في القرن العشرين صنف التداوي بالأعشاب على أنه نوع من "الطب البديل" كالوخز بالإبر والعلاج بالطاقة الجسدية والتأمل وغيرها.
ويقصد باسم "الطب البديل" أنه بديل للأدوية المصنوعة من مواد كيماوية في المختبرات التي انتشرت منذ مطلع القرن العشرين لتنافس التداوي بالأعشاب وتقصيه إلى خانة الفولكلور الثقافي للشعوب.
بحث بسيط حول تاريخ التداوي بالأعشاب سيكشف عن أن البشر صنعوا الأدوية من المواد المتوافرة في الطبيعة منذ ما قبل التاريخ وعادوا إلى صناعة هذا النوع خلال العقدين الأخيرين بعدما حاولت أدوية المصانع والمختبرات أن تكون بديلاً لطب الأعشاب لكنها لم تنجح.
وهذا ما تؤكده الأرقام والإحصاءات التي تتناول التجارة العالمية للأعشاب والزيوت التي تستخدم في صناعة الأدوية ومنها زيت الأرغان المستخرج من الشجرة المنتشرة في جبال الأطلس التي تحتفل بها منظمة الأمم المتحدة في يوم دولي سنوي.
وكذلك زراعة النباتات المخدرة والمهدئة والنباتات العطرية والبرية التي باتت تصنع وتعلب وتباع في جميع أنحاء العالم على رفوف خاصة بها داخل الصيدليات والمتاجر الكبيرة، على الرغم من أن أول صيدلية نباتية في العالم افتتحت عام 1224 بإيطاليا وصدر مرسوم خاص حينها يحصر مهمة تحضير الأدوية من الأعشاب بالصيادلة فقط.
وقبل أعوام أنشئت في بريطانيا "المؤسسة الوطنية للمعالجين بالأعشاب" وهم من الصيادلة الذين درسوا علم "الأعشاب والنباتات" بشكل موسع.
الأعشاب تعود إلى موقعها
في ألمانيا عاد العلاج بالأعشاب ليلقى رواجاً لدى كثيرين بعد أن تأكدت قدرتها على معالجة أمراض عدة من دون إضعاف جهاز المناعة كالذي تسببه الأدوية الكيماوية، وعلى مستوى أوسع اتسع علاج الأمراض الموسمية بالأعشاب كشرب منقوع "البابونج" لعلاج نزلات البرد وشرب شاي الشومر لعلاج اضطرابات المعدة والجهاز الهضمي ويمكن للمريض استخدام هذه العلاجات من تلقاء نفسه.
وبرأي أستاذ طب الأمراض الباطنية وأستاذ الطب البديل والتكاملي في جامعة "إيسن" غوستاف دوبوس أن "المرضى باتوا يعرفون معظم الآثار الجانبية للأدوية المصنعة من مواد كيماوية مخبرية ولتجنب هذه الآثار باتوا يتوجهون نحو الأدوية الطبيعية".
والعودة إلى استخدام الأعشاب كدواء لأمراض كثيرة لم تعد حكراً على مجموعة من الناس أصحاب الأفكار المثالية حول العلاقة الروحانية والجسدية بما يحيطنا في الطبيعة، بل توسع استعمالها بشكل مثير للانتباه حول العالم.
انتشار واسع
وبحسب "الرابطة المركزية لأطباء الطب الطبيعي" فإن الأدوية العشبية والطبيعية أخذت تستخدم بشكل واسع بين مرضى الحساسية على أنواعها أو المصابين بأمراض مزمنة.
وقالت المتحدثة باسم الرابطة كريستل بابينديك "لا نريد إنكار الطب الأكاديمي وإبداله بالطب الطبيعي، لكن يمكن للمرء أن يكون أكثر نجاحاً إذا عمل على المسارين".
