يبدو أنه لم يعد من اتحاد المغرب العربي، أو "الاتحاد المغاربي" كما يفضل كثيرون تسميته، سوى اسمه ورسمه، بعد أن تفاقمت الخلافات السياسية بين عدد من دوله الخمس المشكلة له، وهي المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.
بعد الخلافات الدبلوماسية الحادة بين المغرب والجزائر، التي وصلت إلى حد القطيعة بين البلدين الجارين، جاءت الأزمة السياسية بين المغرب وتونس لتدق مسماراً ثقيلاً آخر في نعش "الاتحاد المغاربي"، ليصبح هذا مجرد "حلم" يراود أشد المتفائلين بإمكانية المصالحة وتوحيد صفوف "الأشقاء الخمسة".
يعود الإعلان الرسمي على ولادة منظمة "اتحاد المغرب العربي" إلى تاريخ 17 فبراير (شباط) 1989 من طرف قادة البلدان المغاربية الخمسة بمدينة مراكش المغربية، غير أن "مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر" جعلت هذه المنظمة مجرد "جسد بلا روح".
توترات بسبب نزاع الصحراء
ولعب سوء العلاقات السياسية بين المغرب والجزائر دوراً حاسماً في احتضار الاتحاد بعد سنوات قليلة من إعلانه، خصوصاً في عام 1994 عندما قرر المغرب فرض التأشيرة على الجزائريين بسبب هجوم على فندق أطلس أسني بمراكش، إذ اتهمت الرباط الجزائر بالتورط في تلك العملية.
وكان نزاع الصحراء، ولا يزال، هو العامل الأبرز في نسف كل محاولات نبذ الخلافات الثنائية بين المغرب والجزائر، بالتالي إمكانية الجمع بين البلدين في إطار إقليمي موحد، هو "الاتحاد المغاربي"، علاوة على "الغيوم السياسية" التي تلبد سماء المنطقة بين الفينة والأخرى، من قبيل قضية "ليبيا ولوكربي"، وبعض التوترات أو "سوء الفهم" بين ليبيا وتونس، أو بين المغرب وموريتانيا.
ومرت العلاقات المغربية - الجزائرية في كثير من محطاتها الرئيسة بتوترات وتبادل اتهامات، فالمملكة تتهم جارتها الشرقية بالدعم السياسي واللوجيستي لجبهة البوليساريو التي تطالب بانفصال الصحراء عن سيادة المغرب، بينما الجزائر ما فتئت تتهم الرباط بتعمد إغراقها بالمخدرات وخنق اقتصادها.
وبلغت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر حد إعلان هذه الأخيرة القطيعة في أغسطس (آب) من السنة الماضية، جراء ما سمتها "المؤامرات الدنيئة التي تحيكها المملكة ضد الجزائر"، بينما المغرب نفى هذه الاتهامات ورمى جارته بالتصعيد، كما أعلن أكثر من مرة مد يده للمصالحة الثنائية.
ما زاد الطين بلة الأزمة السياسية التي تفجرت أخيراً بين المغرب وتونس أيضاً، بعد أن استقبل الرئيس التونسي قيس سعيد زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي لحضور قمة "تيكاد 8"، وهو ما دفع الرباط إلى استدعاء سفيرها حسن طارق للتشاور، وردت تونس بالقرار نفسه.
وفي الوقت الذي اعتبرت الرباط استضافة سعيد لزعيم البوليساريو "عملاً خطيراً وغير مسبوق"، وبأنه نتيجة تراكم أعمال عدائية ضد المغرب، لكن تونس اعتبرت أن "موقفها ثابت بالحفاظ على الحياد التام في قضية الصحراء والتزام الشرعية الدولية".
طريق التكتل
في هذا السياق، قال رئيس منظمة العمل المغاربي ومدير مركز البحوث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات إدريس لكريني، إن منظمة الاتحاد المغاربي لم تكن بخير منذ تأسيسها، فلحظة التأسيس كانت بمثابة حلم وأمل وتطلع إلى المستقبل، خصوصاً أن الأمر كان يتعلق برهان تاريخي خطه الأجداد وزعماء المقاومة ضد الاستعمار في المنطقة المغاربية.
