لا شك أن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالإعلان عن التعبئة العامة "الجزئية" (لم يستطع المراقبون حتى الآن تحديد ماهية جزئيتها)، كان قراراً غريباً ومتوقعا في آن واحد. غريباً بسبب مفاعيله السلبية على البلاد ككل وتحديداً على النخبة الحاكمة ومتوقعاً لأن كل القرارات التي اتخذت منذ 21 فبراير (اعتراف موسكو بالجمهوريات الانفصالية في شرق أوكرانيا) أضرت بروسيا ومواطنيها وسمعتها لعشرات السنين، لذلك قرار جديد في هذا المنحى هو متوقع عاجلاً أم آجلاً.
ما الذي سبق القرار؟
منذ يوليو (تموز) الماضي سمحت السلطات الروسية للشركات العسكرية الخاصة، وأشهرها "فاغنر"، بتجنيد مقاتلين من صفوف المسجونين وهو أمر بحد ذاته جدلي للغاية خصوصاً إذا علمنا أن التجنيد لا يستثني المحكومين بالأحكام المشددة من المجرمين القتلة والمغتصبين وغيرهم، ومقابل مشاركتهم يحظى هؤلاء بفرصة للحصول على العفو في حال نجوا من الموت.
وبحسب الصحافي الاستقصائي والمدير التنفيذي لمنصة "بيلينغكات" Bellingcat خريستو غروزيف، فإن من بين مجموعات المساجين التي تمكنت "بيلينغكات" من متابعة تجنيدها من السجون ومصيرها اللاحق فإن الأغلبية الساحقة من عديدها (أكثر من 90 في المئة) يلقون حتفهم في المعارك. ومن المعروف الآن أن كثيراً ممن قتلوا في المعارك نالوا أوسمة شرف.
من المفارقة أن عراب "فاغنر" الثري يفغيني بريغوجين في معرض رده على الانتقادات قال: "إما فاغنر والمساجين، أو أولادكم". ولكن خلال أقل من أسبوع على تداول هذه العبارة جاء إعلان التعبئة العامة... وكأنها ترد على العبارة أعلاه لتقول "كلا، أولادكم".
مدلولات القرار
متى تعلن سلطات التعبئة؟ هكذا قرار لا مثيل له في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية. لكن فعلياً روسيا لا تتعرض لأي هجوم عسكري، ورسمياً لا تشن حرباً، بل "عملية عسكرية خاصة" التي اتضح بأنها يمكن أن تكون أسوأ من بعض حروب فعلية أخرى. ورسمياً أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو منذ أيام أن خسائر الجيش الروسي بلغت ما يقارب 6000 عسكري، وهو رقم باهت مقارنة مع الـ130 ألف الذين يشاركون بالعملية الخاصة.
من هذه التساؤلات البسيطة، المعطوفة على واقع سماح للسلطات لشركة عسكرية خاصة (قانونياً هذا النوع من الكيانات ممنوع في روسيا) أن تجند المساجين وتعدهم بعفو في تخط كامل للإجراءات القضائية المتبعة. يمكن بسهولة استنتاج أن حجم الخسائر في الجيش الروسي يفوق بأضعاف، وربما يكون في المستويات التي توقعتها الاستخبارات الغربية أي لا تقل عن 50 ألف، وإلا ما الداعي لكل هذا التجنيد، والكلام الآن عن تجنيد 300 ألف فرد إضافي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً لولا الخسائر التي مني بها الجيش الروسي، ولولا أنها كبيرة فإنه من غير المفهوم دوافع التعبئة. بالنهاية يبلغ عديد الجيش الروسي أكثر من مليون فرد عسكري بقليل، وهم إذ فعلاً ينتشرون على مساحة شاسعة من الحدود البرية والبحرية، فإن الحري كان إرسال فرق مدربة وعاملة في الجيش بدلاً من سحب الناس من أعمالهم وأشغالهم اليومية مع ما يعكسه ذلك من عرقلة للدورة الاقتصادية واضطرابات اجتماعية.
تبعات القرار
الوطنيون المتحمسون للحرب هللوا لقرار بوتين، لقد كانوا يطالبونه به منذ فترة طويلة، وهم ما انفكوا أساساً يطلبون من الكرملين طوال السنوات الثماني الأخيرة (منذ اندلاع أزمة دونباس) بالتورط علناً وليس في الخفاء في دعم جمهوريات الدونباس.
ومن المفارقة أن إعلان عن التعبئة تزامن مع خبر تبادل الأسرى الذي جرى بوساطة سعودية وتركية. إذ أفرجت روسيا عن معتقلي كتيبة "آزوف" – الموسومة بأقصى نعوت النازية عند صقور السلطة الروسية وأبواقها الإعلامية – ومعهم عدد من المقاتلين الأجانب ممن حاربوا إلى جانب الجيش الأوكراني، مقابل من عدد من الأسرى الروس والملياردير الأوكراني السياسي الموالي للنظام الروسي فيكتور ميدفيدتشوك المعروف بأن الرئيس الروسي عراب ابنته، والذي اعتقلته القوات الأوكرانية منذ أشهر أثناء محاولته الهرب متنكراً. وقد صدم هذا التبادل هؤلاء المتحمسين الوطنيين لأنهم كانوا يتوعدون إجراء محاكمة "التي يستحق أن ينالها" هؤلاء النازيون (في إشارة إلى معتقلي كتيبة آزوف).
لا يوجد وصف أدق لتبعات ما حدث أكثر من قول أحد السياسيين المعارضين الروس تعليقاً على القرار، "فقط بعد 21 سبتمبر (أيلول) استوعب كثير من الروس ما جرى في 24 فبراير".
وفعلاً، إذا استثنينا المتشددين المهللين من أنصار الحرب، من الصعب إيجاد طرف مرحب بالقرار، بالتالي يحتار المرء في الدوافع التي دفعت لهذا القرار غير الشعبي لرئيس متحسس جداً لأن يكون شعبياً ومدعوماً من مواطنيه. فهو فعلياً نقل الحرب إلى بيت كل روسي، وأصبحت الحرب الآن شغلهم الشاغل بعدما كانت أخباراً على تلفاز قلة من شعر بالاهتمام بها.
ومع هذا القرار بدأنا نرى احتجاجات معارضة للتعبئة على طول البلاد وعرضها؛ خصوصاً في الجمهوريات القومية، في القوقاز، حيث الرابط العائلي والجغرافي هو الأقوى. كما أعلن الرئيس الشيشاني رمضان قديروف وهو من أشد المتحمسين للحرب أنه لن يجري أي تعبئة في جمهوريته لأن "أبناءها بالفعل قدموا أكثر من المطلوب منهم حتى الآن"، وهو ربما صحيح نظراً للفرق الشيشانية الكثيرة المشاركة في الحرب.
أخيراً، لطالما كان أحد مشاهد الحرب هو الحياد السلبي للغالبية المطلقة للروس خصوصاً بين أبناء المدن الكبرى ومعضلة المعارضين للحرب في إيصال أصواتهم لهؤلاء وفتح أعينهم على حجم أهوالها ومدى ضررها على روسيا. اليوم انتفت هذه المشكلة بمرسوم واحد، لأن قرار بوتين نقل الحرب فعلياً إلى الداخل الروسي. واليوم المواطن الروسي شاء أم أبى عليه التعامل مع الواقع الحقيقي بعكس ما كانت عليه الأمور طوال الأشهر الماضية حين كانت اللامبالاة حيال ما يجري في أوكرانيا هي الطاغية.