لا تنتشر أخبار وودي آلن ومستجداته من دون أن تثير جدلاً وضجة. هناك دائماً فريقان عند الحديث عن المخرج النيويوركي الشهير: فريق له تجاهه حب غير مشروط ويحمله على الراحات، وفريق يأتي على ذكر الاتهامات الأخلاقية التي طاولته، على رغم أن المحكمة الأميركية برأته منها وأغلقت الملف إلى غير رجعة. لكن، تشويه صيت المشاهير عملية لا تحتاج إلى الكثير من الجهد، خلافاً لأي تصحيح قد يحدث بعد إمراغ سمعتهم في الوحل. الخبر الذي ينتشر أولاً هو الذي يتصدّر الأحكام في بال الناس. الجديد في شأن آلن حملته جريدة "لا فانغارديا" الإسبانية التي نشرت الأسبوع الفائت مقابلة مع مخرج "آني هول"، يعلن فيها اعتزاله السينما والانسحاب منها بعد فيلمه الأخير، ليكرس ما تبقى له من وقت للكتابة، بل يبدو أنه سيتفرغ لها بالكامل. هذا على رغم أن آلن، كان قال في آخر مشاركة له في مهرجان "كان" السينمائي: "ما زلتُ شاباً وبكامل قواي العقلية. آكل جيداً وأقوم بتمارين رياضية. والدي عاش أكثر من مئة عام وأمي تقريباً مثله. ولكن أنا متأكد أنني سأستيقظ يوماً، لأشعر أن سكتة دماغية أصابتني، فسيراني الناس على كرسي متحرك وسيقولون: أتتذكرونه؟ هذا كان وودي آلن. في انتظار تلك اللحظة، سأتابع صناعة الأفلام".
المقابلة أُجريت خلال استعداده لتصوير فيلمه الجديد في باريس (باللغة الفرنسية للمرة الأولى في تاريخ آلن) الذي سيحمل الرقم 50 في مسيرته السينمائية التي انطلقت قبل قرابة نصف قرن، وقد اقتُطعت منها الجملة التي يعلن فيها الاعتزال، فانتشرت كنار في الهشيم على وسائط التواصل الاجتماعي. قبل أن يعود المخرج ويوضّح كلامه في تصريح جاء فيه: "وودي آلن لم يقل إنه سيتقاعد وسينصرف إلى تأليف كتاب جديد. كل ما قاله هو أنه يفكّر في عدم إنجاز الأفلام، ذلك أن إنجاز أفلام تصبح متوافرة على منصّات العرض التدفّقي بسرعة كبيرة، هو شيء لا يناسبه لكونه من هواة تجربة مشاهدة الفيلم داخل الصالة".
إبعاد شبح الموت
هل كان الأمر مجرد لغط كلامي بين صحافي وفنّان أم أن آلن عاد عن قراره؟ هذا إذا كان ثمة قرار من هذا النوع في الأصل، علماً أن آلن كان لمح إليه في مقابلة أجراها معه الممثّل أليك بالدوين عبر حسابه على "إنستغرام". وهل عاد تحت ضغط جماهير التواصل، إذ إن فئات كثيرة عبرت عن حزنها، صارفةً النظر عن حقيقة أن الرجل تجاوز السادسة والثمانين والاعتزال في مثل هذا العمر لا يعني شيئاً. كثر في مثل سنّه يكونون قد اعتزلوا منذ سنوات. لكن دعونا نتذكّر في المقابل أن آلن فنان يعيش ليعمل ولا يعمل ليعيش. شرح مراراً في لقاءاته الصحافية بأن العمل لديه مرتبط بالوجود نفسه، معلناً أنه يعمل لينسى مآسي الحياة ومآزقها، وكي يشتت تفكيره ويلهي نفسه عنه، خصوصاً من أجل إبعاد شبح الموت عن ذاته.
فالعمل المتواصل بعد عمر معين كان دائماً وسيلة بعض الفنانين لعدم التفكير في الساعة التي لا بد أن تدق ذات يوم. وآلن الذي لا يعيد اللقطة أكثر من مرة أو مرتين حداً أقصى، ذلك أنه لم يبحث يوماً عن الكمال، يتابع عمله كشيء روتيني وكجزء من وجوده، غير مكترث بما يُكتب أو يُقال في شأنه، وملتزماً نصيحة أمه التي كانت تقول له: "لا تضيع وقتك يا بنيّ لتفهم إذا كنت عبقرياً أو مجنوناً، اعمل فحسب". يعمل آلن للمتعة والتسلية، انطلاقاً من نظرته النقدية الساخرة إلى الحياة باعتبارها شيئاً باطلاً، وإلى الإنسان بوصفه كائناً غير قابل للإصلاح.
