في مثل هذا اليوم الـ14 من سبتمبر (أيلول) قبل 200 عام تمكن شاب فرنسي متبحر في اللغات القديمة وهو جان فرانسوا شامبليون من فك شفرة اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) من خلال مقارنة ثلاثة نصوص متماثلة كانت مكتوبة على "حجر رشيد" بثلاث لغات قديمة، هي اليونانية والديموطيقية والهيروغليفية، فما قصة هذا الاكتشاف وكيف غير من فهم العالم الحضارة المصرية القديمة والحضارات الأخرى؟
وسط احتفال بعض المتاحف ومراكز علم المصريات في الولايات المتحدة وعديد دول العالم بذكرى مرور 200 عام على فك رموز الهيروغليفية، يستعيد المتخصصون ومحبو التاريخ وعلوم الحضارات قصة هذا الاكتشاف الذي غير كثيراً من المفاهيم التي كانت سائدة، وأتاح التعرف على أفكار وحياة قدماء المصريين، وفهم التكوين الديني والاجتماعي لعالمهم بعمق أكبر، بل وبعلاقاتهم وتفاعلهم مع الحضارات الأخرى المجاورة لهم في الشرق الأوسط وأفريقيا خلال هذه العصور السحيقة، فما السياق التاريخي والأحداث التي قادت إلى هذا الكشف عام 1822 على يد شخص فرنسي في مقتبل العمر كان شغوفاً باللغات القديمة؟
حملة نابليون
بحلول نهاية القرن الـ18 كانت فرنسا في حال حرب مع بريطانيا، وسعت إلى تعطيل هيمنة عدوها على البحار وطرق التجارة مع الهند، ولهذا كانت السيطرة على مصر ستمنح فرنسا موطئ قدم يمكن من خلاله التوسع في البحر المتوسط، فتولى نابليون بونابرت القائد الطموح غزو القوات الفرنسية مصر عام 1798 وقاتل المماليك المسيطرين عملياً على إقليم شمال أفريقيا الذي كان آنذاك جزءاً من الإمبراطورية العثمانية.
وفي حين أن الهدف الرئيس للحملة المكونة من 35 ألف جندي كان عسكرياً، لكنه تضمن كذلك غرضاً ثانوياً، وهو جمع المعلومات العلمية والتاريخية عن مصر التي اعتقد كثيرون في فرنسا أنها حضارة قديمة مكافئة لليونان وروما، ولهذا رافق القوات أكثر من 160 باحثاً وفناناً، عرفت رسمياً باسم لجنة العلوم والفنون في مصر، وانتهى الأمر بتقديم أكبر مساهمة تاريخية على مدى سنوات إذ ولدت ما أصبح يعرف في أوروبا باسم "علم المصريات" الذي كشف للعالم تاريخ حضارة عظيمة حكمت على طول نهر النيل آلاف السنين.
اكتشاف "حجر رشيد"
ومع الأسابيع الأولى لانتشار قوات نابليون في مصر، وقعت حادثة مهمة بمحض الصدفة غيرت مجرى التاريخ، ففي الـ19 من يوليو (تموز) 1799، احتلت مجموعة من القوات الفرنسية بقيادة بيير فرانسوا بوشار، حصناً قديماً متهدماً في ميناء رشيد المطل على البحر المتوسط شرق الإسكندرية (المعروف لدى الإيطاليين والفرنسيين باسم روزيت)، حيث كانوا يستهدفون تعزيز دفاعاتهم استعداداً لمعركة محتملة مع قوات الإمبراطورية العثمانية.
لكن خلال هدم جدار قديم اكتشفوا لوحاً حجرياً شبيه بالغرانيت بارتفاع أربعة أقدام (حوالى1.2192 متر)، وعرض 2.5 قدم (حوالى 0.762 متر) منقوشاً على وجهه الداكن بحروف ورسوم تتضمن أحرف هيروغليفية ونص آخر باليونانية القديمة، ثم نص ثالث غير معروف (يعرف الآن باسم النص الديموطيقي)، وتساءل القائد بوشار عما إذا كانت النصوص الثلاثة تقول الشيء نفسه بلغات مختلفة، ولهذا كان يتعين على علماء الحملة كسر الشفرة التي ستلقي الضوء بعد ذلك على مجد الحضارة المصرية القديمة.