وأشارت التقارير إلى أن استخدام الأدوية المستخرجة مباشرة من الأعشاب اتسع في كبرى شركات الأدوية لأسباب كثيرة منها تخلي مرضى كثيرين عن العقاقير التي تستعمل دهوناً حيوانية أو بسبب الوعي المستجد بأهمية الأدوية الطبيعية حول العالم أو لأسباب تتعلق بتلوث البيئة.
ومهما كان السبب، فإن الأدوية المستخرجة من الأعشاب والزيوت عادت إلى الواجهة كمنافس للأدوية الصناعية وباتت سوقاً عالمية تنافس السوق التقليدية وتتقدم عليها في بعض البلدان كالصين مثلاً، حيث ما زال التداوي بالأعشاب من أسس الطبابة، كما في معظم دول الشرق الأقصى.
الذهب الأحمر
وتفيد أرقام التجارة العالمية حول الأعشاب الطبية بعودة نبات الزعفران إلى الواجهة وهو يستخدم في علاج مجموعة متنوعة من الأمراض منذ آلاف السنين ويستعمل في أدوية التجميل ويعرف هذا النبات بـ"الذهب الأحمر" بسبب ثمنه المرتفع، فقطف الأزهار يتم يدوياً لكشط الخيوط الرفيعة ولإنتاج أونصة واحدة من خيوط الزعفران يجب قطف 5 آلاف زهرة تقريباً.
أما بالنسبة إلى زيت الورد المشهور في تركيا أكبر المنتجين له في العالم والذي ينتج في عدد من الدول العربية ببلاد الشام وبمدينة الطائف السعودية المشهورة بوردها، إضافة إلى استحلاب وتقطير مجموعة كبيرة من الأعشاب العطرية التي تنبت في هذا المناخ كالزعتر والحبق والريحان واليانسون، وكلها يتم تقطيرها واستخدامها في صناعة الأدوية ومستحضرات التجميل والعطور غالية الثمن، فزيت الورد معروف بفيتاميناته والمعادن ومضادات الأكسدة التي ترطب البشرة.
وهناك زيت الأرغان الذي تصنعه المغربيات في جبال أطلس بعد قطف ثمار شجرته ومعالجتها ثم طحنها لاستخراج الزيت الغني بأوميغا 3 و6 المفيدة للبشرة والشعر، وبات منتجاً معروفاً عالمياً ومرتفع الثمن بسبب زيادة الطلب عليه وقلة الكمية المنتجة التي لا تغطي حاجات السوق العالمية.
وفي كوستاريكا وسائر الجزر الاستوائية ما زال الناس يستخدمون الشاي الأخضر لتحسين البشرة وعلاج البقع وتقليل الالتهاب، بينما ما زالت مجتمعات كاملة في العالم العربي على الوتيرة ذاتها في التداوي بالأعشاب، خصوصاً المناطق النائية في الجزائر والمغرب ومصر ومعظم بلاد الشام.
منافسة الأدوية الصيدلانية
وخلال العقدين الماضيين عادت أدوية الأعشاب ومستحضرات التجميل لتنافس الأدوية الصيدلانية التي ارتفعت أثمانها في معظم دول العالم العربي بسبب رفع الدعم الحكومي عنها أو بسبب التضخم الكبير والفقر المتزايد الذي أصاب اقتصادات الدول والطبقات الشعبية.
في الجزائر وبحسب الإحصاءات الأخيرة للمركز الوطني للسجل التجاري تم تسجيل وجود 2189 تاجراً متخصصاً في بيع الأعشاب الطبيعية، على الرغم من أن العدد الحقيقي أكبر بكثير من هذا الرقم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مصر انتشرت زراعة البردقوش والريحان والشمر والبابونج والنعناع ومثلها 342 نوعاً تتم زراعتها على الأراضي المصرية تحت مسمى النباتات العطرية والطبية بعدما ارتفع الطلب الخارجي عليها عقب دخولها في صناعات مختلفة عدة ومنها العطور والأدوية، وتحتل مصر المركز الـ11 عالمياً في إنتاج هذه النباتات بنسبة وصلت إلى ثلاثة في المئة من الإجمالي العالمي، وسجل حجم الصادرات في هذا المجال حالياً أكثر من 100 مليون دولار.
