لماذا يتراجع الجنيه الاسترليني؟ لقد شهد أسوأ أداء له في مقابل الدولار بين العملات الرئيسة في العالم. إنه نبأ سيئ في شكل خاص، لأن عديداً من السلع (وأبرزها النفط) تتداول بالدولار الأميركي. عموماً، حينما تكون الأوضاع متقلبة، يميل المستثمرون إلى الفرار إلى عملات وأصول أكثر أماناً، ويشكل الدولار حكماً "ملاذاً آمناً".
وإن السبب الكامن وراء ذلك قابل للأخذ والرد، لكن اللجوء إلى الدولار عادة يظهر أن المستثمرين لا يرغبون في التخلي عنه، بالتالي جاء أداء الجنيه سيئاً في شكل خاص في مقابل العملة الأميركية، لكنه ضعيف أيضاً في مقابل اليورو، وسلة العملات "المعيارية تجارياً"، وبالقيمة الحقيقية (المعدلة تبعاً لمعدل التضخم)، فضلاً عن القيمة الاسمية. وهذا يعني أن ثمة أمراً غريباً يجري في شأن المملكة المتحدة.
ليس من قبيل المصادفة أن تشهد عملة ضعيفة بالفعل مزيداً من الهبوط بعد وقت قصير من استيعاب الأسواق خطاب وزير المالية البريطاني كواسي كوارتنغ الذي رسم الخطوط العريضة للميزانية المصغرة الجمعة الماضي. وينص الإجماع الواسع النطاق على أن الحزمة الجذرية من التخفيضات الضريبية ستغذي معدل التضخم، وفق توقع كثيرين. لذلك، إذا اشترى المرء جنيهات، أو وضع استثماراته في أصول مقومة بالاسترليني كالأسهم أو العقارات، فستكون قيمتها أقل في المستقبل، لأن معدل التضخم سيؤدي إلى تآكل قوتها الشرائية.
ويبدو أن إطلاع كوارتنغ الصحف في نهاية الأسبوع على اقتراب فرض مزيد من التخفيضات الضريبية غير الممولة شكل سبباً في إقناع المستثمرين الدوليين بأن شخصاً طبيعته غير مألوفة [غامض]، يتولى المسؤولية عن الاقتصاد البريطاني. ومع عجرفته وتهوره، على ما يبدو، فقد بات المستثمرون غير مقتنعين أيضاً بأنه سيغير مساره. ويحكمون عليه أيضاً بأنه سيزيد الأمور سوءاً. إنها مشكلته، في ما يتصل بهم.
وفي مقابل ذلك، لدينا "بنك إنجلترا" العجوز المسكين الذي يرفع معدلات الفائدة، وهذا من شأنه أن يساعد في دعم العملة من خلال منح المستثمرين عائداً أفضل على أصولهم البريطانية، لكن يبدو أن الشعور السائد الآن يتلخص في أن المصرف لا يرفع المعدلات بسرعة كافية أو بنسبة كافية حتى الآن لتعزيز هذه العوائد، أو فضلاً عن ذلك، لإقناع المستثمرين بأنه [بنك إنجلترا] غير عازم بالقدر الكافي على التخلص من التضخم.
يعتقد المستثمرون بأن خطة كوارتنغ في خفض الضرائب تتسم بالجرأة إلى حد يجعل المصرف [بنك إنجلترا] يواجه صعوبة كبيرة في مواكبة كمية الأموال التي تصب في اقتصاد يعمل بكامل طاقته في ظل نقص في العمالة، وهذا سيولد ببساطة مزيداً من التضخم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تشكل صدقية أي مصرف مركزي في حماية القوة الشرائية لعملة بلد ما، أهمية بالغة لغرس الثقة في المستثمرين في الخارج (بل في الداخل). والفوز بالصدقية صعب وخسارتها سهلة. ومن بين الأخطاء غير المبررة المتعددة التي ارتكبتها الحكومة أثناء الأسابيع الأخيرة، تأتي تلك التلميحات الثقيلة التي صدرت عن ليز تراس وكواسي كوارتنغ ومفادها بأنهما كانا يفضلان لو أن المصرف يبدي تعاطفاً أكبر مع أجندتهما الخاصة بالنمو وقلقاً أقل في شأن الأسعار.
لقد دارت أحاديث عن تغيير صلاحيات ذلك المصرف. واقترح كوارتنغ أنه سيجتمع بمحافظ "بنك إنجلترا"، أندرو بايلي، أسبوعياً لـ"مناقشة" السياسة النقدية، ويبدو كلامه أقرب كثيراً إلى تلطيف لرغبته في الضغط الشديد على بايلي كي يبقي المعدلات أدنى مما يجب أن تكون عليه، حتى تؤتي خطة النمو ثمارها الشهية، بالتالي تكون صدقية ربع قرن بنيت على الاستقلال التشغيلي لـ"بنك إنجلترا" قد رميت بعيداً في شكل عرضي.
وفي تطور أثار القدر نفسه من القلق لدى من يشاهدون طريقة إدارة البريطانيين اقتصادهم، أقيل الأمين العام الدائم لوزارة المالية، السير توم سكولار، من دون سابق إنذار. لقد فصل سكولار تقريباً فور جلوس كوارتنغ إلى مكتب وزير المالية، ولم تعترض رئيسة الوزراء على ذلك، بحسب علمنا. وبدا الأمر أشبه بمحاولة سكولار أن يناقش بالمنطق مع كوارتنغ خطته للنمو، ولم يكن لدى الوزير أي خطة.
