في الحروب والأزمات تتجه الأنظار إلى الجيوش النظامية من أجل تحقيق النصر، وعادة ما تكون الحروب مبنية على قضية يعتبرها كل طرف حقاً لبلاده، فتتكامل مع العقيدة القتالية والقضية النضالية بين أعضاء الجسم العسكري، وتشكل العنصر الأهم لالتزام العسكريين وإطاعة أوامر رؤسائهم والاحتفاظ بالشحن المعنوي والعقائدي والسعي إلى النصر رغم إمكان مواجهة الموت.
وعقيدة الجيوش عادة ما ترتكز على نقل العسكريين من فكرة الانتماء الوظيفي إلى الانتماء العقائدي، والمؤسسات العسكرية التي تعي بعمق هذه الثغرة في العمل العسكري المنظم عملت عبر العصور على صهر العقول المنتمية إليها في بوتقة وحدة التفكير والتوجه عبر تقنيات مدروسة تعمق هذا الانتماء من طريق إثارة الدوافع الفطرية الكامنة لدى المقاتلين، والتي أسهمت في بقاء الأوطان عبر العصور.
وفي هذا السياق يوضح الباحث الأميركي في الحقل النفسي مارڤين زوكيرمين أن الانصهار في الفكر القتالي الموحد يستدعي إثارة العوامل الفطرية التي رافقت وجود الإنسان، مشيراً إلى أن دور المؤسسات النظامية يكمن في تجنيد تقنيات التعبئة لاستبدال فكرة الانتماء الاجتماعي والفئوي بفكرة الانتماء الوطني في عقل المحارب، إذ تسيطر فكرة الدفاع عن الوطن وتتجذر في العقول.
الهروب الكبير
وتعتمد معظم جيوش العالم على تجنيد الشباب في صفوفها خلال فترات الحروب والأزمات الخطرة، مرتكزة على الطابع الوطني للقضية والتكامل بين العقيدة الوطنية للمواطنين وعقيدة الجيش، إلا أن تجارب عدة أثبتت عدم رغبة الشباب التطوع في حروب خارج الحدود، ولعل الحرب الروسية - الأوكرانية دليل واضح على ذلك، إذ فر أكثر من 260 ألف شاب من روسيا عقب إعلان التعبئة العسكرية الجزئية في البلاد.
وفي هذا السياق يوضح رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والأبحاث هشام جابر أن عمليات الهرب من الجيوش أمر طبيعي دوماً، وتحدث في حالتي الذل والحرب، مشيراً إلى أن موضوع الهرب له أسباب عدة، منها شخصية واجتماعية وأخرى اقتصادية وسياسية، مؤكداً أن معظم جيوش العالم تشهد مثل هذه الحالات، ونسبة الهرب من الجيوش النظامية عادة تتراوح بين واحد إلى 10 في المئة في أقصى الحالات.
وكشف عن أن الجيش السوري شهد فراراً جماعياً لضباط وعناصر بعد اندلاع الثورة، مقدراً نسبته بنحو خمسة في المئة من تعداد الجيش السوري، مشدداً على وجود قوانين عسكرية تلاحق من يهرب من خدمته العسكرية، لكن الهرب في زمن السلم عقوبته أقل بكثير من الهرب في زمن الحرب.
الانشقاق الأكبر
في المقابل يرفض الضابط المنشق عن النظام السوري العميد فايز الأسمر الأرقام المتداولة عن نسبة الانشقاقات، مؤكداً أن نحو ثلث الجيش السوري انشق أو هرب لتكون من أعلى النسب بين جيوش العالم، معتبراً أن أي جيش يفرض عليه قتال شعبه سيواجه الانشقاقات.
ورأى أن عقيدة الجيوش في العالم هي حماية الدولة والشعب والسيادة، إلا أن بعض الأنظمة الديكتاتورية وعلى رأسها النظام السوري تحول عقيدة الجيوش نحو حماية الأنظمة وقتل الشعبـ، بخاصة في حالات المطالبة بالتغيير، مشدداً على أن نظام الأسد في سوريا حول المؤسسات الرسمية إلى شركات عائلية، وكذلك الجيش بات وكأنه حرس شخصي لآل الأسد.
الإعلام والمرتزقة
ويقارن الكاتب المتخصص في الشؤون الروسية خالد العزي بين أداء الجيشين الروسي والأوكراني، إذ يرى أن الجيش الروسي اعتمد بداية الحرب على المرتزقة، الأمر الذي أدى إلى فشل الاستراتيجية العسكرية الروسية، إذ شهدت جبهات القتال حالات فرار بالآلاف إضافة إلى الاستسلام الجماعي للمقاتلين، في مقابل الجيش الأوكراني الذي يقاتل بعقيدة وطنية ودفاعية.
