تبدو بعض ملوثات الهواء أشبه بقاتل خفي، إذ يمكن أن تتسبب بعدد من سرطانات الرئة لدى أشخاص من غير المدخنين من خلال آلية شرحتها دراسة نشرت السبت، الـ 11 من سبتمبر (أيلول)، يشكل التوصل إلى فهمها خطوة مهمة للعلم والمجتمع، بحسب مجموعة من الخبراء.
وأوضح علماء من معهد "فرانسيس كريك" ومن كلية لندن الجامعية أن الجسيمات الدقيقة (أقل من 2.5 ميكرون أي ما يعادل تقريباً قطر الشعرة) التي تعتبر من أسباب التغير المناخي، تؤدي إلى تغيرات سرطانية في خلايا الجهاز التنفسي.
ويمكن تشبيه الجسيمات الدقيقة الموجودة في غازات العوادم أو غبار مكابح المركبات أو الأدخنة الناجمة عن الوقود الأحفوري بقاتل خفي على ما قال تشارلز سوانتون من معهد "فرانسيس كريك"، وهو الذي عرض نتائج هذا البحث الذي لم يراجعه بعد باحثون آخرون خلال المؤتمر السنوي للجمعية الأوروبية لطب الأورام المنعقد في باريس إلى 13 سبتمبر الحالي.
وإذ ذكر البروفيسور سوانتون بأن ضرر تلوث الهواء معروف منذ مدة طويلة أشار إلى أن العلماء لم يكونوا "متأكدين مما إذا كان هذا التلوث يتسبب مباشرة في الإصابة بسرطان الرئة ولا من كيفية حصول ذلك".
ودرس الباحثون بداية بيانات أكثر من 460 ألف شخص من سكان إنجلترا وكوريا الجنوبية وتايوان، وبينوا استناداً إليها وجود ترابط بين التعرض لتركيزات متزايدة من الجسيمات الدقيقة وزيادة خطر الإصابة بسرطان الرئة.
فهم الآلية
إلا أن الاكتشاف الأبرز يتمثل في التوصل إلى فهم الآلية التي تتسبب من خلالها هذه الملوثات بسرطان الرئة لدى أشخاص من غير المدخنين.
وأثبت الباحثون من خلال دراسات مخبرية على الفئران أن الجسيمات أحدثت تغيرات في جينين هما مستقبل عامل نمو البشرة (EGFR) وكيراس (KRAS) مرتبطين أصلاً بسرطان الرئة.
من ثم حلل الباحثون نحو 250 عينة من أنسجة رئوية بشرية سليمة لم تتعرض إطلاقاً لمواد مسرطنة من التبغ أو التلوث الشديد، وظهرت طفرات في جين EGFR في 18 في المئة من العينات، وتغيرات بـ KRAS في 33 في المئة منها.
وقال البروفيسور سوانتون إن "هذه الطفرات قد لا تكون بذاتها كافية لتؤدي إلى الإصابة بالسرطان، لكن عند تعريض الخلية للتلوث يحتمل أن يحفز ذلك نوعاً من التفاعل" الالتهابي، وأضاف أن "الخلية ستؤدي إلى نشوء سرطان في حال كانت تؤوي طفرة".
ورأى سوانتون الذي يترأس الجهة الرئيسة الممولة للدراسة وهي مركز "كانسر ريسيرتش يو كيه" للأبحاث المتعلقة بالسرطان أن هذه الدراسة هي بمثابة "فك لشيفرة الآلية البيولوجية لما كان لغزاً".
الاعتقاد السائد
فالاعتقاد كان سائداً بأن التعرض إلى العوامل المسببة للسرطان كتلك الناتجة من دخان السجائر أو التلوث، يتسبب في حدوث طفرات جينية في الخلايا مما يجعلها أوراماً ويؤدي إلى تكاثرها.
ولاحظت مديرة برنامج الوقاية من السرطان في معهد غوستاف روسي سوزيت دولالوغ أن خلاصات الدراسة بمثابة تطور ثوري، إذ لم يكن يتوافر سابقاً أي دليل على هذا التسرطن البديل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشددت الاختصاصية في طب الأورام التي كلفت مناقشة الدراسة خلال المؤتمر على أنها خطوة مهمة للعلم، آملة بأن تكون كذلك للمجتمع أيضاً، واعتبرت أنها "تفتح باباً واسعاً للمعرفة ولكن أيضاً للوقاية".
وأفاد البروفيسور سوانتون بأن الخطوة التالية تتمثل في "فهم سبب تحول بعض خلايا الرئة المتغيرة إلى خلايا سرطانية بعد التعرض للملوثات".
وأبرز عدد من الباحثين أن هذه الدراسة تؤكد أن الحد من تلوث الهواء مهم أيضاً للصحة.
وقال البروفيسور سوانتون "لدينا الخيار بين أن ندخن أو لا نفعل، لكن لا يمكن أن نختار الهواء الذي نتنفسه، وهي بالتالي مشكلة عالمية نظراً إلى أن عدد الأشخاص المعرضين لمستويات غير صحية من التلوث أكبر بخمس مرات على الأرجح من أولئك المعرضين لدخان المنتجات التبغية".
90 في المئة من سكان العالم
ويتعرض أكثر من 90 في المئة من سكان العالم لما تصفه منظمة الصحة العالمية بمستويات مفرطة من الملوثات التي تحوي جسيمات دقيقة، ويوفر هذا البحث أيضاً أملاً بالتوصل إلى طرق جديدة للوقاية والعلاج.
وأشارت سوزيت دولالوج إلى إمكان العمل على طرق عدة للكشف والوقاية، لكن ليس على المدى القريب، ومنها التقييم الشخصي للتعرض للملوثات، والكشف غير الممكن حتى الآن عن الطفرة الجينية EGFR.
أما توني موك من جامعة "هونغ كونغ" فنقل عنه بيان للجمعية الأوروبية لطب الأورام قوله إن هذا البحث "مثير للاهتمام بقدر ما هو واعد"، ورأى أنه يتيح "التفكير يوماً ما في البحث عن آفات ممهدة للتسرطن في الرئتين باستخدام تقنيات التصوير الطبي، ثم محاولة معالجتها بأدوية مثل مثبطات الـ ’انترلوكين1بيتا‘".
ولم يستبعد البروفيسور سوانتون التوصل مستقبلاً إلى "وقاية جزيئية من السرطان بواسطة حبوب، ربما بمعدل واحدة كل يوم، للحد من أخطار الإصابة بالسرطان في المناطق العالية الخطورة".