كذلك صدرت عن كوارتنغ وتراس تعليقات انتقصت من "استقامة وزارة المال" معتبرة أنها تعوق النمو، لكن وزارة المالية كانت في كثير من الأحيان تعكس مشاعر السوق فحسب، بل إن الأسواق تحب وزارات المالية التي تولي اهتماماً للأخطار التضخمية. كذلك قدرت الأسواق "مكتب مسؤولية الميزانية" باعتباره جهة تحليل مستقلة، وكان كوارتنغ أحمق عندما استغنى عن خدمات المكتب في "المناسبة المالية" الخاصة به.
تبدو تراس وكوارتنغ إلى حد كبير جداً كأنهما يمارسان مقامرة سياسية محضة. وكذلك يرى مستشاروهما الخصوصيين أنها مقامرة غير حكيمة. ولا يتوانى بوني وكلايد [لصان أميركيان نشطا خلال فترة "الركود الكبير" في ثلاثينيات القرن العشرين. والتشبيه هو المعنى المقصود بالعبارة] البريطانيان عن مواصلة فورتهما.
استكمالاً، إن المكابح المؤسساتية في وضع إيقاف التشغيل. لذلك، ينبغي لنا أن نكون شاكرين لأن الأسواق تبدو الآن في حالة من الاضطراب لا يستطيع حتى كوارتنغ وتراس أن يتجاهلاها. أو في الأقل، يؤمل بذلك.
وراء هذا كله، يكمن بريكست، بطبيعة الحال، وانزلاق الاسترليني الجاري، بتقطع، منذ استفتاء عام 2016. بالنسبة إلى بلاد تجارية عظيمة تعتمد سبل عيشها على شراء البضائع والخدمات من الأسواق الخارجية وبيعها فيها، لطالما شكل بريكست أنباء سيئة.
إذا لم تعوض عن الحواجز الإضافية القائمة حالياً بيننا وبين أكبر أسواقنا [بمعنى أن بريكست فرض تلك الحواجز بين اقتصاد بريطانيا والسوق الأوروبية المشتركة] عبر بعض الاتفاقات التجارية الطموحة مع أسواق أخرى كبيرة و/ أو سريعة النمو، فسيكون من المحتم خفض قيمة العملة من أجل الحفاظ على تنافسية الصادرات، إلى جانب فرض نظام صارم على الاقتصاد المحلي بغية منع التضخم المستورد من رفع الأجور المطلوبة (والتكاليف) صعوداً.
نعلم الآن أن الاتفاقات التجارية مع الولايات المتحدة والصين بعيدة المنال تماماً. أما بالنسبة إلى الاتفاق مع الهند، المقرر إبرامه قريباً، فيمكن القول إن الاتفاقات الأصغر حجماً لا تكفي للتعويض عن الخروج من السوق الموحدة، التي تشكل مصدراً سهلاً للعمالة وسلاسل الإمداد السلسة.
وحتى إذا أصبحت البضائع والخدمات البريطانية أكثر تنافسية، فالبلاد في وضع ضعيف لا يسمح لها بالاستفادة من الميزة المحتملة بسبب الافتقار إلى الموارد (العمالة في الأساس) والقدرة المتدنية على الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. ولن تغير خطة النمو أي شيء من هذا.
في النهاية، إنها مسألة ثقة. ولا يتأثر المستثمرون الدوليون بسهولة بهذا النوع من الخطاب الحماسي الذي يبهج النواب المحافظين، وقد ثبت ذلك، فقد شهد المستثمرون عدداً من "خطط النمو" الزائفة تأتي وتذهب، وهم أيضاً لا يعتقدون أن خطة كوارتنغ ستنجح. إنهم ينظرون إليها بفتور إلى حد ما، فتبدو مثلما هي عليه الآن، أي إنها طفرة تسبق انتخابات، أو في أفضل تقدير اندفاعاً مشؤوماً ويائساً باتجاه النمو.
وبالتالي، فإما أن تبطل تلك الخطة [التي أعلنها كوارتنغ]، أو يتصرف "بنك إنجلترا" بجدية، أو يستمر الجنيه في الانحدار إلى أن يصل إلى المستوى الذي يجعل الاقتصاد أخيراً يجري بعض التعديلات المؤلمة، مما سيعني وجود ضغوط تتأتى من انخفاض قيمة العملة وتفرض على الأجور ومستويات المعيشة. يجب حصول تنازل ما.
قد تسوء الأمور في الأسواق، لأنها لا تستطيع أن ترى المستقبل، على رغم كل الخوارزميات [التي تستعمل في الكمبيوتر والنماذج الرقمية] وأدوات التوقع المتوفرة. في المقابل، لا يمكن للحكومة مجادلة الأسواق أو التوسل إليها (أو خداعها) على غرار ما تفعل مع الناخبين، وربما حتى الصحافيين.
في الأسواق المالية العالمية، حصل تصويت مبكر على حجب الثقة عن تراس وحكومتها، لكنها خسرت التصويت. ولن يتمكن المسؤولون عن الانضباط الحزبي أو الصحافة الداعمة للحكومة في شكل أعمى، من قلب واقع تلك الخسارة.
نشر في "اندبندنت" بتاريخ 27 سبتمبر (أيلول) 2022
© The Independent