إذا كان حزن المغاربة على رحيل الفاعلة الجمعوية الشهيرة عائشة الشنا، رئيسة جمعية التضامن النسوي، كبيراً وعميقاً، فإن حزن "الأمهات العازبات" على وفاتها أعمق وأكبر، لأنها كانت قيد حياتها أكبر داعم ونصير لهن قبل أن تداهمها المنية الأحد 25 سبتمبر (أيلول) الحالي.
"ماما عائشة" و"تيريزا المغرب" لقبان لازما عائشة الشنا التي غادرت الحياة وهي في سن 81 سنة، بعد أن ترجلت عن صهوة العمل الجمعوي والميداني لخدمة "الأمهات العازبات"، وهن الفتيات اللاتي اضطررن إلى الحمل والولادة من دون زواج بسبب ظروف معينة.
ظلم اجتماعي
بملامح الأم والجدة المغربية الطيبة كانت عائشة الشنا إلى غاية أيامها الأخيرة مثل "النحلة النشيطة"، التي لا تكل ولا تمل من العمل على أرض الواقع، تسأل عن حال هذه الأم العازبة، وتكفكف دمع تلك الفتاة المغرر بها، وتمسح شعر ذلك الطفل الذي جاء إلى الحياة من "أب مجهول".
شكلت الشنا بنبرة صوتها المألوفة والمحببة لدى من يستمع إليها رمزاً وأيقونة للعمل الجمعوي في المغرب، لا سيما في شقه الأسري، إذ تخصصت في رعاية الأمهات العازبات، وصارت درعاً تحميهن وسنداً يعولن عليه.
ويبدو أن الأنشطة الاجتماعية كانت كالدم الذي يسري في عروق الشنا منذ نشأتها، فقد انضمت مبكراً إلى جمعية تعتني بالتربية العصرية، وفي سن الـ24 كانت الشنا أول ناشطة مغربية تدعو الحكومة إلى التفكير في "التخطيط العائلي".
وكبرت أحلام الشابة عائشة الشنا بخصوص إقامة مجتمع أكثر عدلاً خصوصاً حيال النساء، فشاء القدر أن تصادف ـ وفق ما كانت ترويه الراحلة ـ وهي في سن الأربعين، حالة اجتماعية وإنسانية صعبة جعلتها تختار مشوارها الذي اشتهرت به ومنحته وقتها وجهدها وحياتها كلها.
كان ذلك صبيحة أحد أيام عام 1981 عندما كانت تجالس مساعدة اجتماعية في وزارة الصحة، فدخلت فتاة قروية تحمل رضيعاً وهي في حالة يرثى لها. وكانت ترفض التخلي عن وليدها الذي جاء نتيجة حمل خارج مؤسسة الزواج، ورفض الأب الاعتراف به.
تحكي الشنا نتفاً من سيرتها الحياتية المديدة عن تلك اللحظة، التي كانت نقطة مفصلية في مسارها المهني والجمعوي والاجتماعي، إذ تأثرت كثيراً بتلك الحالة، وأقسمت بأن تعمل على مواجهة ما سمته "الظلم الاجتماعي" الذي يلحق بفئة من الفتيات اللاتي يجدن أنفسهن حوامل نتيجة عوامل وظروف معينة، فلا يجدن من يهتم ويعتني بأبنائهن.
تأسيس الجمعية
وهكذا أربع سنوات فقط بعد تلك الواقعة، استطاعت الشنا تأسيس جمعية جديدة اختارت لها اسم "التضامن النسوي"، لتعمل في مجال دعم وحماية الأمهات العازبات وأولادهن، من خلال توفير فرص شغل لهن، وإيوائهن في ظروف حسنة.
وكان أكثر ما تخشاه "ماما عائشة"، وهو اللقب الذي كانت تنادي به الأمهات العازبات الناشطة الراحلة، أن تقع "الأم العازبة" فريسة للخوف من الأسرة ونظرة المجتمع، فتلقي بطفلها في الشارع، لتعرضه للتشرد وتعرض نفسها للضياع. فأسست الجمعية التي فتحت أبوابها لإيواء هذه الشريحة من النساء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدأت الشنا "طريق الألف ميل" بأول خطوة تمثلت في إنشاء هذه الجمعية التي أثارت في ذلك الوقت كثيراً من السجال والجدل والرفض، بالنظر إلى كون موضوع "الأمهات العازبات" بمثابة "تابو" في مجتمع مغربي محافظ.
وعملت الشنا على إعطاء كل طاقتها وجهدها وتجربتها لإنجاح عملها في إثارة انتباه المجتمع المغربي إلى شريحة "الأمهات العازبات"، واستطاعت أن تضمن لها موطئ قدم داخل المشهد الجمعوي في البلاد، وتمكنت من فتح طريق لهؤلاء النساء وأبنائهن إلى الإعلام ورجالات السياسة.
