إذا كنتَ تعتقد أن العلاقة المتوترة بين حكومة العدالة والتنمية التركي هذه الأيام وبين الصحافة وأرباب "مهنة المتاعب" سابقة في بلاد الأناضول، فإن تاريخ الكر والفر بين الفريقين في حقب سحيقة تثبت وقائعها غير ذلك، منذ السلاطين والخلفاء حتى حكّام أنقرة الأتاتوركيين من بعدهم.
أو هكذا على الأقل ما تكشفه دراسة حديثة تعقّبت "التطور التاريخي للصحافة التركية منذ بدايتها وحتى اليوم الحاضر"، واعتبرت أن التوتر والاغتيال طبع تلك المراحل كافة، بما في ذلك عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وحركة "العثمانيين الشباب"، وبعيد كل الانقلابات الخمسة التي شهدتها البلاد على مر العقود الماضية، ناهيك عن حادثة تنظيم "الذئاب الرمادية"، التي طبعت باغتيالاتها تاريخ الصحافة بالدم القاني.
وكانت الدراسة التي نشرها أخيراً مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، أشارت إلى أن أهمية دراسة تاريخ الصحافة التركية تأتي من جهة ارتباطها بأحداث تاريخية وثيقة الصلة بها، لا يمكن فهمها من دون التعرف على ما وصفته بحالة "الشد والجذب" بين الكتّاب في ذلك الوقت والحكومات، إثر تناولهم شتى القضايا.
الضعف يفسّر الخوف من الصحافة
ونبهت فيما يشبه تبرير الحوادث التي عرضتها إلى أن " التاريخ العثماني حافلٌ بالأحداث لكنه معقَّد؛ إذ تعود جذوره على الأقل إلى تاريخ تأسيس الإمبراطورية عام 1299م، وهي فترةٌ امتدت منذ ذاك الحين حتى سقوط الإمبراطورية ومولد الجمهورية التركية الجديدة عام 1923م، إذ بدأت الصحافة العثمانية التركية تتطوَّر في أواخر فترة الإمبراطورية في بداية القرن التاسع عشر". كما لاحظت بين دواعي الانتكاسات التي شهدها ما يسمى في عالم اليوم بـ"حرية التعبير"، كون "فترة القرنينِ التاسع عشر والعشرين، التي أخذت الصحافة العثمانية فيها تتطوَّر وتترسَّخ، مرحلة تعَدُّ الفترة الأضعفَ لإمبراطوريةٍ كانت لها يوماً ما سطوةٌ ونفوذٌ على قاراتٍ عدة".
ولدت "فرنسية" ثم عثمانية!
تشير مصادرُ الدراسة التي أعدها للمركز الباحث المتخصص في الشأن التركي محمد الرميزان إلى أن أول صحيفةٍ طُبِعَت في الأراضي العثمانية هي «بيتلين دو نوفيل»، أي نشرة نوفيل، التي أدخلها السفيرُ الفرنسي رينو دي فيرنينك سان مور في إسطنبول عام 1795م، لكنها عُنِيتَ فقط بكتابة التقارير عن الشؤون الداخلية والخارجية بالفرنسية، وغير ذلك من الأخبار الأجنبية. لكنَّ الصحافي التركي أحمد أمين يلمان، يقول الباحث، كان يرى أن "أول صحيفةٍ حقيقيةٍ تتناوَلُ الاهتمامات العثمانية وتكتبُ عن شؤونها الداخليةِ والخارجية هي صحيفةُ «إسبيكتاتير دو أورينت» أي جمهور الشرق، وسُمِّيت لاحقاً «كورير دو سميرن» بمعنى رسالة إزمير، وهي الأخرى أسسها رجلٌ فرنسي يدُعَى ألكسندر بلاكو، في عام 1825م".
وربما كان السبب وراء ابتداء الصحافة العثمانية فرنسية الطابع، هو تأخر دخول المطابع إلى الإمبراطورية لأسباب فتاوى دينية يطول الحديث عنها، أما أول صحيفة عثمانية حقيقية في نظر الباحث ومصادره، فكانت "وقايعي" التي تأسست 1831م بدعم السلطان محمود الثاني، وتضمن أول عددٍ لها عموداً يبررِّ وجودها بوصفها أولَ صحيفة عثمانية، ويشرح إسهامها المنشود مع جمهور القراء. ولكن بعدها تتابع إصدار الصحف بلغات أجنبية ومحلية، ذات صبغة رسمية وخاصة.