وأضاف لكريني في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أنه "رهان يحمل أبعاداً استراتيجية بالنظر إلى المقومات البشرية والاقتصادية والحضارية والثقافية المتوافرة، والمشترك الذي يجمع شعوب المنطقة، وهي مقومات لم تجتمع لأي تكتل عالمي آخر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق الأستاذ الجامعي، منذ ذلك الحين تحققت بعض المكتسبات التي لا يمكن إغفالها على الرغم من محدوديتها، مثل إحداث مؤسسات الاتحاد المغاربي، ووضع الإطار القانوني للاتحاد، وترسيخ ثقافة التواصل بين الشعوب المغاربية، وإطلاق مجموعة من الشعارات آنذاك مثلت أملاً لشعوب المنطقة لتحقيق التكامل الاقتصادي والتواصل الاجتماعي.
واستطرد رئيس منظمة العمل المغاربي بأن محطات سياسية قاسية عرقلت هذا المسار وهذا الحلم المغاربي، من قبيل قرار إغلاق الحدود المغربية الجزائرية، والقطيعة التي تم إعلانها من جانب واحد من طرف الجزائر، ثم الأزمة الدبلوماسية المندلعة حديثاً بين المغرب وتونس.
وأبرز لكريني أن الاتحاد المغاربي يوجد في محطة مفصلية أمام طريقين، الأول طي الخلافات والاستئناس بالاتحاد الأوروبي الذي لم تمنع ترسبات الحروب من نظر الدول الأوروبية إلى المستقبل وبناء إحدى أقوى التكتلات الاقتصادية بالعالم، وهو ما يفرض استحضار حجم التهديدات التي باتت تواجه المنطقة المغاربية، خصوصاً مع تنامي إشكالات الأمن الشامل، الغذائي والطاقي والصحي، والتحديات المرتبطة بالأطماع الخارجية التي تنتعش وسط هذه الخلافات.
ولفت المتحدث ذاته إلى ما سماه "حجم الهدر الكبير الذي يخلفه عدم التنسيق بين الدول المغاربية الخمسة، خصوصاً أن المنطقة تعد إحدى المناطق الأقل ارتباطاً اقتصادياً في العالم، وهو أمر مخجل إذا استحضرنا حجم الثروات والفرص والموارد البشرية التي تكتنزها هذه البلدان مجتمعة.
طريق مدمر
وأشار رئيس منظمة العمل المغاربي إلى أن "الطريق الثاني لا أحد من الشعوب المغاربية يتمناه، هو تكريس القطرية الضيقة وإرساء سياسة الحدود المغلقة وتوريث الأجيال الكراهية والضغائن، وتهميش وإهمال المكتسبات المتحققة على الرغم من أقليتها، وعدم استيعاب التحولات الدولية التي تقتضي إقامة التكتلات"، مبرزاً أن هذا طريق محفوف بالمخاطر تشجع عليها قوى إقليمية تنفخ في الخلافات لتسهيل تطبيق أجندتها الاستعمارية".
واستدل لكريني بما يجري في ليبيا، وقال إن "الوضع المتأزم في هذا البلد المغاربي ما كان يصل إلى ما وصل إليه لو كان هناك تكتل مغاربي قوي يساعد الليبيين على تجاوز محنتهم"، مشيراً إلى أن أي خطر يلحق بليبيا هو خطر يحدق بالدول المغاربية، بالتالي استقرار ليبيا هو ضمنياً استقرار للدول المغاربية.
وزاد أن "ما نلاحظه اليوم من مناورات فرنسية في المنطقة المغاربية، فتارة تعانق الجزائر على حساب المغرب، وتارة أخرى تميل إلى المغرب وتنبذ الجزائر، تعد مناورات تبحث باريس من خلالها عن مصالحها وتحقيق فرص من هذا الطرف أو ذاك، وإطالة أمد هذه الخلافات"، متابعاً أنه "حان الوقت لتستوعب الدول الخمس حجم المؤامرات التي تحيط بها وتعوق التنمية وترهن الحاضر والمستقبل".
واستطرد "هذا الطريق إذا ما تم السير فيه سيكون مكلفاً ومدمراً لجميع شعوب ودول المنطقة المغاربية، باستحضار موقعها الاستراتيجي، والإمكانات الضخمة المتوافرة، من ثروات بشرية ومعدنية وتنموية، كما أن في حال مواصلة سلك هذا الطريق ستكون البلدان المغاربية عرضة لمزيد من التدخلات الأجنبية".
