اسمحوا لي أن أبدأ بالتذكير بأن تركيا عضو مؤسس في مجلس أوروبا والأمم المتحدة، إضافة إلى أنها منذ عام 1952 عضو في الـ "ناتو" ودولة مهمة تتمتع بحق النقض في الحلف.
كما أنها منذ عام 1959 في طريقها إلى أن تصبح عضواً بالاتحاد الأوروبي، على رغم أنها لم تبذل كثيراً من الجهد خلال الفترة الأخيرة.
بعد الحرب العالمية الثانية شاركت تركيا في عدد من المنظمات داخل الكتلة الغربية، وكانت لها علاقات وثيقة مع عدد من تلك الدول في إطار التحالفات،
وأسهمت علاقة تركيا الوثيقة مع الغرب بهذا المستوى في تحسين علاقاتها مع الدول الغربية وتطورها في مجال حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإن كان ذلك بتقلبات صعوداً وهبوطاً.
لكن لسوء الحظ وخلال العقد الأخير من حكم حزب العدالة والتنمية، تراجعت علاقة تركيا الممتدة لما قبل لمدة 50 عاماً مع الغرب، ويمكننا أن نفهم سبب هذا الفشل عندما ننظر إلى ألبوم الصور لرئيس حزب العدالة والتنمية الرئيس رجب طيب أردوغان خلال الأشهر الأخيرة، لأننا سنرى أن عدد صوره التي تم التقاطها مع زعماء روسيا والصين وقادة الدول التي تدور في فلك هاتين الدولتين أكثر من صوره مع قادة الدول الغربية.
نعم إنه يفعل ذلك في الوقت الذي نلاحظ أنه حتى قوة عالمية مثل الصين تتحاشى بنفسها تقديم الدعم الكامل لروسيا ضد الولايات المتحدة، في حين أن هذه الأخيرة تخوض منافسة واسعة النطاق ضد الصين.
نعم إن الصين على رغم أنها تستورد النفط من روسيا لكنها مع ذلك تتوخى الحذر قدر الإمكان، لتنأى بنفسها عن التعرض للعقوبات الاقتصادية حتى تحافظ على حجم تجارتها مع الغرب التي تعتمد عليها الصين بشكل ملحوظ،
ومن المعلوم أن التشابك في النظام العالمي الحالي قد وصل إلى مستوى لا يمنح أحداً ترف الاستقلال التام في السياسة الخارجية، وأود أن أتطرق إلى ما تعنيه تصريحات أردوغان عندما قال أثناء القمة التي عقدت في سمرقند الأيام الماضية، "يمكننا أن نصبح عضواً في منظمة شنغهاي للتعاون".
لقد تمت كتابة العديد من التقارير حول هذا الموضوع، ويدعي جزء كبير من المؤسسات والمنظمات الموالية للحكومة التركية أن العالم يتجه نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب خلال الفترة المقبلة، وأن الغرب بدأ يفقد قوته وأن ثقل النظام العالمي يتحول إلى الشرق، وبالتالي فإن مشاركة تركيا في تكتلات دولية تقودها دول شرق آسيوية ستخدم مصالح البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالطبع يمكن أن تكون هذه أيضاً أفكار صائبة في إحدى جوانبها، لكن هل سيفتح النظام العالمي متعدد الأقطاب أبواب الفرص على مصاريعها أمام تركيا؟
الأمر الحاسم حقاً هو كيف ستتعامل أنقرة مع هذه الفرص وتنتهزها؟
إن تقديم أحد القطبين كبديل لمنافسه باستخدام أحدهما كعصا ضد الآخر، هو أكبر عقبة أمام القدرة على الاستفادة الكافية من هذه الفرص، وللأسف فهذا بالضبط ما يفعله الرئيس أردوغان،
ولا تنظروا إلى خطابه حول "سياسة التوازن"، إن أردوغان بأقواله وتصرفاته يموقع تركيا في جبهة معادية للغرب، وهذا يضعف يد تركيا تجاه القوى الشرقية، فبمقدار متانة علاقات تركيا مع الغرب سيكون بإمكانها إدارة علاقاتها مع الأقطاب الأخرى على أساس متساو وصحي، وبعبارة أخرى كلما كانت أقوى في الغرب زادت حصتها التفاوضية في الشرق.