وكافحت الراحلة للبحث عن إمكانات مالية تتيح لها جعل الجمعية مركزاً لإيواء الأمهات العازبات وأطفالهن حتى لا يكن عرضة للتشرد، فتمكنت من ذلك بالفعل، بفضل علاقاتها الاجتماعية الناجحة، كما أنشأت مطعماً تابعاً للجمعية وورشات عمل للمستفيدات يبعن من خلالها ما يصنعنه من حلويات.
اتهامات بتشجيع الفساد
لم يكن طريق "تيريزا المغرب" مفروشاً بالورود أبداً خصوصاً في بدايات عملها وتعريف المجتمع بشكل علني على ظاهرة "الأمهات العازبات"، إذ تعرضت لوابل من الانتقادات التي بلغت حد اتهامها بنشر الفساد والانحلال عبر تشجيعها الأمهات العازبات ودفاعها عنهن.
وهاجم إسلاميون ودعاة مغاربة خصوصاً في فترة الثمانينيات والتسعينيات عائشة الشنا بسبب عملها في نصرة الأمهات العازبات. وكان هؤلاء يتهمونها بأنها "تحض على شيوع الفساد والفاحشة في المجتمع المغربي الموسوم بكونه مجتمعاً محافظاً"، وفق هؤلاء الإسلاميين.
وطالب بعضهم ـ في تلك الفترة ـ السلطات بمحاكمة الشنا بسبب ما اعتبروه تشجيعاً على تنامي ظاهرة الأمهات العازبات لأنهن يجدن من يرعاهن، بالتالي تتجرأ أخريات على العلاقات غير الشرعية، لأنهن في النهاية سيجدن الشنا بجانبهن.
الراحلة الشنا كانت دائماً تتذكر تلك الأوقات العصيبة من حياتها. وقالت إنها كادت تستسلم وتخضع للاتهامات وتبتعد عن عملها الجمعوي ذاك، لكن سياسيين وشخصيات بارزة طلبوا منها إكمال طريقها وعدم الاكتراث لتلك الاتهامات، وهو ما حصل بالفعل.
ولعل تلك الاتهامات التي كانت تروم وقف عمل الشنا دفعتها من حيث لا تدري إلى بذل مزيد من العطاء، لإبراز أنها لا تشجع على الفساد كما يرميها خصومها، بل تنشد رعاية الأطفال المتخلى عنهم حتى لا يقعوا ضحية التشرد في الشوارع.
وكانت الشنا تقول إن اهتمامها بفئة الأمهات العازبات وأبنائهن ليس فقط لكونها تبحث عن وضعية أفضل لهذه الفئة المهمشة من المجتمع، ولكن أيضاً لأن جدها الذي كان فقيهاً وكان يوصيها دائماً بالعناية بالأطفال المتخلى عنهم، وأنه عوض مناداتهم من قبل البعض بـ"أبناء الحرام" أو "أبناء الزنى"، يتعين مناداتهم بـ"أولاد الرضا".
اعتراف وإشادات
جهود الشنا كانت تدور على أكثر من صعيد ومحور، فقد كانت تعمل على الواجهة الاجتماعية والحقوقية والقانونية والإعلامية والسياسية أيضاً، على رغم من تصريحها دائماً بأنها لا تمارس السياسة أبداً في عملها الجمعوي.
على الواجهة الاجتماعية كانت الشنا تجتهد لتحويل قضية الأمهات العازبات إلى قضية رأي عام، والواجهة الحقوقية كانت تدفع الشنا إلى تقديم مرافعات حقوقية في شأن هذه الفئة من المجتمع في عدد من الندوات والمحافل الحقوقية الوطنية والدولية.
وأما بخصوص الواجهة القانونية فقد كانت الشنا تواجه قوانين لا تنصف نسب الطفل المولود من دون عقد زواج شرعي، وفق ما تنص عليه مدونة (قانون) الأسرة في المغرب، وكانت تطالب دائماً بتغيير القوانين لخدمة هذه الفئات الاجتماعية المهمشة.
وإعلامياً كانت الشنا وجهاً مطلوباً من قبل وسائل الإعلام المغربية والعربية والدولية أيضاً، وقد كانت تتقن التعامل مع الوسائل الإعلامية وتترافع عن ملف الأمهات العازبات، كما تحكي قصصها الكثيرة مع هذه الفئة.
جهود الشنا في رعاية أبناء الأمهات العازبات لم تذهب سدى، إذ استطاعت ضمان موارد مالية وبشرية ودعامات إعلامية وسياسية وحقوقية لهذه القضية، كما أشاد بها العاهل المغربي الملك محمد السادس عندما وشحها بالميدالية الفخرية عام 2000 نظير جهودها وخدماتها الاجتماعية. وقد توجت كذلك من قبل بلقب أفضل رائدة في العمل الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.