في حين يعتبر بعضهم أن الإحالة إلى التقاعد نوع من الإحالة من الحياة بكل زخمها وتفاصيلها، ينتظر آخرون تقاعدهم من العمل اليومي لينطلقوا في قطار تعويض عما مضى، فيلجأون إلى تحقيق ما تيسر من الأحلام وإشباع الهوايات التي سرقها منهم زمن العمل.
الأعمار والتقاعد
يختلف سن التقاعد بين دولة وأخرى وأحياناً بين النساء والرجال، إذ يبلغ حده الأدنى في إندونيسيا حيث يتقاعد الرجال عن عمر 57، ويرتفع إلى 67 في عدد من الدول الأوروبية، بمتوسط عالمي يتراوح بين 62 و64 عاماً.
أما لدى النساء فيبلغ سن التقاعد 55 عاماً في الصين ومنغوليا وأوزبكستان كحد أدنى، ويصل إلى 67 عاماً في بعض دول أوروبا، بحسب موقع "تريدينغ إكونوميكس".
في السعودية يبلغ سن التقاعد 60 عاماً للرجال والنساء، وفي المغرب 65، وفي لبنان 64، وذلك في الحالات الطبيعية، وهناك أيضاً ما يسمى التقاعد المبكر بسبب ظروف قهرية وتحكمه قوانين معينة في كل بلد من حيث قياس الظروف والتعويض والتأمين وغير ذلك.
يقول الكاتب المغربي الطاهر بن جلون إن "التقاعد هو الوقت الذي ينبغي ملؤه بالمشاريع"، ويعتبر الطبيب النفسي الأميركي هارولد جورج كونيغ أن "وجود هدف ورؤية أثناء التقاعد أحد أهم محددات الصحة العقلية والاجتماعية والروحية والبدنية"، ويعتقد المدرب الألماني جوزيف بيلاتيس "أننا نتقاعد باكراً جداً ونموت في سن باكرة جداً، ويجب أن تكون بداية حياتنا في السبعينيات من أعمارنا، وألا تأتي الشيخوخة حتى سن الـ100 تقريباً"، ويتساءل الممثل البريطاني بوب مونكهاوس "ماذا يفعل البستانيون عندما يتقاعدون؟"، ويعتبر النحات الإنجليزي هنري مور أنه "ليس هناك تقاعد لفنان، إنها طريقتك في العيش، لذا لا نهاية لها".
مفكرون آخرون اعتبروا أن التقاعد هو بداية النهاية، أو رفضوا فكرة التقاعد، وبدأ الإحباط يأكلهم شأن معظم الناس، فالمتقاعد أول ما يفعله عادة هو مراقبة الأمور من زاوية مختلفة، فيغرق في تفاصيل كانت لتمر مرور الكرام لو كان الدوام ينتظره.
شهد عدد من العلاقات الزوجية أزمات مرتبطة بموضوع التقاعد بسبب التوتر من الحياة الجديدة، وقد يتعرض المتقاعد إلى التهميش ممن حوله كونه لم يعد منتجاً، وقد يعتبر بعضهم أن قدراته العقلية تراجعت، إلا أن دراسة أجراها باحثون في جامعة "جورج تاون" في المركز الطبي وجدت أن بعض المهارات العقلية التي ترتبط بتعدد المهمات وتحديد الأولويات تتحسن بعد سن الـ 50، فقد يكون التقاعد بعدها استثماراً جديداً لطريقة تفكير جديدة، لكن هذا الأمر يحتاج إلى ظروف بلد تساعد في هذا الترف الفكري.
على كف عفريت
يقول أحمد ماجد إن خاله الذي عمل لسنوات طويلة موظفاً في البلدية بلبنان، وكان ينتظر انتهاء الخدمة والتعويض وكأنه آخر الحياة، مات بعد تحصيل تعويضه بشهرين، وقد تعلم أحمد من هذه الحادثة ألا يؤجل أمراً من أجل المال.
ويضيف، "عمل خالي على تجميع كل قرش مقتصداً في كثير من الأمور ولم يشتر فرحه يوماً، وكان الأهم لديه تجميع المال، وقد صرف أولاده بسخاء على جنازته".
ويشير إلى أن الخال كان لديه ذعر حقيقي من التقاعد ويخاف على قيمة المال الذي يجمعه من أن تتغير، بخاصة أنه شهد صعود الدولار الجنوني خلال ثمانينيات القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما إلهام توما وكانت تعمل في شركة تأمين، فتقول إنها كانت تدخر دائماً وتعمل لساعات إضافية، وقد تسلمت تعويضها منذ أربعة أعوام وحولته إلى الليرة اللبنانية كون الفائدة عليها أعلى من الدولار.
