مع نهاية تعاملات الأسواق هذا الأسبوع يوم الجمعة، شهدت مؤشرات الأسهم الرئيسية حول العالم من الولايات المتحدة إلى آسيا مروراً بأوروبا، هبوطاً ينذر باستمرار الاضطراب في الأسواق لما تبقى من هذا العام.
وفي "وول ستريت بنيويورك" أنهت مؤشرات الأسهم أسبوعها الخامس على التوالي من الهبوط، وهو ما يعكس استمرار زيادة تشاؤم المستثمرين في شأن مستقبل الاقتصاد وقدرة واضعي السياسات المالية والنقدية على وقف التدهور.
ولا يقتصر التراجع على مؤشرات أسواق الأسهم، بل إن أسواق السندات تشهد عمليات بيع مكثفة أدت إلى ارتفاع العائد على سندات الخزانة في أكثر من اقتصاد متقدم، بينما واصل الدولار الأميركي الارتفاع في قيمته مع هبوط سعر صرف العملات الرئيسة حول العالم، وهوى سعر صرف الجنيه الاسترليني إلى ما يقارب الدولار للجنيه (1.09 دولار للجنيه الاسترليني)، وانخفض سعر صرف اليورو في مقابل الدولار إلى مستوى 0.96 دولار لليورو.
وشهد سعر الذهب تراجعاً هذا الأسبوع مع ارتفاع سعر الدولار، إذ يتناسب سعر الذهب في السوق عكسياً مع سعر صرف الدولار، هو وغيره من السلع الأخرى المقيمة بالدولار، لذا انخفضت أسعار النفط بقوة أيضاً هذا الأسبوع لتخسر ما يقارب خمسة في المئة على رغم توقعات ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.
وهبط سعر الخام الأميركي الخفيف "مزيج غرب تكساس" دون مستوى 80 دولاراً للبرميل، بينما تداولت عقود نفط "برنت" الآجلة عند سعر أعلى قليلاً من 86 دولاراً للبرميل.
عاصفة أم إعصار؟
لم يعد السؤال الآن بين المستثمرين وحتى الجماهير العادية هو ما إذا كان هناك ركود اقتصادي بالفعل أو على وشك الحدوث، وإنما السؤال حول عمق ومدى الركود وهل سيكون مجرد عاصفة تمر مخلفة بعض الآثار السلبية ثم تختفي، أو إعصاراً سيخلف دماراً اقتصادياً هائلاً.
بعض كبار رجال المال مثل الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورغان تشيس" جايمي ديمون والمحللين في "دويتشه بنك" يرون أن الاقتصاد العالمي مقبل على إعصار اقتصادي سيخلف أضراراً لن تختفي بسرعة، ويتسق ذلك مع رؤية بعض الاقتصاديين بأن الركود الاقتصادي سيكون عميقاً وطويل الأمد، أو "الركود الكبير" كما أطلق على الركود الاقتصادي العالمي وقت الأزمة المالية العالمية عام 2008.
لكن مسؤولي البنوك المركزية ومسؤولي المالية في حكومات الاقتصادات الرئيسة يقللون من التشاؤم ويرون أن الركود سيكون قصير الأمد، أي لن يتجذر في قطاعات الاقتصاد كافة ولن يستمر طويلاً، لكن ما يبدو حتى الآن من مؤشرات السياسة النقدية مثل رفع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية والسياسات المالية وحزم الدعم بهدف تنشيط الاقتصاد ودفعه للنمو، لا يشجع على تفاؤل كثيرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما ألمح بنك انجلترا (المركزي البريطاني) في بيانه الخميس حين أعلن رفع سعر الفائدة مجدداً بنسبة 0.75 في المئة، إلى أن الاقتصاد البريطاني ربما كان في حال ركود بالفعل، ويبدو الأمر غير محسوم بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي وهو أكبر اقتصاد في العالم.