النص اليوناني
غير أن فك رموز الحجر كان طموحاً كبيراً بالنسبة إلى علماء أواخر القرن الـ18، لأن القدرة على القراءة والكتابة بالهيروغليفية، كانت تضاءلت مع ظهور العصر المسيحي في مصر واختفت تماماً مع تراجع استخدام الكتابة الهيروغليفية في نهاية القرن الرابع بعد الميلاد، ولهذا لم يتمكن علماء الحملة سوى من ترجمة النقش اليوناني لحجر رشيد الذي اتضح أنه مرسوم صادر في عصر بطليموس الخامس الذي تولى العرش عام 204 قبل الميلاد وتوفي عام 180 قبل الميلاد، وأصدر الكهنة هذا المرسوم لتكريم الفرعون وإعلان ولائهم له في وقت كانت المملكة البطلمية في حال حرب وتتعامل مع ثورة داخلية.
واستخدم الملوك البطالمة اللغة اليونانية كونهم منحدرين من جيوش الإسكندر الأكبر الناطقة باليونانية بعدما دخلوا مصر في القرن الرابع قبل الميلاد، بينما كانت الهيروغليفية مخصصة للمعابد والكهنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما كان الفرنسيون يخططون لنقل "حجر رشيد" إلى باريس لفك طلاسمه، هاجمهم البريطانيون من البحر وهزموهم عام 1801، وسمحوا للفرنسيين بالإخلاء والخروج من مصر، لكن طلبوا منهم تسليم مجموعة من الآثار قبل المغادرة، كان من بينها "حجر رشيد" الذي شق طريقه عام 1802 إلى لندن، إذ تم عرضه في المتحف البريطاني فور وصوله تقريباً، ومنذ ذلك الحين أصبح السباق مفتوحاً أمام العلماء من مختلف البلدان لاستخدام النص اليوناني وبدء عملية تحديد العناصر في النصوص الهيروغليفية المقابلة لها وترجمتها من هذا الحجر غير العادي بما يوفر المفتاح لفك رموز الشفرة الهيروغليفية.
تسابق بريطاني فرنسي
تسابق العلماء لترجمة "حجر رشيد" لكن على رغم مساهمة مجموعة متنوعة من العلماء في مختلف أنحاء أوروبا في هذا الجهد، إلا أن أهم مساهمتين جاءتا من بريطانيا وفرنسا، إذ تعامل توماس يانغ وهو باحث بريطاني متعدد الثقافات اشتهر بإسهاماته العلمية مع اللغز عبر ترجمة اليونانية القديمة وتدوين ملاحظات مستفيضة عن الهيروغليفية، وحاول بشكل منهجي مطابقة كل واحدة بترجمتها، كما قارن الصور الرمزية بتلك الموجودة على التماثيل الأخرى، ثم تمكن من تحديد الحركات الصوتية التي تمثلها بعض الحروف المرسومة وتعرف على بعض الأحرف، واسم الملك في الكتابة الهيروغليفية وأدرك كيفية جمع الكلمات معاً.
وفي فرنسا حدد الباحث أنطوان إسحاق سلفستر دي ساسي ويوهان سكربلاد الدبلوماسي السويدي في الوقت نفسه العلامات الصوتية في أسماء الملوك والملكات الموجودة في خراطيش (الشكل البيضاوي الذي يحتوي على الأسماء الملكية) من خلال النقوش على "حجر رشيد" ونصوص أخرى.
دور شامبليون
لكن جان فرانسوا شامبليون الفرنسي المعروف باسم "مؤسس علم المصريات" هو الذي تمكن في النهاية من فك الشفرة عام 1822، إذ لم يكن لدى يانغ والعلماء الآخرين خبرة في اللغة القبطية، التي كان شامبليون يجيدها ولديه معرفة واسعة بمصر، فقد اكتشف أن الخط الديموطيقي وهو نظام الكتابة الثالث على "حجر رشيد"، ينقل المقاطع وأن الحروف الهيروغليفية تمثل حركات الأصوات القبطية، ولم تأت هذه المعرفة الواسعة من فراغ، فقد كان شامبليون شغوفاً باللغات القديمة منذ الصغر، وأصبح على دراية باليونانية واللاتينية والأمهرية (لغة سامية من إثيوبيا) والصينية والقبطية المصرية.
وظهرت عبقرية شامبليون منذ سن 16 سنة، حين قدم ورقة بحثية أمام أكاديمية "غرونوبل" في شرق فرنسا عام 1806 كانت جديرة بالملاحظة، فقد قدم المراهق واسع المعرفة بشكل مذهل ادعاء جريئاً للغاية، اعتقد فيه أن اللغة المصرية القديمة استمرت حية على شكل اللغة القبطية.
وعلى رغم أن تأكيده لم يكن صحيحاً تماماً (القبطية ليست مطابقة للمصرية القديمة ولكنها مشتقة منها)، فإن رؤى الباحث الشاب أسهمت لاحقاً في حل أحد أعظم الألغاز العلمية في القرن الـ 19.
