لا يمكن قارئ رواية "التانكي" (دار المتوسط، 2019) للكاتبة العراقية عالية ممدوح، إلا أن يطرح أسئلة حول فن العمارة، وعلاقته بفن الرواية، والتوقف أيضاً أمام مصطلحات النقد الأدبي المستلهمة منه والمستخدمة في تحليل الأعمال الروائية، فالبناء الروائي واللغة المستخدمة والوصف والشخصيات الروائية جميعها تتجه نحو التيقظ لعلاقة الفن المعماري بسائر الفنون، وتحديداً التقاطع بين المدينة والرواية.. الرواية مبنية على شكل فصول سبعة، كأنها طوابق، وفي كل فصل توجد عناوين داخلية عدة. كُتبت الرواية بين 2014- 2018 وتدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى 2012.
تنفتح الرواية منذ الصفحة الأولى على الماضي، إذ نرى صورة في ألبوم عتيق وعلى عائلة أيوب، إذ يُعدد الراوي أفرادها وهم يجلسون في وضعية تأهب لالتقاط صورة لهم جميعاً، الفقرة مكتوبة بمشهدية ووصف دقيق، تضع كل شخص في مكانه ليأتي ذكره لاحقاً، ويتم توظيف الشخصيات جميعها للحديث عن الابنة الغائبة "عفاف" أو "عفو".. عفاف هنا هي البطلة الإشكالية الفنانة الحاضرة الغائبة التي يتمحور حولها النص، درست هندسة العمارة مدة سنتين، ثم تركتها لتلتحق بالفنون الجميلة، رسمت أبطال الإلياذة، وكارل ماركس، ولينين، وأفراد عائلتها جميعاً، والجنائن المعلقة، وتشعر بمسؤوليتها عن الجمال، ولها مقدرة على الجلوس بصمت لساعات، هي المرأة الجميلة المعتدلة القوام، تتغير أيضاً بمرور الوقت كما تغيرت الأماكن كلها، تغير جسد بغداد، كما تغير جسد عفاف "اعوجاج الفم غير من طراز البناء المعماري لسكن أعضاء وجهها"، ثم تصاب باكتئاب طويل الأمد، تصف نفسها قائلة لطبيبها: "تحول وجهي من النمط الكلاسيكي إلى النمط الاستعماري في انعدام القيمة".. وُلدت عفاف عام 1958، وغادرت إلى باريس عام 1979، لم تدخل أي موكب من مواكب الجمعيات الفنية أو السياسية، ولا تأثرت بأي أحد، ولم تهلل لأي مسؤول حزبي أو سياسي أو ثقافي، إنها البطلة المتشبثة بحريتها، وفي الوقت عينه مغموسة بالحنين لأماكن الوطن.
انحياز فني
تنحاز الرواية للفنون عامة، وإن كان ثمة انحياز أكثر للفنون البصرية، للرسم للنحت للعمارة التي بدا حضورها أساسياً في العلاقة مع المدينة. تحضر قصائد وموشحات أندلسية في بعض الفصول، وتبرز الكتابة مع الأستاذ صميم الذي يصف نفسه بأنه كاتب سري، يسرد الحكاية على دكتور كارل فالينو معالج عفاف، هناك أيضاً معاذ الألوسي المعماري الذي شُغفت عفاف بتصميماته، ويظل حضور شخصية معاذ الألوسي وارتباطه ببناء اسمه "المُكعب" هو الأهم. يمثل المُكعب المكان الذي يضم بين جدرانه التاريخ والجغرافيا معاً، يذهبون إليه محمولين بشغف الجمال، يدخلون ويخرجون منه مُحملين بالحكايا. لنقرأ جمل متفرقة عن المكعب: "سنصمم المكعب معاً، وندعو من نُغرم بهم إليه... هو المكان الذي حلمنا به ثلاثتنا طرب وعفاف وصميم كي يكون عاصمة التشكيل والفن لمحبي العمارة والفن والفنانين والمجانين... المكعب هو البناء العجيب الذي أسقط المفاهيم المسلّم بها عن الحجرات المنزلية، أشكال البيوت العائلية، وبيت الزوجية... أحد أقطاب الحزب الحاكم في تلك الأعوام منتصف السبعينيات قال: إما أن تبني لنا واحداً، أو تتركه لنا" .
يُمكن القول أن صاحبة "حبات النفتالين" تشرع في رحلة داخلية للتوحد مع المكان واستعادته. رحلة تبدو لصيقة بتفاصيل نفسية وحسية مثل التصاق اللحم بالعظم، لا يمكن فصله من دون ألم ونزف وجراح. هذه الرحلة الطوبوغرافية تبدأ في بغداد، ومن شارع "تانكي الماي"، وكلمة "تانكي" مستمدة من كلمة عراقية تدل على أداة لتخزين الماء، والكلمة مستوحاة من مفردة إنجليزية وتم تحريفها لتكون " تانكي"، إذ نشاهد على غلاف الرواية وصلات معدنية، وصنابير ماء تتداخل وتتشابك لتؤدي إلى بعضها البعض، مثل خطوط ذاكرة الأبطال داخل النص، لا بد أن يؤدي أحدها إلى الآخر.