جذور ضاربة في القدم
على الرغم من الأرقام القليلة والتقارير غير الحديثة حول حجم سوق الأعشاب الطبية في البلاد العربية والعالم أجمع، فإن جانب استخدام الأعشاب والمواد الطبيعية في صناعة مستحضرات ومساحيق التجميل لم يلق عليه الضوء مجدداً.
ومع إن تجارة الأعشاب الطبية حول العالم تظهر أن أكثرها يستعمل في صناعة أدوية التجميل ومراهمها والمواد التي تستخدم في الماكياج والزينة، لكن صناعة هذه المستحضرات من الأعشاب الطبيعية بدأ منذ ما قبل التاريخ.
قبل 6 آلاف سنة
بدأنا بوضع مساحيق التجميل (الماكياج) على وجوهنا منذ ما قبل 6 آلاف سنة على ضفاف النيل، وكان تلوين الوجه والجسد بالألوان أو ما نسميه مستحضرات التجميل يدل على الطبقة الاجتماعية ويهدف أيضاً إلى استرضاء الآلهة، وكانت هذه المساحيق تستخرج من الأعشاب الطبيعية والزهور البرية وزهرة اللوتس المقدسة وكذلك من أنواع من الرمال والصخور الملونة.
واكتشفت مساحيق في الحفريات موضوعة مع المومياءات وأظهر قناع توت عنخ آمون أو تمثال رأس نفرتيتي وغيره أن المصريين استخدموا الكحل بألوان متعددة وأحمر الخدود ومساحيق بيضاء لتفتيح لون البشرة والألوان الخاصة بإخفاء السواد تحت العيون.
وأشارت حفريات عدة إلى أن بعض الملكات المصريات كن يستخدمن العقاقير الطبية المصنوعة من الأعشاب والحليب والعسل وزيت الزيتون ليحافظن على جمالهن الشاب، كما ظهرت الملكة كليوباترا في الفيلم الذي حمل اسمها عام 1963 ومثلته إليزابيث تايلور.
أما في بلاد ما بين النهرين، فدرس الأثري كامبل تومسون ما تركه الملك آشور بانيبال من المعلومات الطبية التي حفظها من الضياع في القرن السابع قبل الميلاد، بحيث جمعها في كتاب "الأعشاب الآشورية" الذي يحتوي على أكثر من 250 صنفاً من الأعشاب والعقاقير النباتية.
وفي مدينة سومر وجد علماء الآثار لوحة قديمة كتبت بالسومرية تحوي 12 وصفة طبية وفيها أول وصفة لعلاج الصداع، والدواء هو مسحوق بذور الخردل معجون بماء الورد يوضع فوق الرأس برباط مدة ثلاثة أيام.
وربما تكون تشريعات الملك حمورابي القاسية بحق الجراحين سبباً دافعاً إلى استخدام الأدوية حتى استنفادها قبل إجراء الجراحة، إذ نصت التشريعات على أن "الجراح إذا ما استعمل مشرطه وأخطأ في استعماله تقطع يده، وإذا تقاضى أكثر مما يستحق يعاقب بالحبس".
الرومان كذلك
الرومان أيضاً عرفوا طب الأعشاب إضافة إلى طب النفس، لكنهم ازدروا مستحضرات التجميل الملونة وركزوا جهدهم على صناعة وتطوير صابون الاستحمام ومزيلات العرق والمرطبات الجلدية للرجال والنساء، لكن الماكياج مثل أحمر الشفاه كانت تضعه العاملات في الجنس كعلامة، لذا كان رمزاً للسوقية والابتذال.
وجاء في بحث "بريتانيكا" أن الفيلسوف سينيكا الصغير مدح والدته مفتخراً أنها "لم تدنس وجهها أبداً بالطلاء والمساحيق ومستحضرات التجميل".