في بحر طرطوس دفنت أحلام العشرات من المهاجرين غير الشرعيين في بلوغ شاطئ الأمان في إيطاليا. فعند الساعة الرابعة عصراً من نهار الخميس، 22 سبتمبر (أيلول)، عجز القارب الذي انطلق نهار الثلاثاء من المنية في شمال لبنان عن إكمال سيره، وبدأ ما كان يحمل على متنه ما لا يقل عن 150 راكباً بالغرق، لتنتهي الرحلة باكراً على كارثة كبرى. فقد تمكنت فرق الإنقاذ السورية من انتشال 34 جثة وهذه الحصيلة مرشحة للارتفاع، وكذلك العثور على 20 ناجياً، فيما بقي العشرات من الركاب في عداد المفقودين. وتنوعت جنسيات الركاب بين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، علماً أن السلطات السورية لم تنشر بعد أي قائمة رسمية بأسماء الضحايا والناجين.
تعرف بعض الأهالي إلى هويات الناجين من خلال صور نشرتها مواقع إعلامية سورية من داخل المستشفى في طرطوس، ومن ضمنهم سكان من شمال لبنان. كما لجأت شريحة أخرى للتواصل مباشرة مع مستشفى الباسل من خلال رقم تم تعميمه بين الأهالي. ومساء أفيد عن توقف عمليات الإنقاذ بسبب ارتفاع الموج وقوة الرياح، بحسب مواقع سورية، في وقت أشارت المعلومات إلى العثور على غالبية الضحايا والناجين قرب جزيرة أرواد وعمريت والمنطار.
عائلات لبنانية
على متن القارب الغارق أمام طرطوس عائلات لبنانية وأخرى سورية وفلسطينية. وقد عرف من العائلات اللبنانية عائلة تلاوي من القرقف عكار، وعائلة مستو من طرابلس باب الرمل، وعائلة زين من القبة. وتمكن الأهالي من التعرف إلى الناجي وسام تلاوي فيما لا يزال مصير زوجته وأولاده الأربعة غامضاً، وكذلك حال مصطفى مستو وزوجته وأولاده الثلاثة، على رغم الحديث عن مفارقتهم الحياة مع عشرات الركاب.
يروي رئيس بلدية القرقف يحيى رفاعي أن يوسف (أحد ركاب القارب) فاتحه في موضوع الهجرة غير الشرعية فأبدى رفاعي معارضته هذا الأمر، لأن فيه خطراً على حياته وحياة عائلته، ذلك أن القوارب غير صالحة للصيد، فكيف هي الحال من أجل الإبحار لأيام بغية الوصول إلى شاطئ إيطاليا، يقول رفاعي "كنا نقول له إن الأحوال لن تبقى على ما هي عليه، وقد تتحسن"، ويروي أن أهالي البلدة اكتشفوا لاحقاً أنه باع المنزل قيد الإنشاء الذي يملكه من أجل السفر، وصدموا من خبر غرق القارب في طرطوس.
يكشف رفاعي عن بعض التفاصيل المثيرة في القصة، إذ يتم شراء القارب من مصادر مختلفة، كانت بداية من مرفأ الصيادين في العبدة، ولكن حالياً بدأ البحث عن مصدر جديد للقوارب، واصفاً الأمر "لم تعد هناك مراكب للصيد، غالبها بيعت أو خرجت في رحلات الهجرة التي تحصل بصورة دورية، وباتوا يشترون المراكب فوق 10 أمتار من سوريا مقابل 35 ألف دولار تقريباً، حيث أدى ازدياد الطلب على المراكب إلى ارتفاع أسعارها، وهو مبلغ لا بد أن يسترده التاجر من الركاب". ويضيف "من ثم يقوم تجار البشر بتحديد الموعد والانطلاق بالرحلة التي تحمل أحياناً أضعاف القدرة الاستيعابية للمركب، كل ذلك من أجل مضاعفة الأرباح لصالح تجار الأزمات الذين يتقاضون خمسة آلاف دولار لقاء الراكب". ولا يعفي رفاعي أحداً من مسؤولية "قمع التجار المعروفين للعامة والخاصة"، لأن هناك واجباً لتحمل المسؤولية ومكافحة اتجار البشر و"لم يعد جائزاً السكوت عن دفع الناس إلى الموت في البحر".
من ناحية أخرى أجرى وزير الأشغال العامة والنقل في لبنان علي حمية اتصالات مع الجانب السوري، وأشار بيان صادر عن حمية إلى مشاركة 24 زورقاً، بالإضافة إلى فرق على الشاطئ في عمليات البحث بغية العثور على ناجين وانتشال الضحايا.
قارب تائه في تركيا
لا يمر يوم إلا وتبرز إلى السطح الأخبار عن خروج مركب للهجرة من شمال لبنان، حتى يخال المرء أحياناً أنه يكرر قراءة أخبار اليوم السابق. آخر تلك التجارب القاسية على الأهل والركاب هي تعطل قارب انطلق من الشيخ زناد في عكار يوم الخميس في 15 سبتمبر الحالي عند الرابعة فجراً، وانقطع الاتصال بين الركاب الـ55 بعد وصولهم إلى قبالة السواحل اليونانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يروي السيد خالد والد أحد الركاب "نهار الثلاثاء 20 سبتمبر انقطع الاتصال بابني والسبب تعطل مضخة الماء في المركب مقابل اليونان قبل بلوغ إيطاليا، فما كان من السلطات هناك إلا أن نقلتهم من مركبهم إلى مركب خفر السواحل، ونقلهم ورميهم في إحدى الجزر التركية"، ويتحدث عن أوقات عصيبة عاشتها العائلة على مدى ثلاثة أيام لم يعرفوا خلالها طعم النوم أو الراحة بسبب غياب أخبار عن ابنهم القاصر، إلى أن اتصل بهم مساء الخميس في 22 سبتمبر لإبلاغهم أنهم بخير على قيد الحياة حيث يتم التحقيق معهم في سجن أزمير وأنه خلال 48 ساعة قد تتم إعادتهم إلى لبنان.
