اتبعت معظم البنوك المركزية بدول الخليج مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في رفع أسعار الفائدة للمرة الرابعة هذا العام، للحفاظ على ربط عملاتها بالدولار، وإن كانت الكويت وقطر لم تتطابقا مع الزيادة بشكل كامل.
وأدى عدم التوافق بين الولايات المتحدة، حيث يسير التضخم بأعلى وتيرة في أربعة عقود، واقتصادات الدول الأعضاء الستة في مجلس التعاون الخليجي إلى خلق مساحة إضافية للمناورة لصانعي السياسات المحليين، الذين لا يحتاجون إلى التصرف بالسرعة نفسها لاحتواء ضغوط الأسعار.
على رغم ارتباط العملات الخليجية بالدولار، باستثناء الكويت (سلة عملات يغلب عليها الدولار) فقد نجحت البلدان الخليجية في الإبقاء على معدلات التضخم متدنية، كما استفادت الدول المصدرة للنفط بالمنطقة من العوائد الإضافية من بيع النفط، الذي شهد ارتفاعات في أسعاره خلال الأشهر الماضية.
لكن ما حذر منه عدد من المحللين الماليين في تصريحات لـ"اندبندنت عربية" هو "التضخم المستورد"، الذي ينشأ بسبب اعتماد الدول على السلع والخدمات الآتية من الخارج، فعندما تكون الدولة المصدرة لهذه السلع والخدمات تعاني أصلاً التضخم فإن هذا التضخم ينتقل إلى الاقتصاد المحلي عن طريق السلع والخدمات المستوردة.
مثير للدهشة
مدير إدارة الدراسات والبحوث في مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة "دراسات" عمر العبيدلي قال إنه نظراً إلى سعر الصرف الثابت بين عملات دول مجلس التعاون الخليجي والدولار الأميركي، فمن المتوقع عموماً أن يتحرك تضخم أسعار المستهلكين في الدول الست على نطاق واسع جنباً إلى جنب مع التضخم في الولايات المتحدة، لذلك فإن ظهور الاختلاف بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي مثير للدهشة ويستحق مزيداً من التحليل، على حد قوله.
وأضاف العبيدلي أنه وبينما يظهر التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي اتجاهاً تصاعدياً طوال الفترة الماضية فإنه لا يترك في أي وقت من الأوقات النطاق الذي تستهدفه البنوك المركزية عادة، الذي يكون في الغالب أقل من خمسة في المئة (بعض البنوك المركزية لديها أهداف أكثر صرامة، لكن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة)، وفي المقابل شهدت المملكة المتحدة والولايات المتحدة طوال عام 2022 مستويات غير عادية من تضخم أسعار المستهلكين.
وأوضح أن العوامل المسؤولة عن اعتدال التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي هي عوامل اقتصادية هيكلية، كما يتضح من بيانات أسعار قطاع الطاقة، فعند السعي إلى الحفاظ على استقرار الأسعار فإن الميزة الرئيسة التي تتمتع بها اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي على الاقتصادات الغربية هي نظامها المختلف جوهرياً لتسعير الوقود والكهرباء، وعادة ما يتم دعم أسعار كلتا السلعتين إلى حد أن أسعارهما ثابتة اسمياً.
معدلات تضخم متدنية
من جانبه حذر عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد" للأوراق المالية والاستثمار وضاح الطه المنطقة مما يعرف بـ"التضخم المستورد".
وقال الطه في تصريح" إن الحذر الأساسي هو في حال ارتفعت الأسعار بشكل مفرط، مما سيقود إلى ارتفاع تكاليف السلع التي تستوردها دول المنطقة فتحدث حالة تعرف بـ"التضخم المستورد"، وهو مستبعد حتى اللحظة بسبب استبعاده وصول أسعار النفط إلى مستويات قصوى بسبب احتمال تواضع الطلب على النفط أو عدم وجود طلب قوي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى الطه أنه يجب أن يكون هنا حدود لارتفاع أسعار النفط حتى لا تنعكس إلى حالة تضخم بشكل عام. أضاف أن معظم دول الخليج منتجة للنفط بالتالي ليس هناك تضخم في أسعار النفط، بل إيرادات إضافية تدخل الموازنات العامة نتيجة ارتفاع الأسعار منذ بداية العام، كما أن جميع موازنات المنطقة سجلت فائضاً يمكن الحكومات من تنفيذ مشاريع تسهم في ضخ سيولة وتحريك الاقتصادات بشكل مرن.
وبسؤال عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد" للأوراق المالية والاستثمار عن تداعيات الركود الاقتصادي والارتفاعات القياسية لمعدلات التضخم على المنطقة العربية وتحديداً الخليجية، قال إن معدلات التضخم في المنطقة لا تزال متدنية.
وأشار إلى أن ارتباط العملات الخليجية بالدولار الأميركي باستثناء الكويت دفع البنوك المركزية الخليجية إلى رفع سعر الفائدة، مع العلم أن الدورات الاقتصادية مختلفة، إذ لا تعاني دول المنطقة التضخم، بالتالي رفع الفائدة سيضغط على معدلات التضخم التي لا تستدعي إجراءات قاسية كتلك التي تتخذ من قبل "الفيدرالي الأميركي".