الفضاء المكاني
إن فضاء وجود الإنسان هو انعكاس لحقيقة هذا الإنسان وجوهره تاريخياً وجغرافياً، واجتماعياً، لذا تقوم هذه الرواية على توصيف العلاقات مع الأماكن، بخاصة مع المدينة، بغداد، وبين التلاشي والتذكر، وبين الخسائر والغياب والتداعي تنثال النصوص والتواريخ والمعلومات والفنون الملتحمة بالأبطال: سرديات صميم، خزفيات طرب، منحوتات يونس، مكعب معاذ، غناء عفاف ورسوماتها، الأبطال جميعهم ملتحمون بالفن عبر رؤى مختلفة تلتقي جميعها عند محور واحد ، يقف النص على أزمة الهوية المكانية، يُعيد اكتشاف الماضي والسؤال عنه، واختبار الحاضر في صيغة تساؤلات مُلحة عن هوية المكان ومدى تأثره في كل ما دار حوله وفي أرضه ، فالمكان ليس مجرد شيء واقعي مرئي وملموس، بل هو فضاء يُقدم إجاباته عن الوجود الإنساني في لحظة ما.. هنا يكمن التقاطع الواضح بين المعمار في هندسة العمارة، والفن الروائي، إذ لكل منهما هيكله المنظور وفق رؤية فنية عاكسة للتفاعل التاريخي والجغرافي والاجتماعي والحضاري.
الحديث عن المدن في النص لا يتوقف فقط عند بغداد، بل يتمدد كي يصل إلى مدن أخرى تجترح الكاتبة توصيفات لها، باريس مثلاً كما تراها عفاف "لا تصلح للمتزوجين حديثاً أو قديماً، لا تصلح إلا لحقيقة واحدة في مجملها انتظري لوحتك، محبوبك، لا تتوقفي إلا أمام الحب"، هذا التجاور في مقارنة المدن وتشعب الرؤية لها، يتوازى مع حضور شخصية الحبيب "كيوم" الذي وضعته عفاف في اللوحة إلى جانب عوليس، وفي هذا الاختيار رمزية أخرى أيضاً.
يُنتج فن العمارة بمرور الزمن مساحة من الشغور التخيلي لبناء نص سردي، روائي تحديداً، لأن الرواية هي العمل النثري الأكثر قمدرة على استيعاب ما يمكن سرده حول مظاهر العمران وسيرة الأماكن والمدن، بحيث ينمو النص التخيلي مع الوقت ، وتكون غايته تسجيل ما يحدث ضمن سرد أدبي يتجاور فيه الزمان والمكان في سياق اجتماعي.
وفي رواية "التانكي"، نلحظ العلاقة المتميزة بين الشخوص الروائية والفضاء المكاني ضمن انعكاس لا يمكن معرفة أي منهما ترك أثره في الآخر أكثر (المكان أو الإنسان). انطلاقاً من هذا، يلحظ القارئ كيفية إدراك الأبطال وتمثلات وعيهم للعالم، التي تنطلق من تكويناتهم الفنية المتقاطعة مع صلات اجتماعية وتاريخية، السارد صميم في النص، مثله مثل معاذ المعماري، وتتقاطع عفاف معهما ومع طرب في جمعها بين العمارة والرسم، وفي حبها للقصائد وترنمها بالأغنيات.
مرت الكاتبة بسلاسة شديدة على كثير من الأحداث المأساوية والحروب التي وقعت في العراق، وبدت المعلومات التاريخية والسياسية جزءًا لا ينفصل عن رؤى الأبطال ومصائرهم: السؤال عن عفاف الغائبة وما الذي أدى بها إلى الاختفاء والاكتئاب، يمكن العثور على إجابته ضمن تفاصيل صغيرة غير مباشرة. أما معاذ، فقد غادر إلى أمكنة كثيرة في أوروبا وبعض البلاد العربية، لكنه لم يغادر المكعب في رأسه، صميم يرى أنه يكتب سيرة الآنسة عفاف وأن البشاعة احتلت سماء بغداد منذ أعوام الثمانينيات، هو الذي لم يغادر المدينة وظل مأخوذاً بالحدود القصوى لمقدرة الكائن البشري على تحمل الابتذال والسفاهة، لنقرأ: "هذا هو شارع التانكي، دكتور، وهو كائن وسط الصليخ الجواني، والذي سنعاود ذكره، اسمه وسكانه وجنرالاته موتاه وعاهراته، وهو الشارع ذاته المؤدي للكلية النازل من الكورنيش، فنصادف دار حكمت سليمان رئيس الوزراء في الثلاثينيات، ويقع في الجانب الغربي من الشارع يقابله سكن الفاذرية بعدما صار سكناً للراهبات، سنعاود ذلك بعدما طُردن في العام 1969 في حكم الرئيس أحمد حسن البكر".