وإذا قرأنا مؤتمر القمة في سمرقند من هذا المنظور فنستطيع القول إن روسيا والصين من جانبهما بعثتا برسالة إلى العالم في ضوء الحرب الأوكرانية، وبهذا المعنى كانتا سعيدتين بمشاركة تركيا في القمة، لكن معظم الباقين من الأعضاء في حلفهما، وهي بلدان أشقاء لتركيا، كانوا مهتمين بمشاركة أردوغان لأنهم يعتبرون تركيا هناك ثقلاً يحقق التوازن في مقابل روسيا والصين، فكلما كانت علاقات تركيا مع الغرب قوية فإنهم سيهتمون بها أكثر ويحترمونها.
انظروا، فحتى كازاخستان التي توجست من الحرب الأوكرانية بدأت تنأى بنفسها عن روسيا، إذ إنها لم تؤيد أبداً الخطوات التي اتخذتها روسيا في أوكرانيا، كما أنه لا ينبغي التغاضي عن مغزى قيام الرئيس الصيني بأول زياراته بعد "كوفيد" إلى كازاخستان، وفي مثل هذه البيئة يضعف أردوغان يده من خلال إظهار الحماسة المفرطة تجاه "منظمة شنغهاي للتعاون".
يلاحظ الجميع أن مشكلة أردوغان هي حرصه على مكاسب اقتصادية على المدى القصير، وأن يصطاد العديد من الطيور بحجر واحد، كما أنه يحاول أن يقول لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي "انظروا لدي خيارات أخرى".
يمكن أن يجد هذا الموقف دعماً حتى بين معارضي أردوغان في مجتمع غاضب بشكل متزايد من الغرب، لكن لا مجال للعواطف في السياسة الخارجية،
ولا يظن ظان أن المشارقة قد فتحوا أحضانهم ليقولوا لأردوغان "ما دمت متوجهاً إليّ فاطلب مني ما تشاء"، ولإعطاء أبسط مثال فمن المعروف أن المواطنين الأتراك يجدون صعوبة في الحصول على تأشيرات من الدول الأوروبية، لكن على رغم كل هذا التزلف فليس من السهل على المواطنين الأتراك حصولهم على تأشيرة من الصين، فحتى رجال الأعمال يلاقون عقبات في هذا المجال على رغم تغاضي أنقرة عن التضييق الذي تمارسه الصين على المسلمين الإيغور، بل وتسليمها بعضاً من المطلوبين للسلطات الصينية.
وأما بالنسبة إلى الهند فإن الأتراك الذين أعرفهم ليس لديهم ميل للذهاب والبقاء هناك بشكل غير قانوني، لكن إذا فرضنا أنهم سيريدون الحصول على تأشيرة هندية فلن يكون سهلاً أيضاً، وباختصار فإن إدارة سياسة خارجية متعددة الأوجه ليست مهمة سهلة كما يقولون.
وبينما يخطط أردوغان للبقاء في حلف شمال الأطلسي والاستفادة من مزاياه، يغازل في الوقت نفسه "منظمة شانغهاي للتعاون"، ومن أبرز الأمثلة على افتقاره إلى اللغة الدبلوماسية أنه يردد دائماً قوله "سأكون المدافع عن المسلمين المضطهدين في العالم"، وينتقد الـ "إسلاموفوبيا" في أوروبا، لكنه منذ اليوم الذي وصل فيه إلى السلطة يزج بنفسه في قلب جميع الأعمال التي تضر بسمعة المسلمين وتغذي الكراهية ضدهم.
إن محاولة مداراة الآخرين مع عدم المساومة على المبادئ، وكذلك الحفاظ على التوازن بين الخصوم مع الحرص على عدم استفزاز أي طرف قدر الإمكان، يتطلب نوعاً من الحنكة الدبلوماسية، لكن ما يفعله أردوغان هو أنه عندما يتلاعب بالعلاقات الدولية ويسخرها في سبيل تحقيق مكاسب قصيرة المدى مع الحفاظ على مكاسبه الشخصية، يقدم صورة تركيا التي تنجرف وتتذبذب هنا وهناك، بدلاً من صنع صورة "دولة تحاول الحصول على مكان لها في عالم متعدد الأقطاب بما يتماشى مع مصالحها العامة".