ولفت الطه إلى أن معدلات التضخم في المنطقة مسيطر عليها طبيعياً، ونتيجة لذلك يكون لدى الدول الخليجية بيئة جذب لتلقي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كما تتمتع ببنية تحتية عالمية وبيئة تشريعية ممتازة، كما أن العملات المحلية المرتبطة بالدولار لا تنخفض نتيجة ارتفاع الدولار كما يحصل في دول نامية أخرى.
قرارات أوروبية "غبية"
وعن موجة الركود التي تجتاح الاقتصادات الغربية ومعدلات التضخم القياسية، يعتقد الطه أن "بداية المشكلة تكمن في سوء تقدير البنوك المركزية في العالم وعلى رأسها الفيدرالي الأميركي لما يتعلق بتداعيات ارتفاع معدلات التضخم والاستخفاف باحتمالية وصول تلك الارتفاعات إلى مستويات قياسية غير مسبوقة".
ويرى الطه أنه كلما كانت الإجراءات الاحترازية المتخذة في الوقت المناسب كانت آثار الضرر أقل، وأن هذا التأخير والمقصود به التشخيص والعلاجات وقراءة الأرقام واحتمالات ارتفاعها قد كلف الاقتصادات المتقدمة كثيراً، وتسبب في رفع معدلات التضخم لأرقام قياسية.
وأضاف أنه من المفترض قبل اتخاذ أي خطوة أن يكون هناك خطوات بديلة تعوض الخسائر التي يمكن أن تطاول أوروبا جراء تلك العقوبات على روسيا. ووصف الطه تلك القرارات بـالصعبة خصوصاً تلك المتعلقة بالنفط والغاز الروسي.
ولفت إلى أن أوروبا أخفقت في تعويض إمدادات الغاز الروسي الرخيص سواء كمياً أو سعرياً من مصادر أخرى في العالم، بالتالي أسهمت ارتفاعات أسعار الطاقة بشكل كبير في رفع معدلات التضخم، مما خلق تداعيات بدءاً بالتداعيات الاقتصادية مروراً بارتفاع التكاليف ووصولاً إلى الإفلاس، لتمتد إلى حمى وعدوى تنتقل إلى الجانب الاجتماعي وتخلق موجة تذمر هائلة لدى المجتمعات ستظهر في أي انتخابات مقبلة، حين يتخلص الناخبون من النخب السياسية الحالية نتيجة الانصياع للأوامر الأميركية في الملف الروسي الأوكراني، وعدم قراءة المشهد من زاوية وطنية أو من زاوية مصالح الاتحاد الأوروبي.
تضخم متواضع
من جانبها أشارت شركة "برايس ووار هاوس كوبرز" في تقرير نشر على موقعها إلى توقعات صندوق النقد الدولي لشهر أكتوبر (تشرين الأول)، الذي قال فيها إن التنبؤات الأساسية لشهر يوليو (تموز) تشير إلى تباطؤ النمو من 6.1 في المئة العام الماضي إلى 3.2 في المئة في 2022، بانخفاض قدره 0.4 نقطة مئوية عن توقعات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي في أبريل (نيسان) 2022.
ولفتت الشركة إلى تراجع التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي إلى 2.4 في المئة خلال عام 2022، كما أن توقعات صندوق النقد العربي لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) جعلته أقل عند 2.1 في المئة.
وأضافت أن التوقعات الأحدث تشير أيضاً إلى تضخم متواضع فقط، إذ أعطى متوسط الاقتصاديين الذين استطلعت "رويترز" آراءهم في يناير (كانون الثاني) الماضي نطاقاً من 2.0 في المئة للسعودية والإمارات إلى 2.8 في المئة لقطر.
وأضافت أن السبب الرئيس للاعتقاد أن التضخم سيتبع هذه التوقعات هو أن القيود المتعلقة بالوباء يجب أن تخف مع انحسار موجة كورونا ويجب أن تتلاشى آثار التشوهات الموقتة في الأسعار، مثل العطلات والتعليم، كما أن تخفيف أسعار الطاقة سيساعد أيضاً على تكاليف النقل، إضافة إلى أن الارتفاع الأخير في قيمة الدولار الأميركي بالنظر إلى العملات المرتبطة في دول مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يساعد أيضاً على التخفيف من التضخم المستورد.
عوامل خاصة بكل بلد
وترى "برايز ووتر هاوس كوبرز" أنه قد تكون هناك أيضاً ضغوط تضخمية جديدة في دول مجلس التعاون الخليجي بما في ذلك تأثير متأخر أوسع نطاقاً من زيادة أسعار الغذاء العالمية، التي تظهر بالفعل في قطر والكويت، وعودة تضخم الإيجارات، وتتبع التحول في أسعار العقارات في الإمارات وأماكن أخرى.
وأشارت إلى أن هناك أيضاً عوامل خاصة بكل بلد مثل تأثير ضريبة القيمة المضافة في البحرين، التي ينبغي أن تضيف نحو ثلاثة في المئة إلى التضخم، وكأس العالم في قطر، وتقول ثاني أكبر شركة للخدمات المهنية في العالم إنه لهذه الأسباب يمكن لواضعي السياسات والشركات في الخليج أن يأملوا في تخفيف حدة التضخم لكن لا ينبغي أن يكونوا راضين عن أنفسهم، ويحتاجون إلى الاستعداد للأسوأ.