انتهت رحلة الركاب صحيح، ولكنها تعتبر درساً للعائلات والشباب الذين تركوا كل شيء خلفهم من أجل ركوب الخطر، يقول السيد خالد إن "ابنه أهمل كل اهتماماته وللمرة الأولى في حياته رسب في المدرسة، ومنذ عام صار لا حديث له إلا الهجرة وكان يقول للعائلة المتواضعة الحال سأذهب إن لم يكن بعلمكم فمن دون موافقتكم، لأنه يريد مغادرة لبنان بحثاً عن حياة جديدة لأن الأجور لا تكفي أجرة الطريق"، لذلك وافقت العائلة مرغمة على مغادرة ابنها بعد أن تأكدت من تجهيز المركب بالماء والمازوت وقطع الغيار ومجموعة بحارة خبيرة منذ عقود. ويضيف الوالد "يخرج هؤلاء بقوارب ويواجههم 99 في المئة خطر البحر وواحد في المئة الأمل بالوصول، وهذه النسبة الضئيلة للنجاة هي التي تقود الناس للسفر".
أنهت هذه الأزمة ساعات طويلة من القلق، بعد أن فقد الاتصال بالركاب قبالة الشواطئ اليونانية، إلى أن جاءت الأخبار من أنقرة بأنه تم تسليمهم إلى الجانب التركي. ولا يخفي السيد خالد سعادته لعودة ابنه البكر لأن "النظرة إليه تساوي الدنيا".
موقوفون في اليونان
كما يثير أهالي المهاجرين غير الشرعيين مسألة توقيف مجموعة منهم في اليونان، ويتحدث الشاب محمد ديب أن خاله عدنان يحيى القبوط موقوف في جزيرة كريت اليونانية، حيث يمنع من التواصل مع ذويه في لبنان. ويشير ديب إلى أن خاله البالغ من العمر 26 سنة خرج من البلاد لتأمين مستقبله لأنه لم تكن لديه فرصة عمل في لبنان، وذهب على متن قارب يحمل 55 راكباً من اللبنانيين والسوريين إلا أن السلطات اليونانية اعتقلتهم، وقد تمكن من التواصل مع أهله لمرة واحدة منذ 23 أغسطس (آب)، ويشير إلى توقيف أربعة أفراد هم ثلاثة لبنانيين وسوري واحد. كما ينفي خبر نقلهم إلى تركيا، لأنه تم توقيف الأربعة فيما جرى نقل الآخرين إلى مركز الإيواء الموقت. ويوضح محمد أن خاله لم يكن لديه المال لدفع بدل الهجرة إلا أن "أحد معارفه أرسله ضمن الرحلة التي كانت تتجه إلى إيطاليا، ولكن تعطل القارب قبالة اليونان". وتطالب العائلة بجلاء مصير الشاب الموقوف وإعادته إلى لبنان.
الخطر يتعاظم
جاءت الحادثة قبالة سواحل طرطوس لتحذر الفاعلين بالحقل العام من خطورة تفلت الموانئ البحرية، واستفحال هذه الظاهرة التي يبدو أنها تحولت إلى عملية منظمة مكتملة الأركان، ونجاح بعض الحالات السابقة دفع إلى تشجيع آخرين للمخاطرة من دون الأخذ في الاعتبار خطورة البحر. وما جرى ليس إلا واحدة من سلسلة حوادث مشابهة، ينشغل بها الرأي العام اللبناني، فخلال الشهر الحالي أثيرت على مراحل قضايا تتصل بتعطل قارب للهجرة أمام مالطا وتوقيف آخر في اليونان ورفض إيطاليا استقبال أحد المراكب وإعادة اليونان أحد القوارب إلى تركيا وغيرها من القصص، من دون أن ننسى إحباط الجيش اللبناني رحلات قبل أن تنطلق من شمال لبنان آخرها اعتراض أحد القوارب على بعد ستة أميال من شاطئ البحر في عكار وعلى متنه 55 راكباً من اللبنانيين والسوريين.
وبحسب رئيس رابطة مخاتير عكار تنطلق تلك الرحلات من أماكن مختلفة على طول الساحل من العريضة والعبدة والمنية، وصولاً إلى طرابلس والميناء والقلمون ثم إلى أنفة، ويتم ذلك عندما تسنح الفرصة، مضيفاً "ننام على خبر رحيل البعض قبل أن نستيقظ على فقدان آخرين، أحياناً أقرب المقربين لنا، من دون إعلامنا". ويلفت إلى أن "الأوضاع السيئة هي من تدفع الناس للرحيل، فقد حرم اللبناني من أبسط مقومات الحياة، ولم يعد يقوى على الاحتمال"، ويختصر أوضاعهم البائسة "يبيعون كل شيء من أجل الهرب. يبيعون منازلهم وأغراضهم لكي يحجزوا مكاناً على قوارب الهجرة عسى أن يصلوا إلى بلاد تحفظ كرامتهم".
وأعادت حادثة غرق المركب قبالة طرطوس إحياء ذكرى غرق المركب في 23 أبريل (نيسان) الماضي، وكأن الأقدار شاءت في ذكرى مرور خمسة أشهر على الحادثة الأولى أن تتكرر ربما من أجل لفت الأنظار إلى خطورة ما بلغه الوضع.