ووفق المتحدث، "يتجلى الرهان في تفعيل الاتحاد المغاربي، وإعطائه دفعة من خلال إرساء الحوار بين الدول المغاربية، وهو رهان جماعي يقتضي تفعيل الاتفاقيات المبرمة، وفتح الحدود المغلقة، وتجاوز الخلافات والضغائن والتحريض من هذا الجانب أو ذاك، من أجل تجاوز الهدر التنموي، والعمل على تشبيك العلاقات الاقتصادية، بالتالي ستختفي الخلافات بشكل تدريجي".
وشدد لكريني أيضاً على أن "المدخل الديمقراطي يعد مدخلاً أساسيا لتفعيل الاتحاد المغاربي، لأن غياب الممارسة الديمقراطية لا يمكن أن يفرز اتحاداً مغاربياً ديمقراطياً، فالممارسة الديمقراطية هي التي دفعت الاتحاد الأوروبي إلى الأمام من خلال إرساء إصلاحات سياسية وحقوقية وتشريعية.
ودعا رئيس منظمة العمل المغاربي البلدان الخمسة إلى القيام بإصلاحات سياسية حقيقية تنفتح فيها على إرادة الشعوب، لأن قرارات إغلاق الحدود وإعلان القطيعة واحتضان الانفصال، وقائع لا تمت بصلة إلى الإرادة الشعبية للدول المغاربية"، مطالباً بالمسارعة إلى إنقاذ الوضع واتخاذ قرارات حاسمة تتجاوز الحسابات الضيقة ومنطق الربح المصلحي إلى منطق الربح الجماعي.
هدر وحل
هذا الهدر التنموي الذي أشار إليه لكريني رصدته أبحاث ودراسات أكاديمية أجمعت على فداحة الفرص الضائعة التي يتكبدها "الاتحاد المغاربي" بسبب الفرقة الحاصلة وعدم التنسيق بين أعضائه، نظراً إلى الخلافات السياسية المتفاقمة.
وفي هذا الصدد، اعتبرت دراسة للمعهد المغربي لتحليل السياسات أن المنطقة المغاربية تعتبر إحدى المناطق الأقل اندماجاً في العالم سياسياً واقتصادياً، إذ تسجل نسبة التبادلات التجارية داخل المنطقة أقل من 5 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية للبلدان المغاربية، وهي نسبة أقل بكثير من جميع الكتل التجارية الإقليمية الأخرى في جميع أنحاء العالم.
ووفق المصدر ذاته، "زيادة التكامل بين البلدان المغاربية يتضمن انعكاسات إيجابية من الناحية الاقتصادية، بحيث سيجعل المنطقة أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي المباشر، ويساعد على خفض تكاليف التجارة داخل المنطقة وحركة رأس المال والحركة العمالية، وزيادة كفاءة تخصيص الموارد، كما أنه سيجعل المنطقة المغاربية أكثر مرونة لمواجهة الصدمات وتقلبات السوق"، لكن هذا غير حاصل في الواقع.
وبالنسبة للمعهد البحثي المذكور، يرجع عدد من الباحثين تعثر الاتحاد المغاربي إلى التوترات بين الجزائر والمغرب، التي تشكل أكبر عقبة لتحقيق أي تقدم في مسار الاندماج المغاربي، لا سيما بسبب الخلاف المغربي - الجزائري بخصوص ملف الصحراء.
وتبعاً للدراسة عينها، تكلفة عدم الاندماج المغاربي مرتفعة، خصوصاً من الناحية الاجتماعية، فقد ولد هذا الفشل إحباطاً لدى كثير من مواطني هذه المنطقة الذين تربطهم شبكة علاقات اجتماعية ممتدة وهوية ثقافية مشتركة، وكان لإغلاق الحدود بين المغرب والجزائر منذ عام 1994، وكذا تشديد الخناق على تجارة التهريب آثار اجتماعية بارزة، لا سيما على مواطني المناطق الحدودية.
واقترحت الدراسة المعنية "بديلاً أكثر براغماتية، يعتمد على مساهمة أكبر للمجتمع المدني في بناء شبكات مدنية عابرة للحدود، وأيضاً عبر تمتين العلاقات الاجتماعية بين المواطنين المغاربة كنوع من الدبلوماسية الشعبية، باعتبارها بديلاً عن الدبلوماسية الكلاسيكية التي تعتمد على العلاقات المؤسساتية بين الدول".