من المعروف أن قبول الرئيس عبدربه منصور هادي بأول هدنة رسمية لمدة شهرين جاء نتيجة لضغوط إقليمية وأخرى مارسها المبعوث الأميركي تيموثي ليندركنغ (دخلت حيز التطبيق في الثاني من أبريل/ نيسان 2022)، وبعدها بأيام خمسة في السابع من أبريل 2022، قرأ رئيس الحكومة البيان الختامي للمشاورات التي جرت في الرياض من 28 مارس (آذار) حتى السابع من أبريل 2022، معلناً بصراحة وشجاعة اعتراف "الشرعية" بفشل الحل العسكري، ولم يكن ذلك مفاجأة لأحد وإنما إقراراً حكومياً أمام العالم بالفشل في إدارة الملف السياسي والعسكري منذ مارس 2015.
تكرر تمديد الهدنة مرتين في الثاني من يونيو (حزيران)، والثالثة تنتهي في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول)، ومن المرجح أن ضغوط المبعوث الأميركي وإسهام المبعوث الأممي أسفرت عن الموافقة المبدئية على التمديد لمدة شهرين في الأقل، مع اقتناع وتدخل مباشر من الرياض ومسقط وأبوظبي وعدم ممانعة طهران، هذا إن لم تكن المساعي قد نجحت في إقناع الطرفين اليمنيين بالتمديد لستة أشهر يبحثان خلالها كل القضايا الإنسانية المرتبطة بالمرتبات وفتح كل الطرقات ورفع الحصار عن مدينة تعز وإطلاق سراح الأسرى كافة، ويتوقع المبعوث الأممي حسب نصوص الوثيقة التي تسربت أن ترتفع الأطراف اليمنية إلى مستوى أعلى أخلاقياً ووطنياً لتقدم التنازلات من أجل المواطنين.
المقترح الأممي تكرر ثلاث مرات، لكنه لم يفلح في إحداث أي اختراق أبعد من استمرار الهدنة وهو أمر أشار إليه الرئيس الأميركي جو بايدن في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وعبّر فيها عن أهمية استمرارها، والواقع أن الهدنة بحد ذاتها رغم كل ما يشوبها من قصور، صارت أمراً إيجابياً يمكن استغلاله إذا كانت النوايا صادقة مع يقيني أن جماعة "أنصار الله" الحوثية هي الأجدر والأقدر على تقديم التنازلات من أجل المواطنين، لأن الحكومة لم يعد بيدها أي أوراق تساوم عليها أو تتنازل عنها، كما أن مجلس القيادة الرئاسي يعاني باعتراف رئيسه من خلافات بين أعضائه.
وأخيراً، أعلن المجلس الانتقالي عن أن تمديد الهدنة مرتبط بتوفيرها لمقومات السلام في جنوب البلاد، مما يخلق تعقيدات جديدة في أسلوب التعامل مع المفاوضات المقبلة المتوقعة حول الهدنة وتبرزها عدم الشفافية وعدم القدرة على إدارة المجلس بطريقة تحقق استقراراً سياسياً.
في كل الأحوال، هناك قضايا جادة تقف عقبة أمام القبول بالمشروع الذي اقترحه المبعوث الأممي، وقد ذكرت الأسبوع الماضي في هذه المساحة أن أصعبها هو الاتفاق على إيرادات الموانئ والمنافذ، ورغم سهولة التحقق من الأرقام التي تتحصل السلطات المشرفة عليها، لربما سيكون من المجدي أن يبدأ الجانب الحكومي بالإعلان عن نفقات وإيرادات كل القطاعات التي تقع تحت إشرافه، وفي المقابل يجب على جماعة "أنصار الله" أن تفعل الصنيع ذاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن قضايا الفساد المعلنة والمسكوت عنها التي يعلم تفاصيلها كثيرون، تمنع التوصل إلى مرحلة ينتظر فيها المواطن التخفيف من أعبائه المعيشية التي يعاني منها منذ دخول البلاد في دوامة الصراعات الدامية في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، حين وقعت البلاد في شرك اتفاق السلم والشراكة الوطنية الذي كان أـكبر خديعة سياسية، شاركت مجبرة في التوقيع عليه كل قيادات الأحزاب في حفل بهيج رعاه الرئيس هادي ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة السابق، المغربي جمال بنعمر، وصاحب نظرية المعجزة اليمنية في حل الخلافات بالحوار ورغبته في أن تكون نموذجاً تحتذي به الدول التي تكون في طور الانتقال.
لقد كان 21 سبتمبر إيذاناً بسقوط الدولة اليمنية وما جرى بعد ذلك نتيجة طبيعية لفشل فاضح لكل القيادات السياسية حينها، ولعله من المثير أن الحوثيين يحتفلون به كثورة قضت من وجهة نظرهم على الفساد وحققت العدالة الاجتماعية وحسنت من أوضاع الناس، والأهم من ذلك، بحسب رؤيتهم للأوضاع، أنهم تمكنوا من الدفاع عن سيادة البلاد وكرامتها.
والواقع أنهم لا يتغافلون عن أنه مع أهمية هاتين القضيتين الوطنيتين (سيادة البلاد وكرامتها) فإنهم أوقعوا البلاد في مأزق كارثي سيكون من الصعب تجاوزه دون إعادة التفكير في المفهومين وكيفية التعامل معهما وحساب ما ينتج من التعسف في استخدامهما ورقة دعائية تتحول إلى خطاب ديماغوجي صرف دون تقديم برنامج وطني جاد يلتفت إليه الناس ويقتنعون به، ويجب على جماعة أنصار الله الحوثية فهم أن هاتين المفردتين تفقدان قيمتهما المعنوية في ظل أسلوب الحكم التعسفي الذي يديرون به المناطق التي يسيطرون عليها بالقوة المفرطة.
وبالعودة إلى الهدنة، فإن المسؤوليتين الأخلاقية والوطنية وحفظ كرامة الناس تستدعيان القبول بالهدنة لأطول فترة زمنية، ولا يجوز إنسانياً الحديث عن تفاصيلها التي يجب تركها إلى لجان مشتركة معها تعليمات واضحة بأن المطلوب هو الإنجاز الإيجابي والانحياز لقضايا الناس ومعيشتهم، وليس المزايدات وتسجيل النقاط كل على الآخر ووضع العراقيل واستعراض المهارات والعضلات، وإذا ما جرت المفاوضات بالطريقة التي تمت بها في المرات السابقة، فمن المؤكد أنها ستفضي إلى فشل سيتحمل المواطنون وحدهم ومعهم آلاف الجنود من الشباب الممسكين ببنادقهم في الجبهات المفتوحة التي ذهبوا إليها دفاعاً عن قناعاتهم أو لأنها وسيلة العيش الوحيدة المتاحة لهم.
من المجدي والمهم أن يفهم اليمنيون أن العالم ينفد صبره ويصيبه الملل من ضيق أفق قادتهم وتقديم مصالحهم الشخصية على مطالب الناس واحتياجاتهم، وفي وضع كهذا سيتمسك كل طرف بمرئياته للحل، وحينها سيكون من المحتم أن النتيجة هي تثبيت الأمر الواقع في كل رقعة جغرافية يتمكن حاملو السلاح فيها من استمرار سلطتهم، ومن ثم تمديد الهدن الواحدة تلو الأخرى إلى أن يتمكن اليمنيون من اختيار قيادة راشدة وشجاعة.