فيما يقود الدولار الأميركي حرب العملات التي تشهدها سوق الصرف العالمية في الوقت الحالي، يبدو أن الاسترليني سيكون على موعد مع خسائر جديدة مع استمرار موجة النزيف أمام الورقة الأميركية الخضراء. فقد واصل الجنيه الاسترليني هبوطه إلى أدنى مستوى على الإطلاق، مع تحرك مستثمرين حول العالم رداً على خطط رئيسة الوزراء ووزير المالية الجديدين في بريطانيا لخفض الضرائب وزيادة الإنفاق للتخفيف من وطأة أسعار الطاقة المتزايدة.
وتراجع الجنيه الاسترليني إلى مستوى 1.0327 دولار في أحد أوقات التعاملات. وبلغ انخفاض العملة نحو ثمانية في المئة تقريباً منذ الخميس قبل الماضي، وأكثر من 21 في المئة منذ بداية العام، في وتيرة تماثل أزمات العملة في تاريخ بريطانيا بعد الحرب ويمكن مقارنتها بها.
وغالباً ما تضمنت نوبات الذعر تلك محاولات الإبقاء على الجنيه الاسترليني بسعر ثابت مقابل العملات الأخرى، وهو ما لم يعد يمثل مشكلة بالنسبة للجنيه الاسترليني في وضع التعويم الحر. ومع ذلك، فإن القيم الهائلة للاحتياطات المبددة والضربات التي لحقت بالسمعة الوطنية كان لها دائماً الآثار الفادحة على الحكومات في تلك الأوقات.
محطات مهمة في تاريخ الاسترليني
ومنذ الحرب العالمية الثانية كانت هناك محطات مهمة في تاريخ العملة البريطانية. وخلال الأزمة التي صاحبت تصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2016، تراجع الجنيه الاسترليني بنسبة ثمانية في المئة بعد يوم من تصويت الناخبين البريطانيين بالموافقة على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
وكانت العملة تتراجع بالفعل منذ نحو عام لتصل إلى 1.145 دولار في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2016، وهو ما شكل انخفاضاً بنسبة 28 في المئة من الذروة إلى أدنى مستوى.
وفي نقطة تحول لعضويتها في الاتحاد الأوروبي خرجت بريطانيا في سبتمبر (أيلول) 1992 من آلية سعر الصرف، وهو نظام كان يهدف إلى تقليل تقلبات العملة قبل إطلاق العملة الأوروبية الموحدة (اليورو). وأدى ذلك إلى انخفاض حاد في قيمة الجنيه الاسترليني، وعلى الرغم من ازدهار الاقتصاد في نهاية المطاف، فإن ذلك أضر بسمعة حزب المحافظين فيما يتعلق بإدارة الاقتصاد حتى وصل الأمر إلى هزيمة ساحقة لرئيس الوزراء جون ميجور في انتخابات عام 1997.
وفي محاولة لدعم الجنيه الاسترليني، رفعت الحكومة أسعار الفائدة إلى 15 في المئة، وباع بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) ما قيمته 40 مليار دولار من الاحتياطات في الأشهر التي سبقت الأربعاء الأسود. كما استخدمت بريطانيا أيضاً بعض تدابير المحاسبة المبتكرة لإخفاء حجم خسائر احتياطاتها من النقد الأجنبي، من بينها "دفتر آجل سلبي سري" بقيمة 12.5 مليار جنيه استرليني. وفي عام 1997 قالت وزارة الخزانة إن التكلفة النهائية للأزمة تجاوزت ثلاثة مليارات جنيه استرليني.
مستوى استثنائي للدولار في 1985
بدأ الجنيه الاسترليني في ثمانينيات القرن الـ 20 بقيمة 2.30 دولار، لكنه وصل في أوائل عام 1985 إلى مستوى قياسي منخفض عند 1.05 دولار مع تزايد قيمة العملة الأميركية بسبب اختلالات تجارية عالمية. وصار تكافؤ الجنيه الاسترليني مع الدولار الذي لم يكن متصوراً من قبل احتمالاً حقيقياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من رفع الحكومة البريطانية لأسعار الفائدة لمنع مزيد من الانزلاق جاء بعض تراجعات الجنيه الاسترليني لأسباب تتعلق بالعملة البريطانية ذاتها. وجاءت إحاطة من متحدث إعلامي باسم رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر لوسائل الإعلام في يناير (كانون الثاني) 1985 بهدف طمأنة الأسواق المالية بنتائج عكسية بالغة.