غير أن الباحث يلمّح إلى أن موجة الصحف التي أفقدت الإمبراطورية بعض صوابها، حتى بدأت تفرض القيود المشددة عليها وأودعت أحد رجالاتها السجن، كانت تلك التي ولد من رحمها تيار "العثمانيون الشباب"، وهما صحيفتا "ترجمان أحوال"، و"تصوير أفكار" لمنشئهما إبراهيم شناسي، عام 1860م، إذ كانت أهمية إطلاقها تأتي – حسب الدراسة – من كونها "تموِّل نفسَها بنفسها فتمتعت باستقلالية لم تكن تتمتع بها سابقاتها، إضافةً إلى أنَّ الذي أطلقَها قد أصبح هو نفسُه أحدَ مؤسسي المدرسة الحديثة للصحافة العثمانية، وكانت صحيفتا شناسي تهدُفُ إلى التجاوب مع الشؤون الداخليةِ والخارجية للإمبراطورية، التي كانت محلَ انتقاد شناسي".
ولم يمض وقت طويل حتى انبثق من "تصوير أفكار" مجموعة من المفكِّرين والكُتاب والمصلِحين ليكوِّنوا تيارَ «العثمانيون الشباب»؛ وهم مجموعةٌ كانت مستاءةً من مجريات الأحداث في الإمبراطورية العثمانية، بيد أن الحكومة العثمانية كانت على علمٍ بالصحف المؤسَّسةِ حديثاً بقيادة نقُّادٍ جريئين، وكان بعضُهم من الكُتاب المتعلِّمين الذين درسوا العلوم واللغات الأجنبية في أوروبا؛ ولذا سَنتَّ الحكومةُ قانونَ الصحافة في يناير (كانون الثاني) 1865م، ليضع لوائحَ تُنظِّم عملَ الصحفِ القائمةِ فعلاً والصحف التي قد تؤُسَّس لاحقا؛ً وكان الهدفُ مراقبةَ تلك الصحف وفِرَقِ عملِها لفرض الرقابة على محتوى الكتابة، وتجنبِّ أي انتقاد يمكن أن يغُضِب السلطان.
جاء دور القيود والسجون
ويلفت الباحث الرميزان في استقرائه إلى أنه "بسبب زيادة رقابةِ الحكومة العثمانية على الصحافة، وتحذيراتِها وتعليقها عملَ الكثير من الصحف، لا سيما في أوقات الاضطراباتِ الداخلية، قرَّر الكثيرُ من المحرِّرين أن يرحلوا عن إسطنبول، وفَرَّ بعضُهم إلى أوروبا، خصوصا إلى لندن وباريس. ومن هناك استطاع عدد من الصحافيين الأتراك أن يديروا من الخارج صحيفة «مخبر» عن طريق صحيفةٍ أخرى كانت أقلَّ منها أهميةً في البداية، واسمُها «حُرِّيتَ»، فكانت آلاف النسخ ترُسَل دورياًّ إلى إسطنبول وغيرها من المدن، ولم تستطع الحكومةُ العثمانية أن توقفها جميعاً".
لكن بعد وفاة رئيسِ الوزراء العثماني علي باشا عام 1871م، عَينَّت الحكومةُ محمود نديم باشا، الأمر الذي أثار بعض َالجدل العام بسبب عدم أهليتَّه، وطاعتِه للسفير الروسي، واستطاعت الحكومةُ العثمانية أن تعقد صفقةً مع تيار «العثمانيون الشباب»، وعلى رأسه نامق كمال؛ وكانت الصفقة تقضي بأن يعود الكثيرُ منهم، ومنهم نامق كمال، إلى وطنهم في إسطنبول. لكنهم ما عادوا من لندن وباريس إلاَّ ليعارضوا الحكومةَ كَرّةً أخرى، لكن معارضة غير مباشرة في هذه الكرّة؛ فما إن عاد نامق كمال مِن مَهجَرِه حتى أسَّس جريدةً ناقدةً جديدةً سمّاها «عِبرة». وبعد عام 1875م، بعدما زاد اطِّلاعُ الجمهور على الأخبار والأحداثِ في الإمبراطورية بفضل هذه الدوريات، وما خلَّفته مسرحيةُ «سلسترة» التي تعني وطن، التي ألَّفها نامق كمال، مِنْ أثرٍ في الجمهور؛ زجَّت الحكومةُ العثمانيةُ بنامق كمال في السجن، وأحسَّت بحاجتها إلى سَنِّ قوانينَ تنُظِّمُ الصحافة، وكذلك، لتضغطَ الحكومةُ على الصحافة وتقُلِّصَ انتشارَها واتساع رقعة قُرائها، ففرضت استخدامَ طابعٍ رسميٍّ على كل المنشورات السياسية للحد من انتشارها.