هوس مبكر
ويعود هوس شامبليون باللغة القبطية وبمصر تحديداً إلى نشأته، فقد ولد في فيجيا جنوب فرنسا عام 1790، وشكلت الثورة الفرنسية وصعود نابليون بونابرت طفولته، وساعده في الاطلاع والقراءة كون والده تاجراً للكتب، وعلى رغم أن أباه كان مدمناً على الخمر، إلا أن شقيقه الأكبر جاك جوزيف كان الداعم والمشجع له، وفي سن الـ 17 أصبح شامبليون تلميذاً للباحث سلفستر دي ساسي الذي كان يحاول فك رموز "حجر رشيد" في وقت كانت العاصمة الفرنسية مليئة بالقطع الأثرية المصرية من حملة نابليون، وكان نشر كتاب "وصف مصر" الذي كتبه علماء حملة نابليون جارياً مع عديد من الرسومات للتماثيل والآثار المنقوشة.
أما شغفه باللغة القبطية فتولد من خلال قراءة عديد من النصوص التي نقلت إلى باريس من مكتبة الفاتيكان في روما، وفي عام 1815 أصدر شامبليون قاموساً للغة القبطية تمكن من تقديمه لنابليون قبل هزيمته في معركة "واترلو" بحسبما يشير موقع "ناشيونال جيوغرافيك".
وعلى رغم أن اللغة القبطية كانت مكتوبة بحروف مشتقة من اليونانية في الغالب، إلا أنها احتفظت ببعض التراكيب اللغوية والمفردات الخاصة باللغة المصرية القديمة، وكان شامبليون مقتنعاً بأن معرفته الكاملة باللغة القبطية ستكون المفتاح لفك رموز الكتابة الهيروغليفية.
حل اللغز
درس شامبليون جيداً أبحاث يانغ ونقوش "حجر رشيد"، فضلاً عن نقوش أخرى مكتوبة باليونانية والهيروغليفية موجودة على مسلة نقلها إلى إنجلترا جامع آثار إنجليزي من معبد "فيلة" في مصر، وعلى رغم بعض التقدم والتطورات الرئيسة التي أنجزت عبر السنين ظل شامبليون وغيره من العلماء غير قادرين على تفسير ما قالته الهيروغليفية بالفعل، إذ إن ما تمكن العلماء الأوائل من معرفته حول تمثيل الصور أسماء مثل البوم والنحل والخبز والآلهة والمباني والقوارب لم يفرز في النهاية سوى هراء، وظل عديد من العلامات الأخرى مفقوداً، مما يشير إلى أن اللغة لم تكتب باستخدام أبجدية بسيطة.
لكن في يوم الـ14 من سبتمبر عام 1822 عندما فك شفرة اسم "رمسيس" بالكامل في نص هيروغليفي من معبد "أبو سمبل" الذي بناه "رمسيس الثاني"، أدرك شامبليون أن الاسم تم تشكيله من خلال مزيج من الرموز والحركات الصوتية كلها مرة واحدة، وهنا اندفع شامبليون منتشياً وصرخ ليخبر أخاه بالعبارة التاريخية الشهيرة "وجدتها، فهمتها"، ثم أغمي عليه ولم يتعاف إلا بعد خمسة أيام، وبعدها أصدر كتاباً يتضمن قائمة من 25 علامة وحركة صوتية مؤكدة بالخط الديموطيقي والهيروغليفية.
دلت كلمة "رمسيس" على مثال جيد يشير إلى مدى تعقيد النظام اللغوي الذي كشف عنه شامبليون في أعماله، ولعبت العلامات أدواراً مختلفة في اللغة الهيروغليفية، ولم تكن كلها تمثيلات رمزية أو لفظية بحتة، إذ يمكن أن ترمز العلامات الصوتية إلى صوت واحد أو صوتين أو ثلاثة أصوات.
كان هذا الاختراق قبل 200 عام بالضبط، بداية رائعة لمساهمة شامبليون الهائلة في دراسات الكتابة المصرية القديمة، وهو يدين بالكثير لـ "حجر رشيد"، ومع ذلك فإن عمله مع النصوص الأخرى ومعرفته التي لا مثيل لها باللغة القبطية واللغات السامية الأخرى، وتفانيه طوال حياته في دراسته واطلاعه أعطته ميزة على منافسيه الإنجليز.
أب علم المصريات
قرب نهاية حياته غادر شامبليون المكتبات وأمضى عقوداً من البحث الصبور وسافر إلى مصر ليرى النقوش في موقعها الأصلي، وفي أغسطس (آب) عام 1828 وصلت جولته في مصر التي استمرت 16 شهراً إلى الشلال الثاني لنهر النيل جنوب معبد "أبو سمبل"، وسجل شامبليون مغامرات رحلته في سلسلة من الرسائل لأخيه جاك جوزيف متخمة بالحروف والرسومات، ووصف سعادته بارتداء الزي المصري، ومع ذلك كان شامبليون معبراً عن عصره الاستعماري، فعلى رغم ولعه وحبه للآثار المصرية، إلا أنه أمر بإعادة لوحة جدارية من قبر "سيتي الأول" في وادي الملوك بالأقصر إلى فرنسا.