وتضيف، "اعتبرت أنني سأعيش من الفائدة لفترة لا بأس بها، فحولت 30 ألف دولار إلى 45 مليون ليرة لبنانية، وقررت أن أسافر أنا والعائلة كل عام لأعوضهم عن غيابي عنهم طوال سنوات العمل".
تقاعدت إلهام وأصبح مبلغ تقاعدها اليوم يساوي نحو 1200 دولار أميركي لا تكفي ثمن تذاكر سفر لها ولأولادها،
وتخبر أنها كانت مرعوبة من التقاعد، لكنها خططت له جيداً كي تشعر بالأمان المعيشي الذي لم يتبق منه شيء.
تبلغ إلهام من العمر نحو 70 سنة، وتقول إنها تقوم الآن ببعض الأعمال البسيطة مثل المساعدة في بستان أو جمعية لكسب قوت يومها، وأولادها منهم من هاجر أو تزوج، "بالطبع لم يكن هذا ما أنتظره من التقاعد، فأنا أعتبر أنني لم أتقاعد بعد وأعمل بكل طاقتي، لأني ولدت في بلد على كف عفريت".
في بلاد الغرباء
تبحث نجوى قربان عن تقاعد مريح في بلد يهتم بإمكاناتها أولاً ويجزيها ما تستحقه عند التقاعد، فقد هاجرت مع عائلتها إلى كندا منذ سنوات، وأخذت عطلات طويلة غير مدفوعة من عملها في لبنان كونها تعمل "موظفة دولة" في إحدى الوزارات، واعتبرت أنها لا تريد أن تخسر ميزات الموظف في بلدها، لكنها منذ سنتين توقفت كلياً عن العمل في لبنان وبدأت بإنشاء حضانة بعد أن وظفت فيها اختصاصيين في هذا الشأن، وتقول "تمسكت بوظيفة الدولة من أجل تقاعد مريح، لكن عملي فيها لم يعد يؤمن رحلتي من وإلى كندا، فلقد زرعت أطفالي هناك في مجتمع آمن، وأعمل بالترجمة، واستثمرت في حضانة".
لا تخشى نجوى على تقاعدها كونها تحمل الجنسية الكندية، ولأن الدولة هناك تحمل عنها هذا الهم، وهي بأموال تقاعدها تستطيع أن تعيش بكرامة.
أما جورج مطر فيعيش حياة جديدة ومختلفة بعد التقاعد، ويقول إنه أغلق أذنيه عن فوضى البلد، وكان قد حول تعويضه إلى الدولار بعد أن تقاضاه منذ سبعة أعوام بالليرة اللبنانية.
ويزيد جورج، "كنت أقرأ وأعرف أنه لا أمان في البنوك، ونصحت كل زملائي أن يحتفظوا بتعويضاتهم بالدولار في المنزل أو يحولوها إلى ذهب، لكن الأكثرية لم يقتنعوا، وللأسف أصابتهم سرقة المصارف في مقتل وذهب شقاء سنواتهم سدى".
ويخبر جورج أنه تعلم تقطير النباتات ليقضي تقاعداً مسلياً في أحضان الطبيعة مع عائلته، ولقد قرر أن يكون التقاعد بداية جديدة وممتعة له، ويذكر أن صحته الجسدية والنفسية والعقلية أفضل بكثير من أيام العمل اليومي، ويختم بأن عقلية الشخص هي التي تحكم حياته قبل التقاعد وبعده، فإن كان مرناً فلن تكسره ظروف الحياة.
من جهتها تقول ناديا إنها لم تعول يوماً على تقاعدها، فقد شهدت مأساة أبيها الذي كان تعويضه مخيباً جداً، وتوضح أن والدها بدأ باستهلاك مخيف لأدوية الأعصاب بعد التقاعد وانزوى كثيراً لأنه كان موعوداً بحياة أفضل.
ناديا تكتفي بالتفرغ لأحفادها والاهتمام بهم، وتقول إنها ربت أولادها تربية سليمة ودفعت كل ما حصلته في تعليمهم، وتشرح "لقد استثمرنا أنا وزوجي في أولادنا علماً ممتازاً وحباً كبيراً، ونحن على ثقة من أنهم سيردون ذلك أضعافاً".
وفي بلاد لا تنصلح أمورها ويحكمها الفساد يعد التقاعد جحيماً لا بد منه ومليئاً بمفاجآت غير سارة، إذ يتناسون خبرتك وكفاحك ويبقى كل ما خططت له أيام العمل وتحمّلك أحياناً لمديرين وزملاء وأعباء من أجل التقاعد بسلام وكرامة، يشبه الكتابة على رمال شاطئ عنيف الأمواج.