ما سوى القصائد والأدب ممنوع!
بعد هذه الحقبة، جاء عهد السلطان عبدالحميد الثاني، بقيود أكثر قسوة على الصحافة، على الرغم من محاولاته إظهار نفسه كما تقول الدراسة على أنه "أكثرُ ليبراليةً وانفتاحا،ً فقد وعَدَ بعدة إصلاحات في هيكل الإمبراطوريةِ وقوانينها، وكفلَ الكثيرَ من الحريات، لكنه لم يفِ بكل ما وعد. أضِفْ إلى ذلك أن السلطان عيَّنَ كذلك بعضاً من تيار «العثمانيون الشباب» في مناصبَ عليا بالحكومة العثمانية ليقنعهم بتبنيِّ سياساته والوقوفِ في صفه".
وفي خطوة شبيهة بالمرحلة التي أثار فيها رئيس تركيا الحالي اللغط بتعديله النظام الرئاسي في بلاده، توثق الدراسة أن عبد الحميد عندما قرَّر حل البرلمان والدستورَ ليظل سلطاناً للإمبراطورية العثمانية ثلاثين عاماً كاملةً، وجد من فرض القيود المشددة على الصحافة التي انتقدت خطوته تلك، أمراً لا بد منه للهيمنة على الرأي العام.
وقالت: كُبِتتَ بعضُ الأصوات المؤثرة في الحكومة العثمانية، وأوُقِفوا عن العمل الوظيفي، وأبُعدوا عن الممارسة الصحافية، ونفُوا من إسطنبول، وكان من بينهم رئيسُ الوزراء مدحت باشا، والصحافيُّ الليبرالي ضياء بك اللذان كانا يدعوان إلى الحداثة والإصلاحات وحرية الصحافة والفكر، وفرِضَت موجةٌ أخرى من القيود على الصحافة في بداية عامِ 1880م، وارتفعت أيضاً مستوياتُ الرقابة ارتفاعاً كبيراً في عام 1890م؛ لأن السلطان شعرَ بتحريض صحافةِ المعارضة وبعضِ كبار المسؤولين بالدولة، وكذلك تحريض القادة الدينيين لكن بوتيرةٍ أقلَّ، وأفضت هذه الإجراءاتُ الجديدة إلى ظهور تيار «تركيا الفتاة»، بما كان له من ثأثيرٍ في الدولة وشعبيةٍ بين مؤيدِّين كثيرين، ومنذ ذلك الحين أجبرت الصحافة التركيات على منع كل المحتويات السياسية ولم يسمح إلا بنشر القصائد والأدب".
من 3 إلى 15 صحيفة
مضت أيام السلطان عبدالحميد ثقيلة على الصحافة، لكنه ما إن ضعف حتى عاد نشاطها إلى وتيرة أكبر، أثرت في المراحل اللاحقة من تاريخ الدولة العثمانية، وصولاً إلى تأسيس تركيا الحالية، إذ "كانت الفترةُ منذ عام 1908م حتى إعلان الجمهورية أهم كثيراً من الفترات الأخرى في تاريخ الإمبراطورية العثمانية؛ إذ شَهِدت نهايةَ حكم عبد الحميد الثاني وانتقال الحكم إلى سلطانيَن آخرَين، كانا أضعفَ من أن يسيطرا على شؤون الإمبراطوريةِ داخلياًّ وخارجياًّ. وفي هذه الفترة، أخذت الصحافةُ ترتقي بما كانت تقدِّمُه من شتى صنوفِ الصحف والمجلات؛ وزاد القُراء عدداً وتنوعا؛ً فزاد عدد الصحف اليومية تباعاً من ثلاث إلى خمس عشرة صحيفة".
انتهى حكمُ السلطان الذي دام ثلاثين عاماً، غير أن سلطاناً آخر أضعف حل مكانه، في الوقت الذي كانت فيه جمعية الاتحاد والترقي والبرلمان يتمتعان بسلطةٍ أقوى. وبدأ وضعُ الإمبراطورية العثمانية والصحافة يسلك طريقاً جديداً لم يمكن أحد تصوره آنذاك –حسب الدراسة- التي أكدت أن الحقبة الجديدة "قَوِيتَ فيها شوكةُ جمعية الاتحاد والترقي، وتنازلت الحكومةُ العثمانية كعادتها عما كانت تدَّعِيه من قبلُ، لا سيما فيما يخص حرية الصحافة، فشَهِدت هذه الفترة تحكُّماً أقوى بالصحافة ورقابةً أشدَّ عليها، فأغُلِقت صحفٌ كثيرةٌ، واعتقُل بعضُ الصحافيين في ظروفٍ غامضةٍ. وفي عامَيْ 1909-1910م اغتيلَ أحمد صميم بك كاتب جريدة «صداي ملييت» أي صوت الشعب، وقتل كذلك زكي بك الكاتب في جريدة "علمدار".