في مؤتمر صحافي شهير عقده في مهرجان "كان" عام 2015، قال آلن بذكائه الأسطوري وطرافته التي لم تتراجع مع السنوات، إن قسوة حياتنا ليست لديها إجوبة متفائلة، مهما حادثنا الفلاسفة ورجال الدين وعلماء النفس. وتابع قائلاً: "الحياة لها أجندتها الخاصة، تقفز فوقك ولا تبالي بك. يوماً ما، سننتهي كلنا بطريقة سيئة جداً. كل ما يمكن أن تفعله كفنان هو إيجاد شيء ما لتشرح لماذا تستحق الحياة أن تُعاش وما هي إيجابياتها (...). استنتاجي أن الشيء الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه هو الترفيه وتشتيت العقل، فأنتَ عندما تشاهد مباراة في البايسبول أو فيلماً لفرَد أستر، تفعل شيئاً يشتتك وينسيك الواقع. ما ينجح في تشتيتي هو أن أفكّر وأتساءل: يا إلهي، هل في إمكاني أن أجعل إيما وباركر تمثلان هذا المشهد وكأن الأمر يعني شيئاً مهماً. إنها مسألة تافهة، وإذا لم أحلّها فسأنجز حتماً فيلماً سيئاً ولكنني لن أموت. هذا ما أفعله: ألهي نفسي وأشتتها. وإنجاز الأفلام هو تشتيتٌ رائع".
تحية إلى فرنسا
عقلية وودي آلن تخالف الصورة التقليدية للمخرج الذي يتعين عليه أن يكون باحثاً أبدياً عن الكمال وصاحب رسالة اجتماعية خالدة، فيما يتمسّك آلن بالسينما لأسباب مختلفة تماماً عن الكمال والخلود. أسباب معيشية وترفيهية. حتى المشكلات التي عاشها أخيراً في بلاده أميركا، لم تنل من عزيمته، بل عرف كيف يوظّفها لمصلحة فنه، منتهزاً تراجع نجمه للخروج من أميركا والتوجّه إلى أوروبا، حيث كان ولا يزال يجد دعماً كبيراً، خصوصاً في فرنسا التي تعتبره أيقونة الدعابة اليهودية، فرنسا التي لطالما فهمته وفيها حققت أفلامه إيرادات أعلى من تلك التي حققتها في أميركا. ويمكن اعتبار آلن من السينمائيين الأجانب الذين ردت لهم الاعتبار أقلام النقّاد الفرنسيين، وجمهور صالات الأحياء الصغيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعدما كان آلن وجّه تحية لفرنسا قبل أكثر من عشر سنوات في فيلمه "منتصف الليل في باريس"، يعود إلى عاصمة الأنوار، مرغماً، ولكن أيضاً بدعم فرنسي يفتح له الأبواب، على غرار ما حدث مع بعض الذين غادروا أميركا أيام الماكارثية، ليجدوا في فرنسا ملاذاً سينمائياً. مع العلم أن بعد "استبعاده" من هوليوود بسبب اتهامات أخلاقية، وفي ظل الصواب السياسي الذي يسيطر اليوم على عاصمة السينما الأميركية، كانت إسبانيا قد قررت أن ترحب به أيضاً، وقد افتتح آلن عام 2020 مهرجان سان سيباستيان السينمائي بفيلمه "مهرجان ريفكين"، الذي صوّره في المدينة نفسها، تتويجاً لعلاقة طويلة كانت نشأت بينه وبينها. هذا الملاذ الأوروبي المتاح أمام آلن قد يكون مدخلاً لمرحلة جديدة من مسيرته السينمائية التي شهدت، بالنسبة للبعض، انحداراً وتكراراً وبهتاناً في السنوات الأخيرة. حتى المخرج نفسه لا يرى أي عيب في الابتعاد عن وطنه، - وإن حمل قوله هذا بعض المرارة، إذ اعترف في كتاب مذكّراته الذي صدر العام الماضي، وعلى طريقته الهزلية المحببة: "لا أستطيع أن أنكر أن تحولي إلى شخص منبوذ في وطني أميركا، يدخل ضمن فانتازماتي الشعرية، وهي أن أكون فناناً أعماله لا تُشاهَد في بلده. يأتي إلى بالي هنري ميلر. ديفيد هربرت لورانس، جيمس جويس. أتخيّل نفسي بينهم، أتحداهم. ثم، فجأة، توقظني زوجتي لتقول لي: أنت تشخر يا وودي!".
بعد غودار، وودي آلن اسم آخر لا نتخيل السينما من دونه لشدة تعلّقنا بأفلامه وتصريحاته ورؤيته المغايرة للعالم وفلسفته للحياة، على رغم أنه لم يأخذ نفسه يوماً على محمل الجد. فهو قد يموت إذا توقف عن التصوير، الشيء الذي لم يفعله منذ نصف قرن. نعم، صوّر آلن فيلماً كل عام منذ 50 سنة. قبل سنوات، طرح عليه الصحافي روبرت ويد سؤالاً افتراضياً: "إذا نزل عليك ملاك وسألك: ستعيش 100 سنة ولكن علينا أن نبرم عقداً، سنأخذ سنتين من المئة، ونسمح لك أن تنجز تحفة عمرك بدلاً عنهما، فهل توافق؟". جاء رد آلن حاسماً لا يقبل النقاش: "لا، أفضّل أن آخذ السنتين، أو حتى شهرين، ولا أنجز التحفة".