الجواب ببساطة يتمثل في المثل المعروف: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"! لهذا فإنه من المنطقي أن تعارض دول مجموعة "أوبك+" هذه الجهود لوضع سقف لأسعار النفط في السر والعلن. وعلى الرغم من صعوبة تطبيقه على أرض الواقع، حتى في ظل فرض عقوبات، إلا أن نجاحه "سياسياً" يجعل الدول الغربية تفكر جدياً في تطبيقه على دول "أوبك+".
آخر تطورات وضع سقف لسعر النفط الروسي
هناك قناعة عامة لدى الخبراء بأن فكرة وضع حد أعلى لسعر النفط الروسي لا يمكن نجاحها لأسباب سياسية واقتصادية. فمَن أعطى مجموعة السبع السلطة كي تحدد سعراً لسلع دول منتجة ليست من أعضائها، وتجبر المشترين من الدول الأخرى على الالتزام بهذا السعر؟ ما الذي يعطي فرنسا، مثلاً، السلطة لتحديد سعر للنفط الروسي وتجبر الهنود عليه؟
ويتعارض السقف السعري مع فكرتين أساسيتين تتبناهما دول مجموعة السبع: انخفاض السعر (مع إعطاء إعانات وقود أيضاً)، يؤدي إلى زيادة الطلب على النفط، وهذه الزيادة لا تريدها هذه الدول. وزيادة استهلاك النفط تعني زيادة انبعاثات الكربون التي تسبب التغيّر المناخي، وهم يحاربون النفط لأنه يسبّب التغير المناخي.
اقتصادياً، ستفشل خطة تطبيق سقف سعري لأسباب عدة أهمها أنها تتطلب رقابة مشددة لا تستطيع الدول السبع توفيرها، ولأن الصين والهند ودول أخرى تحصل على أسعار مخفضة على كل الحالات، ولأن الدول ستتنافس مع بعضها للحصول على النفط الرخيص، فترفع أسعاره فوق المستوى الذي ستحدده مجموعة السبع. وستقع الدول السبع في ورطة إذا طالبت روسيا عملاءها الملتزمين بالسعر بدفعه بالروبل. إلا أن حقيقة الأمر أن كل هذا النظام يعتمد على مدى تقبل الروس له، والروس أعلنوا أنهم سيقاطعون أي دولة تتبنى السقف السعري. وهنا لا بد من توضيح نقطتين.
الأولى أن إعلان روسيا مقاطعة أي دولة تتبنى السقف السعري لا يعني بالضرورة نجاح تطبيق السعر، ولا يعني أن روسيا أحست بخطر هذه الخطة، وأنها تتصرف بناءً على ذلك. فروسيا تحاول منذ فترة وقف العقود الطويلة المدة، بخاصة في الغاز، بشكل قانوني لا يعرّضها للمساءلة القانونية أمام المحاكم الغربية. محاولة وضع سقف لسعر النفط الروسي يعطي روسيا الغطاء القانوني لوقف ضخ الغاز أو النفط وفقاً للعقود الطويلة المدة، وهذا يمكّنها من بيع الغاز بأسعار مضاعفة في السوق الفورية.
الثانية أن نجاح تطبيق الفكرة، ولو نظرياً من الناحية السياسية، سيشجع الغرب على وضع أسعار لمنتجات روسية أخرى سواء زراعية مثل القمح أو صناعية مثل السماد. لهذا فإن روسيا ستحارب وضع سقف لسعر نفطها بكل ما تملك من قوة.
