كنت أنصحه، فبالذهاب إلى الجانب الثقافي، للاستمتاع بتراث محيطه والترحيب بالناس. إذا كان يستمتع بالناس، فبدلاً من إقامة حفلات الاستقبال تلك، قد يقيم حدثاً ثقافياً كبيراً، قد يكون الأمر ممتعاً إلى حد ما، إنه ليس منبوذاً، إنه يحب القيام بالأشياء بأسلوب معين وثقة بالنفس".