يؤسس كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" للكاتب كريم جمال الدين (مكتبة تنمية - القاهرة 2022) سردية جديدة حول الدور السياسي الذي أدته أم كلثوم، المطربة العربية الأشهر في القرن العشرين. وينطلق جمال الدين، الآتي من خلفية دراسة العلوم السياسية، من تتبع دقيق للسنوات العشر الأخيرة في حياتها، بعد أن تحول صوتها العذب من التبشير بالحب وتناول عذاباته، إلى سلاح فعال وأداة من أدوات إزالة آثار العدوان الذي خلفته هزيمة يونيو (حزيران) 1967.
يجدد الكتاب الذي صدر في 600 صفحة، السجال حول الوجوه المتعددة لأم كلثوم وعلاقتها بالسلطة، إلا أنه لا يندفع باتجاه الإدانة المطلقة لأدوار "الست" على النحو الذي بينه الكاتب اللبناني حازم صاغية في كتابه "الهوى دون أهله" (دار الجديد، بيروت 1991) حين اعتبر "أم كلثوم مجرد حكواتية تعيد وتعمم قول النظام كأحد أجهزة الدولة التوتاليتارية الناصرية". نظر صاغية إلى "ثومة" في "صورة الزعيم" وحاسبها سياسياً وليس فنياً.
وفي المقابل لم يبالغ كريم جمال في "أسطرة" حضور "الست"، بل دان بوضوح تعامل وسائل الإعلام الرسمية معها في إطار "ميتافيزيقي" خالص، ضاعف من تأثيره كافة السير التي كتبت حول حياتها ونشأتها العصامية، مما جعلها فوق النقد والتحليل.
تفكيك الأسطورة
هكذا اشترك كريم مع صاغية في تبني فكرة "تفكيك الأسطورة"، إلا أن كريم جمال وبفضل تركيزه على تناول حفلات المجهود الحربي فقط تحول من ناقد إلى مرافق، صاحب أم كلثوم في جولاتها وأوشك على تعداد أنفاسها، من فرط تركيزه الدقيق على "لملمة" قطع "بازل" كثيرة، أعاد تركيبها لصنع جدارية فريدة تعزز النظر إلى المغنية الفريدة كـ"استثناء" لا يجوز تعميمه، فهي لا تتكرر.
ينظر الكتاب إلى سيدة الغناء العربي كمؤسسة ذات أدوار متعددة، تنامت في سياقات مختلفة بل ومتناقضة، في توجهاتها. إلا أن مكانتها لم تتراجع البتة في العهود السياسية التي تعاقبت عليها، وأوجدت لها مكانة متميزة استناداً لقاعدة جماهيرية تتسع على نحو ما زال يثير الدهشة. وذلك على الرغم من بروز رؤى نخبوية تناهض حضورها وتنظر لها كقوة محافظة تعززت بفضل ارتباطها بالنخب الحاكمة.
يتأمل الكتاب في كيفية تحويل أم كلثوم إرثها الغنائي الطويل خلال سنوات الهزيمة إلى سلاح فعال، إدراكاً منها لقيمته كرابط من روابط العروبة المتجددة. أما هي فقد تحولت وجه مصر، وكانت بمثابة "قائد ثقافي" كما توضح فرجينيا دانيلسون في كتابها المهم "صوت مصر". وتكمن ميزة كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" في اعتماده على مصادر أولية وأرشيفات الصحف والمجلات العربية التي تابعت حفلات المجهود الحربي.
التخلص من المقولات الجاهزة
وبفضل هذه المعالجة، تخلص المؤلف من عبء تبني مقولات جاهزة وشائعة حول علاقة "ثومة" بـ"السلطة الناصرية"، كما لم يتورط في الرد على الآراء التي نظرت إلى تلك الحفلات كمحاولة من أم كلثوم لـ"تبيض وجهها"، رداً على اتهامها بأنها "أحد أسباب الهزيمة، لأن صوتها يخدر الناس بدلاً من أن يستحثهم"، كما زعم البعض.