واشتكى أحد الوزراء، وفقاً لمحضر جلسة لمجلس الوزراء نشر بعد ذلك بسنوات، من أن "الأمور لم تتحسن بسبب الرد الصحافي الذي اختلط عليه الأمر بين أن الحكومة ليس لديها هدف محدد للجنيه وبين الغموض التام في شأن مستواه". وفي نهاية المطاف ارتفع الجنيه الاسترليني مقابل الدولار بعد أن أبرمت الدول الصناعية الخمس الرائدة في العالم في ذلك الوقت اتفاق "بلازا" الذي اتفقوا فيه على أن قيمة الدولار الأميركي مبالغ فيها وعلى اتخاذ إجراءات لتقليلها.
أزمة صندوق النقد الدولي في 1976
بحلول منتصف السبعينيات، كان الاقتصاد البريطاني في حالة يرثى لها. وأدت محاولات لإنعاشه في أوائل ذلك العقد إلى انهيار حاد بعد ذلك بسنوات قليلة، وتفاقم ذلك بسبب أزمة في النفط.
وتجاوز معدل التضخم مستوى 25 في المئة خلال عام 1975، وشهد الجنيه الاسترليني حديث التعويم حالة من السقوط الحر، ووصل في النهاية إلى أدنى مستوى قياسي له في ذلك الوقت عند 1.58 دولار في أكتوبر 1976.
وأشارت سلسلة من التوقعات القاتمة المتعلقة بالاقتراض الحكومي إلى أن بريطانيا ربما لم تعد قادرة على تحمل نفقاتها، مما أجبر وزير المالية في ذلك الوقت دينيس هيلي على طلب المساعدة الخارجية من صندوق النقد الدولي في ضربة لهيبة بريطانيا كقوة اقتصادية كبرى.
وبلغت قيمة القرض 3.9 مليار دولار، وكان أكبر قرض يتم الحصول عليه من صندوق النقد الدولي على الإطلاق وقتها، وجاء مقابل تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام. وتندم هيلي بعد ذلك بعد أن تبين أن وضع الاقتراض الحكومي جاء أفضل بكثير من المتوقع، مما أثار تساؤلات عما إذا كان القرض، الذي تم سداده مبكراً عن موعده، ضرورياً حقاً.
خفض القيمة في 1967
في الوقت نفسه، سعت حكومات متعاقبة من حزبي المحافظين والعمال جاهدة لاحتواء الإنفاق في الستينيات، مما زاد الضغط على الجنيه الاسترليني الذي تم تثبيته عند 2.80 دولار.
وبحلول عام 1967 أصبح الضغط لا يقاوم، لكن الخلاف داخل الحكومة ومع بنك إنجلترا، الذي كان يعارض خفض قيمة الجنيه الاسترليني كوسيلة سهلة للخروج من مشكلات بريطانيا، تسبب في إدارة سيئة لعملية خفض قيمة العملة.
وعلم مستثمرون أن الخطة أخفقت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 عندما اختار وزير المالية في ذلك الوقت جيمس كالاهان ألا يؤكد أو ينفي للبرلمان ما إذا كانت هناك محادثات جارية حول خفض قيمة العملة أو الحصول على قرض طارئ.
ولم يكن لدى "بنك إنجلترا" أي خيار سوى حرق الاحتياطات ليوم واحد حتى أعلن رئيس الوزراء العمالي هارولد ويلسون الذي كان يعتبر الجنيه رمزاً للوضع الوطني، رسمياً خفض قيمة العملة إلى 2.40 دولار. ولاقى السخرية عندما قال للشعب إن الجنيه الاسترليني "هنا في بريطانيا في جيوبكم"، لن تقل قيمته بعد الخفض.