أدرك الأميركيون أن خطة وضع سقف لسعر النفط الروسي خطة فاشلة اقتصادياً وسياسياً، فلجأوا إلى سياسة العقوبات يوم الجمعة الماضي وأصدروا لائحة إرشادية تتعلق بذلك. لقد أصبح سلاح العقوبات هو الأكثر إشهاراً كلما فشلت السياسات الخارجية الأميركية. لهذا استبقت الولايات المتحدة الأحداث وأعلنت أنها ستفرض عقوبات على كل مَن يتعامل بالنفط الروسي بشكل مخالف لما تحدده مجموعة السبع. بعبارة أخرى، تبنت الولايات المتحدة فكرة العقوبات الاقتصادية على كل مَن يشتري النفط الروسي بأعلى من السعر المحدد، والسعر لم يتحدد بعد!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأغرب ما في الموقف الأميركي هو الاقتناع الكامل بأنه لا بد من الاستمرار في ضخ النفط الروسي ووصوله إلى الأسواق العالمية! وهنا لا بد من توضيح نقطة أخرى هامة: هم يريدون استمرار ضخ النفط الروسي ولكنهم مقتنعون بضرورة توقف دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن استيراد النفط الروسي. وهذا يعيدنا للفكرة في بداية المقال: هم يريدون التحكم في مبيعات ومشتريات دول أخرى!
ولكن نظرة فاحصة على العقوبات المقترحة، نجد أنها استمرار لسياسة "الضحك على اللحى" وأن العقوبات المقترحة هي استمرار للعقوبات غير المؤثرة. ويتضح تماماً أن العقوبات سياسية قبل الانتخابات الأميركية. فماذا في هذه العقوبات؟
أول ما يلفت النظر هو أن العقوبات ستُفرض على "الأشخاص" الذين يشترون كميات "كبيرة" من النفط الروسي فوق السعر المحدد. كما أن العقوبات ستطاول كل مَن يقدم معلومات "مغلوطة" عن تسعير النفط الروسي. بعبارة أخرى، إذا اشترى الشخص النفط الروسي بأعلى من السعر المحدد ولكنه قدم أوراقاً توضح أنه اشتراه بالسعر المحدد أو أقل، فإنه يخضع للعقوبات، وكل مَن ساعده في ذلك.
الآن لنعد إلى تفاصيل العقوبات: العقوبات تقع على أشخاص، وليس على شركات أو دول، وأغلب مشتري النفط الروسي شركات وليسوا أشخاصاً. ليس معروفاً ما هو تعريف الكميات الكبيرة، بخاصة أن الأشخاص عادةً يتعاملون بكميات صغيرة نسبياً. أما بالنسبة إلى المعلومات المغلوطة فهذا يقودنا مرة أخرى إلى موضوع التفتيش والمراقبة غير الموجودة أصلاً.
إذاً العقوبات الأميركية هي محاولة للظهور بمظهر قوي، ولكن الشروط التي وضعوها تضمن ألا تتعرض الولايات المتحدة لأحد، إلا أنني أتوقع أن إدارة بايدن ستعلن قبل الانتخابات عن احتجاز سفينة أو سفينتين مملوكتين من أشخاص يونانيين محملتَين بالنفط الروسي وسيتم احتجازهما وتفريغ النفط وبيعه بالمزاد العلني في هيوستن. وسيُعد ذلك نجاحاً سياسياً كبيراً، وستطبل له وسائل الإعلام. هذا النجاح السياسي سيجعل دول مجموعة السبع ككل والولايات المتحدة منفردة تفكر في تطبيق السقف السعري على نفط دول "أوبك+"، كلما ارتفعت الأسعار. هذه السياسات ستزيد من ذبذبة أسعار النفط، وستؤثر سلباً في أسواق النفط، كما أنها ستسهم في تخفيض الاستثمار في الصناعة، والذي يعني مزيداً من الارتفاع في الأسعار مستقبلاً، والمزيد من التمسك بفكرة تطبيق سقف سعري.
لهذا، وعلى الرغم من فشل فكرة السقف السعري على أرض الواقع، إلا أن الانطباع من قبل إدارة بايدن وحكومات مجموعة السبع بأنه نجاحاً سياسياً سيجعلهم يفكرون في تطبيقه على دول "أوبك+"، لذا على هذه الدول أن تقف ضده الآن لما له من آثار سلبية على الأسواق، ولأنه يتنافى مع مصالح الدول المستهلكة، بخاصة على المدى الطويل.