تفجير مطبعة واغتيالات "الذئاب الرمادية"
استمرت لعنات الصحافة تترى، إذ لم تتوقف عند هذا الحد، بل أخذت متاعبها تتطور جيلاً بعد آخر، فما إن تتنفس قليلاً من الحرية حتى تصاب بانتكاسة جديدة، تنسيها العهد الذي سبق. وهذا ما حدث يومَيِ السادس والسابع من سبتمبر (أيلول) 1955م بإسطنبول وإزمير، حين تعرض اليونانيون وبعض الأقليات لهجوم عنيف من بعضِ الغوغاء والقوميين الأتراك، و"شَهِدت الجمهورية هجماتٍ على الأقليات اليونانية والأرمينية واليهودية نفذها بعضُ الناشطين والقوميين الأتراك في إسطنبول، فأعلنت الحكومةُ التركية الأحكامَ العرفيةَ، وشدَّدت قبضتها على الصحافة، وسَنتَّ المزيد من القوانين التي تسمح للدولة بأن تقبض على مَنْ تشتبه بهم من الصحافيين، إذا لزم الأمر، وبلا دليل".
عقب ذلك بوقت ليس بالطويل، وقع الحدثُ الآخر الذي بيَّن ما كان يحدث بالجمهورية التركية من خطر الانقساماتِ السياسية، وأثّر على الصحافة، وهو تفجيرَ مبنى مطبعةِ صحيفةِ «تان» في 6 يناير (كانون الثاني) 1959م، الذي أزهقَ أرواح ما يربو على أربعين مواطناً تركياًّ، وأخذت الأوضاع تتردَّى مع تدهوُر الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالجمهورية حتى وقعَ أولُ انقلابٍ عسكري في 27 مايو 1960م. وأتُبِعَ هذا الانقلاب بانقلابين آخرين: أحدهما في 1971م، والآخر في 1980م.
كان من البديهي تأثر وضع الصحافة تأثرُّاً حيوياًّ بكل تلك التغييرات، فعُدَّت فترة الستينيات الفترةَ النموذجية لتطوُّر الصحافة التركية بعد أنْ شَهِدت طفرةً في محتواها وإنتاجها. لكنَّ الدستور الجديد لعام 1960م، جاء بالكثير من القوانين الجديدةِ، وتحديداً تلك التي عُنِيتَ بالصحافة؛ كالقانون الذي نصَّ على جواز فصلِ الصحافي من عمله بلا تعويض، ومن التطورات الأخرى التي جَرَت تأسيسُ «المجلس الاستشاري للصحافة»، الذي عُنِيَ بمراقبة الإعلانات والسياسات المالية ومواردِ المؤسسات والمنظمات الصحافية.
غير أن الصحافيين كانوا موعودين بانتهاكات أشد، عند وقوع الانقلاب الثاني، إذ كانت القوانين المتعلقة بحرية الصحافة، بين أول ضحاياه، ضمن حال السياسة العامة للدولة التي يرُثىَ لها، واشتدت على إثر ذلك الصراعاتُ بين الليبراليين والقوميين والمحافظين والشيوعيين، أودت الأول من أبريل (نيسان) عام 1979م بحياة الصحافي والناشط عبدي أيبكجي على أيدي مَنِ اشتُبه أنهم أعضاء في إحدى جماعات اليمين التركية المتطرفة "تنظيم الذئاب الرمادية". واعتبرت الدراسة الحادثة "يوماً أسودَ للصحافة والصحافيين الأتراك؛ لِما كان يحمله مِن إشارات واضحة إلى أنه ما من أحدٍ قد بات في مأمنٍ من هجومٍ أو اختفاءٍ، لا لشيء إلا لأفكاره أو معتقداته".
عهد "التطهير" في 2016
وبينما شهدت البلاد انقلاباً ثالثاً، في نهاية الثمانينيات الميلادية ورابعاً في التسعينات، كان الانقلاب الخامس الذي فشل في 15 يوليو 2016م، صاحب الأثر الأكثر هولاً على تركيا، ليس بالنسبة إلى الصحافة وحدها، ولكن بالنظر إلى آثاره المباشرة على النسيج للجمهورية من كل النواحي.
