قبل صدور روايته السير ذاتية "الجلبة" عن دار "لوليفييه" الباريسية كنا نجهل كل شيء تقريباً عن شخص الكاتب الفرنكفوني اللبناني سليم نسيب وحياته. رواية مهمة إذاً، لكن ليس فقط لأنها تلبي فضولنا بتوقف صاحبها فيها عند فصول محورية من حياته، من طريق قصة بطلها وراويها يوسف حسني، الذي هو في الواقع صنوه، بل لأنها تتحول أيضاً تدريجاً إلى قراءة بصيرة لتاريخ لبنان الحديث، إثر تقاطع الفصول المذكورة مع الأحداث الكبرى التي شهدها هذا البلد من منتصف الخمسينيات وحتى مطلع الثمانينيات.
وفعلاً يقسم نسيب نصه إلى ثلاثة أجزاء متمايزة لسرد قصة صنوه، يتمحور كل جزء حول مرحلة مفصلية من تاريخ وطنه والشرق الأوسط عموماً. الجزء الأول الذي ينطلق عام 1956 هو عبارة عن استحضار شعري لطفولة يوسف، نكتشف في مطلعه ولادته في بيروت داخل عائلة يهودية من أب عربي الثقافة، ولد في بغداد وكان يعيش على مسافة من زوجته وابنه ولا يعشق سوى طاولات القمار، ومن أم حلبية خجولة، فرنسية الثقافة ولا تحلم سوى بباريس.
نتعرف بعد ذلك إلى تربية يوسف العاطفية، إلى استيقاظ حواسه، وتحديداً إلى ذلك المزيج من الخوف والرغبة الذي كان يشعر بجلبة تناميه داخله، ويقوده إلى انفعالات واختبارات يتوقف عندها برقة مؤثرة، على خلفية أزمة السويس واحتلال إسرائيل صحراء سيناء اللذين يحضران من بعيد لسبب وجيه، وهو أن مشاغل فتى على وشك الخروج من سن الطفولة تبعد كل البعد من مشاغل الراشدين حوله. صفحات مصبوغة بالحنين ومليئة بطرف وحكايات طريفة لكن شديدة الدلالة في ما يتعلق بالبيئة التي نشأ هذا الطفل فيها، وبرغبته المبكرة في الانفصال عنها وخط مساره الخاص.
سيرة روائية
ويجب انتظار الجزء الثاني من الرواية كي يتمكن الراوي من تحقيق هذه الرغبة. جزء يتقدم بنا 12 عاماً إلى الأمام، حيث نجد يوسف/ نسيب طالباً في "كلية الآداب" الفرنكفونية العريقة، وتتغير نبرة السرد فيه لتصبح سياسية بشكل مفتوح. ولا عجب في ذلك فنحن في عام 1968 وموجة التحرر التي اجتاحت الغرب انطلاقاً من باريس وصلت آثارها إلى لبنان، وسمحت لبعض شبانه وشاباته باقتلاع أنفسهم من أصولهم الإثنية، الاجتماعية أو المذهبية، للانتماء إلى طائفة يشاركهم أفرادها أفكارهم التقدمية العلمانية.
ومع أن الراوي ينخرط في البداية في العمل السياسي للاختلاط بالجنس الآخر، لكن لا يلبث التاريخ أن يلحق به ويجبره على أخذه محمل الجد. هكذا يتحول يوسف بين ليلة وضحاها إلى أحد قادة الحركة الطالبية اليسارية، ويشارك في الصدامات مع مناصري حزب "الكتائب" اليميني. مشاركة تقوده مباشرة إلى السجن بعد أسابيع قليلة من حرب 1967. وأكثر مما يرويه عن العمل السياسي داخل الجامعات اللبنانية نكتشف معه تلك الحقبة من خلال ما اختبره داخل الزنزانتين اللتين رمي فيهما، الواحدة تلو الأخرى. اختبار يدفعه فور إطلاق سبيله إلى مغادرة بيروت للاستقرار في باريس.
وفي الجزء الثالث والأخير من الرواية الذي تدور أحداثه عام 1982 نجد الراوي صحافياً في "عاصمة النور"، يقرر العودة إلى لبنان لتغطية أحداث الحرب الأهلية الدائرة فيه، لصالح الصحيفة التي يعمل فيها. عودة تمنحه فرصاً ثلاثاً، إعادة إنعاش علاقته بأصدقائه القدامى، ومشاهدة آثار الحرب المذكورة على الحجر والبشر داخل مدينته بيروت، وخصوصاً عيش حصارها وقصفها الرهيب على يد الجيش الإسرائيلي. جزء ينتهي بمجازر صبرا وشاتيلا، ويصور بألمعية ودقة تفصيلية كبيرة عبثية الحرب ومآسيها.