وفي المقدمة التي كتبها الناقد اللبناني فيكتور سحاب، تأكيد على تفرد المؤلف بهذا المدخل الاستثنائي في التعاطي مع مغنية هي "أهم صوت نسائي في تاريخ العروبة، دخل ساحة المعركة العسكرية والسياسية كرمز للإرادة المصرية الجسورة التي أبت أن تحطمها الهزيمة". وجد سحاب في تعاطي أم كلثوم مع تلك السنوات الصعبة شعورا طاغيا بالمسؤولية الوطنية، جعلها صورة جديدة للآلهة المصرية "إيزيس" التي طافت الوطن لتجمع أشلاء "أوزوريس"، ذلك الإله المتجسد في الشعب الذي منحها هالات التقديس والعصمة، ورفعها إلى مصاف بطلات السير الشعبية.
وشاع تعبير المجهود الحربي بعد خطوة تبنتها أم كلثوم عقب الهزيمة مباشرة، وبدأتها فعلياً في 20 يونيو 1967، عندما حولت شيكاً بمبلغ 20 ألف جنيه استرليني إلى خزانة الدولة المصرية، كانت قد تلقته من دولة الكويت، مقابل إذاعة بعض تسجيلاتها الغنائية هناك. ولم يعلن عن ذلك التبرع إلا بعدما سرب أحد العاملين في وزارة المالية، الخبر إلى الصحافة المصرية، فكتب تفاصيله الكاتب موسى صبري (1925- 1992) في مقال قصير في صحيفة "الأخبار" في 27 يونيو 1967 تحت عنوان: "خذوا القدوة من أم كلثوم". وفيه دعا الفنانين المصريين إلى الاقتداء بمواقف أم كلثوم الوطنية، خصوصاً وأن البعض وسط أجواء الهزيمة قد سافر إلى لبنان بحجة حر الصيف في القاهرة.!
توحيد الجهود
وفي السياق ذاته أشرفت أم كلثوم على توحيد جهود عدة جمعيات مدنية وأهلية تحت عنوان "التجمع الوطني للمرأة المصرية"، لمعاونة مؤسسات الدولة في رعاية أسر الشهداء وجرحى الحرب. وقامت بحملة شعبية لجمع التبرعات بالذهب لتعويض خزانة الدولة المصرية عن نقص العملات الأجنبية، وكان أول المتبرعين شقيقان من مدينة قليوب (20 كلم شمال غربي القاهرة) التقت بهما أم كلثوم، وتوالت بعدها التبرعات. لقد تشجع الجميع على المشاركة في الحملة، وقدمت "الست" الكثير من مصاغها وما تقتنيه من قطع حلي ومجوهرات لخزانة الدولة. وبلغت قيمة ما جمعته في أربعة شهور فقط ما زاد عن مئة كيلوغرام من الذهب، إضافة إلى ما أعلنته عن إقامة أربع وعشرين حفلة في مختلف محافظات مصر، وكانت محطتها الأولى في مدينة دمنهور (ليلة 17 أغسطس/ آب 1967). وبعدها توالت الحفلات في العديد من المدن الأخرى في الإسكندرية وطنطا والمنصورة، ثم جاءت حفلاتها الخارجية في باريس، ثم حفلاتها التي طافت عبرها عدة مدن وعواصم عربية (تونس وليبيا والمغرب ولبنان والسودان والكويت وأبو ظبي). وغدت هذه الحفلات، أحداثاً كبرى في ذاكرة أبناء تلك الدول، فقد أقيمت في خيام كبيرة وملاعب رياضية، وأوجدت تقاليد لم تكن موجودة في أماكن أخرى.
ابتكار التقاليد
لا يخلو الكتاب من إشارات دالة على ذكاء كوكب الشرق في بعث رسائل ودّ لجمهورها في تلك البلاد خلال وصلاتها الغنائية، فقد أوجدت علامات ذات دلالة منها "ارتداء ثوب سوداني" أو قفطان مغربي أو الغناء بلهجة خليجية.
ومن ناحية أخرى ساعدت حفلاتها في تحسين علاقة مصر بالعديد من الدول التي كانت طرفاً في نزاعات معها، لا سيما تونس والمغرب. ومن ثم جاءت حفلاتها هناك لإزالة أسباب الفرقة وترميم فكرة القومية العربية وتجديدها، بعد ما أصابها من تصدعات أنتجتها الهزيمة العسكرية.