ويشير إلى أنه على رغم التفوق الكبير لقدرات الجيش الروسي إلا أن الجيش الأوكراني يبدو أكثر فاعلية في الميدان، كاشفاً عن أن عدد القتلى من الجيش الروسي وقوات المرتزقة التي تقاتل معه يقارب الـ 50 ألفاً منذ بداية الحرب، وفي المقابل فحصيلة القتلى في الجيش الأوكراني لم تتجاوز 10 آلاف قتيل على رغم الحصيلة المرتفعة للقتلى المدنيين.
وشدد العزي على أن الجيش الروسي لا يكشف حصيلة القتلى، لا سيما الذين يقاتلون كمرتزقة، إنما يحصرها بالرتب العسكرية العالية خوفاً على معنويات المقاتلين وتزايد حالات الفرار ورفض الالتحاق في القتال، موضحاً أن الاستراتيجية التي اعتمدها الرئيس الأوكراني كانت دافعاً معنوياً كبيراً لجيشه لناحية وجوده الدائم على الجبهات، إضافة إلى أن إطلالاته الإعلامية شبه اليومية ساعدت في الشحن العقائدي والوطني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف أن الأوكرانيين ومن خلفهم الأوروبيين استطاعوا التفوق إعلامياً على الدعاية الروسية، الأمر الذي حول صورة الجيش الروسي في أذهان الرأي العام إلى أنه جيش احتلال ولا يحترم قواعد حقوق الإنسان، وهو أمر كانت له أيضاً تداعيات سلبية على معنويات الجيش الروسي وأسهم في هرب عدد كبير من عناصره، كون هذه الدعاية اخترقت الرأي العام الروسي أيضاً وبات بعض الجنود يرفضون القتال في حرب غير محقة ولو لم يعلنوا ذلك.
إلا أن الصورة على الجبهة الروسية مختلفة تماماً، إذ يركز الإعلام والمسؤولون الروس على أن هذه الحرب هي في مواجهة حلف الـ "ناتو" الذي يسعى إلى محاصرة روسيا وتفتيتها، إذ يقر الروس بتفوق الـ "بروباغندا" الغربية، لكن محللين وإعلاميين روس ينفون الدعاية التي يسوقها الغرب عن إجرام الجيش الروسي وانتهاكه قواعد حقوق الإنسان، مؤكدين أن كل ما يظهر في الإعلام الغربي يتناقض تماماً مع الواقع الميداني، بما في ذلك الدعاية السلبية المتعلقة بفرار العناصر من القتال، مشددين على أن هناك آلاف الأوكرانيين يقاتلون إلى جانب القوات الروسية، وأن حالات الفرار والاستسلام هي من جانب القوات الأوكرانية.
العدو الاستراتيجي
وفي السياق تقول الصحافية الاستقصائية راشيل نوير في دراسة لها إن هناك ربطاً بين الأنظمة الديكتاتورية وبين القمع وانتهاك حقوق الإنسان والفقر والاضطرابات، إذ تسببت تلك الأنظمة في موت أعداد لا تحصى من البشر، بما في ذلك 49 مليون روسي لقوا مصرعهم إبان عهد جوزيف ستالين، وما يقرب من 3 ملايين كمبودي لقوا حتفهم في عهد بول بوت.
وتشير إلى أنه في الأنظمة الديمقراطية يقرر الرأي العام عبر الانتخابات من يتولى الحكم، إلا أنه في الأنظمة الديكتاتورية يتراوح عدد الأشخاص الذين يمكنهم أن يقرروا حقاً من يبقى في السلطة من 10 إلى بضع مئات، عبر وجود درجات متفاوتة من ممارسات إرهاب الدولة في الأنظمة الاستبدادية، لا سيما أن مهمة الجيوش في هذه الدول حماية الأنظمة وليس الشعب.
ومن هذه المقاربة ينطلق المحلل الاستراتيجي ناجي ملاعب للإشارة إلى أن الأنظمة الديكتاتورية تحاول الانشغال بالحروب الخارجية وابتداع عدو ولو لم يكن موجوداً من أجل الحفاظ على تماسك جيشها، ويستشهد بالنموذج الإيراني الذي يتخذ من إسرائيل وأميركا (الشيطان الأكبر وفق تسميتهم) عدواً استراتيجياً ويحارب للسيطرة على بعض الدول العربية عبر عقيدة مذهبية متطرفة، وفي الوقت نفسه يستطيع الانقضاض على أية محاولة اعتراض داخلية عبر ربطها بالتعامل مع العدو الاستراتيجي.
وأوضح أن قضية العدو الاستراتيجي تنطبق أيضاً على أنظمة ديكتاتورية أخرى مثل كوريا الشمالية التي تضع نفسها رأس حربة في مواجهة الولايات المتحدة، وتشحن تحت هذا الشعار جيشها وشعبها وكأنها في حال حرب لا تنتهي.
وأشار إلى أن هذه الدول لا تستطيع التوصل إلى سلام مع دول أخرى لأن ذلك سيضرب الشحن المزعوم طوال عقود من الزمن، وسيؤدي إلى تشققات داخلية وانهيارات للإمبراطوريات العسكرية التي بنيت على أسس عقائدية عدائية.