رواية طموحة سواء بالفترة الزمنية الطويلة التي تغطيها أو بالمعطيات الشخصية والتاريخية التي توفرها لقارئها، تفتننا "الجلبة" أولاً بالصراحة المؤثرة التي يعتمدها نسيب لسردها، ونستشعرها في كل صفحة من صفحاتها، وبشغفه الظاهر والعميق بمدينة ولادته الذي يلهب نثرها. شغف سبق وألهمه رواية رائعة بعنوان "مجنون بيروت" (1992) ومجموعة قصصية لا تقل روعة بعنوان "مساء في بيروت" (2007)، وتعكسه بقوة تلك الجملة التي نقرأها داخل روايته الجديدة "ستلحق بيروت بك حتى نفسك الأخير، أينما كنت، وهي التي ستغلق عينيك للمرة الأخيرة".
وبفضل هذا الشغف من دون شك نستمتع بالتجول برفقته داخل هذه المدينة، حتى حين كانت أخطر مكان في العالم، ونأسف معه على انهيار لبنان الكوزموبوليتي، المنفتح على الآخر، وتمزق حلم عدد كبير من أبنائه ببلد ينتمي كل فرد فيه إلى وطنه قبل انتمائه إلى طائفته الدينية. وبالنتيجة "نفهم كيف حرم الشعب اللبناني من إرادة العيش المشترك داخل بلد تحول إلى ملعب للمتطرفين داخل طوائفه ولدول الجوار وللمجتمع الدولي"، كما أصاب أحد الصحافيين الفرنسيين في قوله.
سرد وأحداث
لكن قيمة هذه الرواية لا تقتصر على ذلك بل تكمن أيضاً في شخصياتها الكثيرة، المجسدة ببراعة، وفي حبكتها المحكمة والمنسوجة بعناية، على رغم طول الفترة الزمنية التي تغطيها وغزارة الأحداث التي تتناولها. تكمن أيضاً في تفاصيل مثيرة كثيرة تنتظرنا داخلها، وكنا نجهلها أو نتجاهلها، ومنها وجود طائفة يهودية فاعلة في بيروت حتى مطلع الثمانينيات، وصعوبات حياة كثير من عائلاتها التي قدمت إلى هذه المدينة من دول الجوار، ولم تتجرأ على طلب الهوية اللبنانية خوفاً من جذب النظر إلى وضعها الإداري، والتعرض إلى ترحيل قسري. وكذلك الدور الرئيس لبعض أبناء هذه الطائفة في تأسيس الحركات اليسارية العلمانية في لبنان، وتكاتفهم مع الفلسطينيين والانخراط أحياناً في نضالهم، مثل روكو داخل الرواية الذي يقاتل في صفوف "منظمة التحرير الفلسطينية" حتى ترحيل مقاتليها من لبنان. وهناك رالف، أو رؤوف، كما يسميه فلسطينيو مخيم شاتيلا، الذي بقي يدير مستوصفاً طبياً، إلى حين اغتياله على يد متطرف إسلامي. وطبعاً يوسف الذي تبين جميع مواقفه تعاطفه مع الفلسطينيين، ويغادر في النهاية بيروت على متن السفينة التي نقلت ياسر عرفات ومعاونيه إلى اليونان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يكتمل عرضنا لهذه الرواية من دون الإشارة إلى أسلوبها الحيوي والسيال الذي لا يعكس فقط إتقان نسيب المدهش اللغة الفرنسية ودقائقها، بل أيضاً ثراء قاموسه بالمفردات والعبارات. أسلوب يمنح تأملاته الغزيرة ومواقفه داخل هذا النص كل سطوتها. ففي الهوية اليهودية نقرأ "جوهر الهوية اليهودية هو نوع من عدم التوافق بين الذات والذات". وحين يرى صنوه علماً إسرائيلياً قرب مدخل مخيم شاتيلا، يقول "لا أعرف كيف أصف الشعور الذي ينتابني. الحاجز الذي كان يفصل بين العالمين اللذين أنتمي إليهما منذ ولادتي، انكسر فجأة. اندساس هذا العلم انتهاك لا يطاق، مثل لقاء المادة والمادة المضادة ــ وأنا من ينفجر".
وفي معرض ترجمته مشاعر من يعيش حرباً ضارية يكتب ببصيرة "لأننا نعرف أن الموت يحوم، نشعر بأننا أحياء أكثر. كلما تقبلناه داخلنا، كلما فقدت من أهميتها أنانياتنا الصغيرة، ما هو لي وما هو لك. دعابة سوداء وشهية على الحياة. تبين نظرة بعض المقاتلين وحتى بعض اللبنانيين العاديين، أنهم لم يعودوا هنا. مهما كان المقابل لن يعودوا إلى حياتهم السابقة. بالكاد نجرؤ على الاعتراف بذلك، فأولئك الذين لا يعرفون هذا الشعور يمكن أن يغضبوا، لكن السير على حد الشفرة نشوة".
تبقى الأمثولة الكبرى لهذه الرواية التي يلخصها ما كتبه ميلان كونديرا في "الحياة هي في مكان آخر"، ويضعه نسيب فاتحة لنصها "أتعتقدون أن الماضي، لأنه مضى، انتهى وبات غير قابل للتغيير؟ لا، فثوبه مصنوع من قماش متحول، وكلما عدنا إليه نراه بألوان مختلفة".