ذلك أن الحكومة التركية بقيادة رجب طيب أردوغان، وفق ما يؤصل الباحث الرميزان "أعلنت الأحكام العرفية واتخذت تدابيرَ صارمة للتعامل مع وسائل الإعلامِ المعارضة كافةً، مثل إغلاق العديد من الصحف المطبوعة والمحطاتِ الإذاعية والقنوات التلفزيونية. ناهيك عن الإدانات القضائية لبعض المنظماتِ التي كانت تتصل بحركة فتح الله غولن وتدعمُها، فأغُلِق أكثر من 160 منفذاً إعلامياًّ؛ منها ما يربو على 60 صحيفةً، و30 محطة تلفزيونية، و32 محطة راديو، ليس هذا فحسب، بل أطلقت الحكومةُ التركية أيضاً ما يمكن وصفه بأنه عملية تطهيرٍ؛ إذ اعتقلت في بداية الأمر 70,000 مواطن تركي، بينهم عسكريون وقضاة وموظفون بالدولة، وأكاديميون وصحافيون وفنانون؛ وبعد بضعة أشهر من محاولة الانقلاب، تجاوز العدد 130,000 معتقَل".
"لا مأمن البتة" خصوصاً بعد كل انقلاب!
على الرغم من ذلك تخلص الدراسة إلى أن الصحافة في تركيا شهدت بالمجمل ظروفاً واعدة وأخرى حالكة منذ عهد السلاطين حتى اليوم، إذ كان ظهور تيار «العثمانيون الشباب» في القرن التاسع عشر مهمّاً للصحافة والإمبراطورية سواء بسواء؛ وواصل التيار عملَه لاحقاً تحت اسم «تركيا الفتاة»، وابتدأ أولى ممارساته الصحافية مستلهماً عملَه من الغرب. وكانت جمعية الاتحاد والترقي ظاهرةً مهمّةً أعقبت الإصلاحَيْنِ الدستورييَّن الأول والثاني ،اللَّذَينْ جاء بهما عبد الحميد الثاني، أحد الشخصيات الحاسمة في تاريخ تركيا الحديث وتاريخ الصحافة بها كذلك.
بينما في سنواتٍ لاحقةٍ، بعد إعلان الجمهورية، مرت الصحافةُ التركية بأوقات حالكة، وعانت في ظل حكم الحزب الواحد في العشرينيات من القرن الماضي، ثم أتبعها نظامُ حُكم الأحزاب المتعددة في الأربعينيات، الذي بدأت الصحافة فيه تُسيّس أكثرَ، وتعاني المزيدَ من اعتقالات الصحافيين وتعليق العمل في الكثير من الصحف.
وانتهت إلى أن الحكام الأتراك من دون استثناء ظلوا يمارسون ما يشبه "الانتقام" ضد الصحافة عند حدوث أي من الانقلابات الخمسة التي شهدتها الجمهورية، بما في ذلك خامسها الفاشل قبل بضع سنين.
وقالت "أخذت الانقلابات العسكرية تضرب البلادَ واحداً تلوَ الآخر في 1960م، و1971م، و1980م، و1997م، و2016؛ فكانت الحكومة تتجاوب بتدابيرَ كان لها بالغُ الأثر على تطوُّر الصحافة ونشاطها؛ وكانت تؤذي أعداداً كبيرة من الصحافيين وتضهدهم، وأقُيمت دعاوى قضائية على عددٍ لا حصرَ له من الكُتاب والصحافيين والمفكِّرين المبرّزين مع ذلك، فتاريخ الصحافة التركية امتدادٌ لتاريخ الصحافة العثمانية، وهي صحافةٌ ظلَّت متأزمةً؛ إذ لم يكن العمل الصحافي أو الكُتاّب في مأمنٍ البتةَ".
وتزعم المعارضة واتحادات وسائل الإعلام في تركيا أن 95 في المائة من وسائل الإعلام تقع تحت تأثير الحكومة، فيما ممثلو حزب العدالة والتنمية الحاكم تلك التهم، بيد أن تقارير دولية نقلت عن مراقبين محليين أن نحو 53 صحافياً صدرت في حقهم أحكام بالسجن منذ 2014 بتهمة واحدة فقط، هي "إهانة الرئيس".
وتقول منظمة مراسلون بلا حدود في تقريرها عن حرية الصحافة 2019 "إن الوضع في تركيا لا يزال صعباً، فمعظم الصحافيات والصحافيين يسجنون فيها بسبب عملهم". وجاءت تركيا في المرتبة 157 في تقرير المنظمة العالمية، أسفل عدد من الدول العربية التي احتلت موريتانيا مرتبتها الأولى في الحريات الصحافية.