وعند عودته إلى فرنسا عام 1829 تدهورت صحة شامبليون، وأدى إجهاد أسفاره في مصر إلى نوبات متكررة من المرض لبقية حياته، إلى أن توفي في باريس عام 1832 عن عمر يناهز 41 عاماً، لكنه ترك خلفه كتابه المؤلف من 1824 ملخصاً حول النظام اللغوي المصري القديم على 400 صفحة من المناقشات، ومجلداً منفصلاً من اللوحات مع كلمات وعلامات ومجموعات الإشارات بالهيروغليفية والخط الديموطيقي والقبطي.
كان شامبليون أكبر مساهم في البحث الهيروغليفي لأي عالم في ذلك الوقت، وأتاح ذلك لعلماء المصريات مساحة واسعة مكنتهم من الاطلاع على ما وصل إليه قدماء المصريين، ما جعل اسمه مخلداً في التاريخ كأب لعلم المصريات "إيجيبتولوجي".
عالم من الاكتشافات
ووفقاً لمجلة "ريدرز دايجست" الأميركية فإن فك رموز الهيروغليفية حول الحضارة المصرية من شيء مجهول لا نعرف عنه شيئاً، إلى كتاب مفتوح استحوذ على خيال العالم، فقد اكتشف علماء المصريات إضافة إلى قصص الأهرامات والأسر الفرعونية الحاكمة والسجلات المكتوبة، إرثاً ثميناً من الاختراعات والاكتشافات التي غيرت مجرى التاريخ وأدت إلى تطور العالم الحديث، إذ كان قدماء المصريين على دراية جيدة بفهم الأمراض المختلفة وكانوا ماهرين في علاجها واكتشفوا عديداً من النصوص الطبية التي تصف الإجراءات والوصفات الطبية بتفصيل كبير وأجروا الجراحات.
وفي الرياضيات كان المصريون القدماء علماء بارعين عرفوا كيفية إجراء عمليات حسابية مثل الجمع والطرح والضرب والقسمة وكانوا أول من توصل إلى مفهوم الكسور الأساسية وتمتعوا بمعرفة جيدة في الهندسة، وتشير الأهرامات إلى مستوى المعرفة الرياضية والهندسية التي يجب أن تمتلكها هذه الحضارة من أجل بناء مثل هذه الهياكل الضخمة.
وعلاوة على اهتمام المصريين القدماء من الرجال والنساء بالجمال المرتبط بالقداسة واستخدام المكياج والشعر المستعار، فإن التقويم المصري يعد من بين أول أنظمة التأريخ التي عرفتها البشرية، فقد كانوا علماء فلك مهرة أنشأوا تقويماً للسنة القمرية، وقدموا لاحقاً تقويماً شمسياً يشبه إلى حد كبير التقويم الذي نستخدمه اليوم حيث يتكون العام من 365 يوماً.
هل يعود "حجر رشيد"؟
أصبحت ترجمة "حجر رشيد" العمود الفقري لعلم المصريات، وينسب الفضل إلى "الحجر" الذي أصبح أحد أهم الآثار في التاريخ، لكنه ظل مثيراً للجدل باعتباره غنيمة للحرب والتوسع الاستعماري، وغالباً ما يطرح التساؤل: هل تم نقل "حجر رشيد" إلى إنجلترا أم سرقه البريطانيون؟
والإجابة تعتمد على من تسأل، لكن منذ سنوات عدة كانت هناك دعوات متكررة إلى إعادته لمصر، وهو طلب جددته القاهرة أخيراً بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لفك رموزه، ومع ذلك لا يزال في المتحف البريطاني حيث يستقبل أكثر من ستة ملايين زائر سنوياً.
بريق دائم
لكن لماذا يحتفظ "حجر رشيد" ذو المظهر البسيط بهذا البريق بعد قرنين من فك لغز شفرته؟ يقول عالم المصريات جون راي لمجلة "سميثسونيان" إن الحجر لم يكن المفتاح لفك طلاسم اللغة المصرية القديمة فقط، وإنما كان مفتاحاً لفك التشفير نفسه، وبعدما كان العالم يدرك وجود حضارات كبيرة مثل مصر إلا أنها كانت صامتة، ومع فك رموز "حجر رشيد" تمكنوا من التحدث بصوتهم، وفجأة اكتشفنا مناطق كاملة من التاريخ.