إلا أن مسحاً لشركة "ماس ميوتشوال" نشرت نتائجه نهاية الأسبوع أشار إلى أن نصف الأميركيين يعتقدون أن الاقتصاد في حال ركود بالفعل، وقال 56 في المئة ممن شملهم الاستطلاع إن الاقتصاد الأميركي في ركود بالفعل، بينما توقع 49 في المئة أن يدخل الاقتصاد في ركود العام المقبل، أي بعد أشهر قليلة.
أما الاقتصاديون ومديرو صناديق الاستثمار فهناك 52 في المئة منهم يرون أن الاقتصاد الأميركي سيشهد ركوداً خلال الـ 12 شهراً المقبلة، وهناك مسح آخر من شركة "غرانت تومسون" للاستشارات والمحاسبة أظهرت نتائجه أن 72 في المئة من المديرين الماليين يرون أن استمرار رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي سيدخل الاقتصاد في ركود.
تناقض السياسات وتجاهل السوق
ومن الواضح أن وزراء المالية والخزانة في حكومات بلدان الاقتصادات المتقدمة غير مهتمين بهبوط الأسواق، فحين سئل وزير الخزانة البريطاني كوازي كوارتنغ عن هبوط السوق وانهيار سعر صرف الاسترليني خلال مقابلاته مع "فايننشال تايمز" و"بي بي سي"، قال إن الأسواق تتقلب باستمرار وأن تركيزه بالأساس هو على تحقيق النمو الاقتصادي، بغض النظر عن رد فعل السوق.
وفي الوقت نفسه لم تعد البنوك المركزية تقدم استقرار السوق على مكافحة التضخم، لذا فهي مستمرة في رفع أسعار الفائدة على رغم الذعر في الأسواق، بهدف وقف ارتفاع معدلات التضخم التي تقترب من أعلى مستوياتها خلال نصف قرن.
وكما قال جايمي ديمون في أكثر من مقابلة أجراها الأسبوع الماضي، فإن رفع سعر الفائدة حتى الآن لم يؤثر في الاقتصاد ولم يؤد إلى خفض التضخم، مما يعني أن البنوك المركزية ستواصل رفع أسعار الفائدة حتى تجفف السيولة من السوق، باعتبارها العامل الرئيس الذي يغذي ارتفاع التضخم، في وقت تعارض فيه السياسة المالية للحكومات تشديد السياسة النقدية من قبل البنوك المركزية من خلال حزم الدعم التريليونية كما في أميركا، والبليونية كما في بريطانيا وغيرها، في محاولة لدفع الاقتصاد نحو النمو والخروج من الركود.
وتضيف حزم الدعم تلك دعماً مباشراً لتخفيف عبء كلف المعيشة مع ارتفاع أسعار الطاقة أو خفض الضرائب، ومنح الشركات والأعمال ميزات يتم تمويلها باقتراض الحكومات مزيداً من السيولة في السوق، مما يدفع معدلات التضخم أكثر، أي أن الحكومات بسياساتها المالية تغذي التضخم بينما البنوك المركزية تحاول تشديد سياستها النقدية لكبح جماح التضخم.
ويترك ذلك التناقض الأسواق في حال عدم يقين دائم تعزز احتمالات استمرار الاضطراب وهبوط مؤشرات الأسواق، في وقت بدأ فيه منحنى العائد على سندات الخزانة، وهو الوسيلة الرئيسة لاقتراض الحكومات وتمويل سياساتها المالية، في الانقلاب بنسب تشبه ما يحدث في حالات الركود السابقة تاريخياً.
وبغض النظر عن حركة مؤشرات الأسواق التي قد تستمر في الهبوط فاقدة أكثر من 20 في المئة من قيمتها هذا العام، ليدفع ذلك نحو مزيد من البيع من قبل المستثمرين، فإن بقية مؤشرات الاقتصاد تدل على ركود لا يعرف بعد مدى عمقه.