الأفول المشترك
بدأت حفلات "الست" خارج مصر في باريس، وكانت المرة الأولى والأخيرة، تغني فيها خارج العالم العربي، فهي لم تغنّ في موسكو على رغم تجهيزات الحفلة التي ألغيت بُعيد موت الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
ويرصد الكتاب بدقة صور الدعاية والحفاوة التي استقبلت بها تلك المرأة التي رفعت مكانة المغنية في ثقافتنا العربية، لدرجة أن حرم الرئيس جمال عبد الناصر، وهي السيدة تحية، أقامت لها مأدبة عشاء على شرف نجاحها في باريس. وعندما وصل الرئيس عبد الناصر إلى المنزل جلس مع السيدة أم كلثوم، وسألها عما إذا كان أعضاء السفارة المصرية قد قاموا بأداء الواجب تجاهها، لكن أم كلثوم أخبرته أن السفير عبد المنعم النجار لم يأتِ لاستقبالها في المطار، وأنه أوفد إليها المستشار الثقافي في السفارة، ليكون في استقبالها عند نزولها في مطار لو بورجيه الفرنسي. ووفقاً للكتاب فقد تم نقل السفير النجار، بعد أسابيع قليلة، إلى الإدارة الثقافية للخارجية في القاهرة عقاباً له على الخطأ المهني في حق "صاحبة العصمة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمؤكد أن عبد الناصر غضب لعدم تقدير السفير للسيدة أم كلثوم، وعدم استقبالها وفق مراسم الشرف الكاملة، خصوصاً أن تلك الزيارة قد جاءت في سياق مهمة وطنية نبيلة. هذا كان وزن أو قدر أم كلثوم لدى الزعيم الذي منحها جواز سفر دبلوماسياً، ليسهل مهمتها. وقد تجاوز حزنها على وفاته حدود "الحزن العادي"، شعرت آنذاك أن التغيير اللاحق الذي سوف يتبناه خلفه الرئيس السادات، سوف يشمل عملية إقصاء كاملة لأم كلثوم، أملاً في إبعادها عن المشهد. فهي أيضاً واحدة من "مراكز القوى" التي تمنى لو تخلص منها، فهو كأنما نظر لها كمعادل أنثوي لعبد الناصر بشعبيته الجارفة. وهذا ما يفسر بحسب الكتاب، "التغيير الجوهري في تعامل الصحف الرسمية معها، وندرة الأخبار التي تنشر عنها، على رغم استمرار جهودها لأجل المجهود الحربي حتى سبتمبر (أيلول) 1972، عقب الإشاعات التي تحدثت عن تنافس خفي بين "ثومة" وقرينة السادات التي ابتكرت "لقب السيدة الأولى".
جمع الأموال
جمعت أم كلثوم، بفضل حفلاتها الخارجية، 14 ألف جنيه استرليني من رحلة باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1967، و36 ألف درهم من رحلة المغرب في مارس (آذار) 1968، وكذلك 176 ألف جنيه مصري في رحلة ليبيا عام 1969، و 44 ألف دينار بحريني من رحلة أبو ظبي في نوفمبر عام 1971.
ويقدم الكتاب، بدقة متناهية ما ارتبط بتلك الحفلات، من مشاهد وطرائف وقصص، اعتماداً على أرشيفات مختلفة. فإلى جانب ما كتب في الصحف، قام كريم جمال بتفريغ التغطيات التلفزيونية والإذاعية، التي قدمتها الوفود الإعلامية التي رافقت أم كلثوم في جولاتها.
ويمكن التعامل مع الكتاب وقراءته بصورة تفاعلية بحيث يتمكن القارئ من الوصول إلى تلك الأرشيفات بسهولة، من خلال الوسائط الإلكترونية المختلفة، والتفاعل مع جولات أم كلثوم والاستماع لما قدمته من أغنيات في تلك الحفلات التي تحظى باهتمام خاص لدى جمهورها. فلا تزال حفلات تونس وبعلبك من أهم الحفلات التي قدمت فيها "بعيد عنك"، بينما ينظر الكلثوميون إلى حفلات المغرب باهتمام خاص حيث أدت "رباعيات الخيام" و"هو صحيح الهوى" بتفرد واضح، أما "الأطلال" فكانت درة تاجها في حفلات ليبيا والكويت.