حين استقبل اللبنانيون فرقة "مياس" في مطار بيروت تعبيراً عن فخرهم بما قدمته للبلد وشعبه ورفعت "اسمه" عالياً في أهم المسارح الدولية، كان في مقابل هذا الافتخار الممزوج بالفرح والاحتفالات وتكرار القنوات التلفزيونية الخبر والمتوج باستقبال الفرقة في المطار، لبنانيون آخرون يشاهدون في بث مباشر وفي الوقت ذاته تقريباً حوالى خمس عمليات اقتحام لمصارف لبنانية من قبل مودعين قرروا استرداد أموالهم المحجوزة من دون وجه حق بأيديهم، طالما أن ليس هناك قانون ولا سلطات تؤمن لهم حقوقهم. كانت القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام الإلكترونية تبث مشاهد وأخباراً من الحدثين اللذين يحصلان في الوقت ذاته، وربما في شوارع متقاربة.
أمثلة على التناقضات الغريبة
مشهدا استقبال فرقة "مياس" المنتصرة واقتحام المصارف من قبل لبنانيين المتباينان، مثال واحد عن التناقضات الغريبة التي تخيم على حياة اللبنانين منذ عامين ونصف العام أي منذ إقفال المصارف وتجميد الودائع في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وحتى اليوم.
أولى هذه التناقضات وأكثرها بروزاً ووضوحاً لأي مقيم أو زائر هو الحاصل بين لبنانيي الدولار ولبنانيي الليرة. أما النوع الأول، فيتألف من الذين يحصلون على الدولار الأميركي بطرق مختلفة، سواء عبر الإتجار بالدولار شرعياً أو في السوق السوداء. ودخل إلى هذه السوق مئات الشبان الذين يصطفون على نواصي الطرق والتقاطعات حاملين رزمات من الليرات اللبنانية يصطادون مواطناً يحتاج إلى تبديل الدولارات القليلة التي معه. ومن لبنانيي الدولار أو "الدولاريين" الذين يحصلون على رواتبهم بالدولار من خلال أعمال تجارية تتم في الخارج أو عبر العمل في وظائف حرة يمكن الاكتفاء بشبكة الإنترنت لإنجازها كالصحافة والإعلام والتصميم والنشر وتداول الأسهم، وهناك "دولاريو" الاغتراب الذين تصلهم مساعدات شهرية من أقاربهم المغتربين وهؤلاء يضخون مبالغ ضخمة شهرياً في لبنان تقدر بمئات ملايين الدولارات.
أما لبنانيو الدولار الجدد والأكثر انتشاراً الذين ربما يشكلون طبقة وسطى دولارية، فهم من الذين التحقوا بأعمال جمعيات المجتمع المدني التي انتشرت بعد انفجار المرفأ قبل عامين في أنحاء بيروت لمساعدة المتضررين وترميم ما يمكن ترميمه، ومنهم من يعمل لمصلحة جمعيات ومنظمات تابعة لهيئة الأمم المتحدة التي أنشئت لمساعدة السوريين الفارين إلى لبنان هرباً من الحرب، وهذه الجمعيات ذاتها تمنح اللاجئين السوريين نفقات مختلفة بعضها للتعليم وبعضها للصحة وبعضها للمواد الغذائية، وكلها بالدولار الأميركي يسحبها السوريون من ماكينات الصراف الآلي التابعة للمصارف ويمكن رؤيتهم مطلع كل شهر يقفون أمام هذه الماكينات يزاحمون اللبنانيين من الموظفين الذين يسحبون رواتبهم بالليرة اللبنانية.
ومن الجماعات اللبنانية المدولرة، يبرز التجار من محتكري المواد الغذائية والأدوية والبنزين والمازوت ومولدات الكهرباء والمخابز وهؤلاء أيضاً يؤمنون دولاراتهم من مصادر شتى أهمها دولارات لبنانيي الاغتراب والمجتمع المدني ومبيضي الأموال، ويمكن لعناصر "حزب الله" المتفرغين في مؤسساته التربوية والصحية والمالية والعسكرية أن يكونوا جزءاً مهماً من الطبقة المتوسطة الدولارية فهؤلاء يحصلون على رواتبهم شهرياً بالدولار ونقداً من مالية الحزب المنضبطة إدارياً. ويمكن إضافة الدولارات المغسولة التي يتم تبييضها بعد تهريبها بالحقائب عبر مطار رفيق الحريري الدولي وعبر المرافىء اللبنانية الكثيرة، أو التي تم غسلها سابقاً عبر مجموعة من المصارف اللبنانية المعروفة منها مصرفHSBC وبنك "سوسييتيه جنرال" والبنك اللبناني - الكندي و"جمال ترست بنك" وكلها عوقبت من الخزانة الأميركية بتهمة تبييض الأموال لمصلحة جهات معينة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لبنانيو الليرة والحد الأدنى
مقابل هؤلاء اللبنانيين الذين يعيشون التضخم المالي الهائل في البلاد بانشراح باد عليهم أينما حلوا، سواء في المطاعم أو النوادي الليلية أو الشواطىء أو محطات البنزين ومحال الملابس، تجد في الشارع المواجه لبنانيين يصارعون التضخم المتدحرج ككرة الثلج بعدما هبطت قيمة الحد الأدنى للأجور من 400 دولار قبل عامين إلى أقل من 20 دولاراً الآن، مما أدى إلى سقوط جزء كبير من "الطبقة الوسطى" اللبنانية سقوطاً مفاجئاً وصاعقاً في هوة الفقر والحاجة، وعلى رأسها طبقة الموظفين الحكوميين وهم الكتلة الأكبر عدداً في لبنان بعدما تحول التوظيف في الإدارات الرسمية خلال المدة التي تلت "اتفاق الطائف" توزيعاً للحصص بين الزعماء السياسيين وطوائفهم، فأتخمت الإدارة بالموظفين الذين لا ينجزون أي عمل.
في هذا السياق يتمثل أحد أهم شروط الصندوق الدولي لإقراض لبنان في طرد ما يزيد على نصف هؤلاء الموظفين من السلك الحكومي ويقارب عددهم 150 ألف عائلة وهم من العسكريين في الجيش والقوى الأمنية ومعلمي المدارس الرسمية وموظفي الإدارات الكثيرة والمختلفة، وهم مقسمون على أربع درجات في الرتب الوظيفية ويضاف إليهم الموظفون المتقاعدون الذين تصلهم رواتبهم شهرياً أيضاً، إلى جانب جيش من المتعاقدين بالساعة في كل الإدارات.
وفي الطبقة الوسطى هناك أصحاب الحرف الصغيرة والعمال المياومون وأصحاب المحال التجارية كالملابس والهواتف والأدوات الإلكترونية وأصحاب محطات الوقود والصيدليات والمستشفيات والمدارس الذين بدأ بعضهم بالتحصيل بالدولار بدلاً من الليرة أو بتقسيم المبلغ بين الدولار والليرة.
ويعيش اللبنانيون "الدولاريون" و"الليراتيون" جنباً إلى جنب في أنحاء البلاد داخل المدن والبلدات والقرى على حد سواء وحين تشتعل في أي شارع تظاهرة بسبب الأوضاع المعيشية يمر بها "لبنانيو الدولار" بسيارتهم المليئة بالوقود ليصلوا إلى الشارع التالي لتناول الغداء، فيوجهون التحيات إلى المتظاهرين دعماً لهم أو يطلقون أبواقهم وصراخهم على من يقفلون الطريق ويتعدون على حرية التنقل.
وترتفع قيمة الدولار مقابل الليرة بشكل غير مفهوم وقياسي لم يشهده اللبنانيون في السابق، حتى في أحلك سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (اندلعت عام 1975) ولكن هذا الارتفاع يفرح لبنانيي الدولار من دون أن ينتبهوا حتى هذه اللحظة إلى أن ما يفيدهم في انهيار قيمة العملة اللبنانية بات يظهر على شكل سرقات كثيرة في مختلف المناطق لا تتمكن السلطات الأمنية من ضبطها واشتباكات مسلحة داخل أحياء المدن، تحديداً في ضاحية بيروت الجنوبية بين صرافي الدولار المتنافسين، وفي طرابلس عاصمة الشمال وفي مدينة بعلبك البقاعية (شرق)، وتضاف إليها اشتباكات داخل المخيمات الفلسطينية والمناوشات المتنقلة مع اللاجئين السوريين.
ثنائية العملة وثنائية الشعب
هذا التناقض المشهدي أو الانفصام المنتشر بين اللبنانيين يسميه المفكر اللبناني وضاح شرارة في إحدى مقالاته "الإثنينة" أو ثنائية الأسعار والعملة، لكنه يضيف إليها الثنائية بين الناس أنفسهم، فيقول "يصيب الانقسام الناس أنفسهم، تصنيفهم أنفسهم وتصنيف بعضهم بعضاً. فبعض أهل الدولار يرون أنفسهم طبقة على حدة وأهل صفوة، ويرون أهل الليرة ملعونين ومساكين حط بهم الدهر"، وبدأ هذا الانقسام برأي شرارة في العامين ونصف العام الماضية أي "حين أغلقت المصارف أبوابها في أكتوبر 2019 وحجرت على الودائع وقيدت السلطة النقدية سلفات الخزانة وامتنعت عن خدمة الدين وتسديد الفوائد على الدين الأجنبي وتركت ’الدفاع‘ عن سعر صرف العملة الوطنية وتخلت شيئاً فشيئاً عن تمويل الاستيراد وفتح اعتماداته وانتهكت الاحتياط الإلزامي تباعاً ومعاً".
وبرأي شرارة أدت هذه الإجراءات إلى "انشطار العالم اللبناني، عالم الحياة اليومية والسعي اليومي، ومعاملة السوق ومرافقها الغذائية والكسائية والصيدلانية والاستشفائية والمدرسية والسكنية والنفطية والكهربائية والسياحية والسفرية والكتابية والإعلامية".
ويقدم وضاح شرارة مثالاً على انقلاب مراتب وطبقات اللبنانيين، فعلى الرغم من أن 200 دولار أي راتب موظف من الفئة الأولى أو الثانية لا تكفي لفاتورة الاشتراك الشهري بكهرباء مولد يعمل على المازوت، باتت عاملة الخدمة المنزلية السريلانكية والفيليبينية والإريترية أو البنغلاديشية أو الإثيوبية تتقاضى اليوم ضعفي الراتب الأعلى الذي يتقاضاه قاض متقاعد أو ضابط كبير أو أستاذ "قمة" في الجامعة اللبنانية.