ليس أغرب من مطاردة الأمن الإيراني السينمائيين المعارضين لنظام الحكم في البلاد سوى المسؤولين الرسميين أنفسهم، الذين يحتفون دوماً بالإنجازات العالمية التي تحققها أفلام المخرجين المقموعين، الذين يذوقون مرارة السجن والإقامة الجبرية والتهديد والمنع من السفر والنفي طوعاً أو اضطراراً.
إنه تناقض صارخ في أبسط توصيف، لكن بالنظر والتعمق في الحال الإيرانية فإن هناك تعايشاً ما بين المتناقضات وقفزاً على الحواجز دوماً تعلمه المثقفون والمبدعون، وفي بعض الأوقات يتواطأ معه السياسيون من أجل المصلحة بطبيعة الحال.
وفي وقت يشتعل الشارع الإيراني بتظاهرات تتقدمها النساء اللاتي خلعن حجابهن وقصصن شعورهن احتجاجاً على وفاة الفتاة الشابة مهسا أميني تعذيباً على يد "شرطة الأخلاق" بحجة أن حجابها ليس مطابقاً للمواصفات، يعود الجميع ليتذكر وضع هاتيك السيدات في الشريط السينمائي الإيراني، وكيف حاولن أن يجدن لأنفسهن موطئ قدم كمخرجات وأيضاً كبطلات يجبرن على ارتداء الحجاب حتى في وجود محارمهن تنفيذاً لتعليمات المرشد الأعلى.
وحتى لو خالف ذلك الواقعية والمنطق فإن البطلات يمتثلن، لكن من قال إن تلك أمور باتت تشكل أي عائق أمام صناعة المجد في سينما الدولة، التي يعيش على أرضها الشاسعة في غرب آسيا ما يقرب من 90 مليون مواطن، كل منهم يتدبر معيشته على طريقته من دون التوقف كثيراً أمام قائمة المحرمات والممنوعات التي تمليها عليه الدولة.
سماء واحدة وتناقضات
في فبراير (شباط) عام 2017 كان المخرج الإيراني أصغر فرهادي على موعد مع جائزة أوسكار الثانية له عن فيلمه "البائع" بعد سنوات من حصوله على الأولى بفيلمه "انفصال تادر وياسمين"، لكن أوسكار أفضل فيلم أجنبي في المرة الجديدة لم تكن مغرية بما يكفي لتجعل صاحبها يهم بالحضور، فقد اختار فرهادي تسجيل اعتراضه على قوانين السفر التي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على بعض الدول وعلى رأسها إيران.
اللافت أن وزير الخارجية الإيراني وقتها جواد ظريف عبر عن إعجابه بموقف فرهادي، وهنأه على الفوز، مفتخراً بالإنجاز ومستغلاً الفرصة لانتقاد الإدارة الأميركية بالطبع، إذ قال "أنا فخور بطاقم فيلم (البائع) لنيلهم الأوسكار، وموقفهم ضد حظر المسلمين".
في تلك الفترة كان المخرج الإيراني كيوان كريمي يقضي حكماً بالسجن بتهمة "إهانة المقدسات" عقاباً على فيلمه الوثائقي "الكتابة على المدينة"، لكن هذا التناقض ليس غريباً ففي عام 2016 حظي المخرج الراحل عباس كيارستمي بنعي رسمي من رأس الدولة حسن روحاني، وهو المخرج الحائز على سعفة "كان" عام 1997 عن "طعم الكرز"، الذي طالما خاض نضالات لخروج أفلامه المهمة للنور نظراً إلى الرقابة القاسية في بلاده، بل إنه تعرض للضرب المبرح في المطار بعد عودته من المهرجان الذي احتفى به.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وصف روحاني أعمال صاحب "كلوز أب" و"مثل شخص واقع في الحب" و"أين يقع منزل صديقي"، في تغريدة له بـ"الخالدة" قائلاً "نظرة كيارستمي المختلفة والعميقة إلى الحياة ودعوته إلى السلام والصداقة شكلت منجزات خالدة".
في المقابل كان جعفر بناهي صاحب "تاكسي طهران" و"3 وجوه" و"الدائرة" و"حالة تسلل" في تلك المرحلة ينجز أفلامه في بلاده سراً ويهربها لتعرض في الخارج، بينما هو قيد الإقامة الجبرية بتهمة الدعاية ضد النظام السياسي الإيراني إثر معارضته حكم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد عام 2010، واللافت أنه تم توقيف بناهي قبل شهرين أيضاً مع عدد من زملائه المخرجين بتهمة الإخلال بالنظام العام، وهؤلاء المخرجون حصدوا جوائز كبرى في أبرز المحافل السينمائية مثل "أوسكار" ومهرجانات "برلين" و"البندقية" و"كان" وغيرها، وبنوا الموجة السينمائية الإيرانية الأكثر رسوخاً في ظروف شديدة القسوة.
نضالات وتقلبات
قبلهم كان محسن مخملباف الذي حارب نظام الشاه بضراوة، على رغم انخراطه ودعايته لرموز الثورة فإنه سرعان ما انقلب عليهم واختار النفي الطوعي خارج بلاده، على رغم الانفتاح الذي شهدته دور السينما في عصر الشاه حيث كانت تعرض أفلام عالمية عادية، وفي ما بعد حاول الصناع المحليون محاكاة تلك الأعمال لتظهر البطلات منفتحات، كما كانت هناك موجة من الأفلام التجارية التي صورت حياة الملاهي الليلية في فترتي الأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات، لكن أيضاً كانت الرقابة على أشدها في ما يتعلق بانتقادات النظام الحاكم.
وخلال الستينيات نفسها بدأ المخرجون محاولة الاقتراب أكثر من حياة رجل الشارع، وحينها ذاع صيت أفلام تصور المواطنين العاديين، مثل "البقرة" لداريوش مهرجوئي، وأيضاً وثائقي "البيت الأسود"، ولكن مع ذلك لم تلفت السينما كموجة ذات ملامح في تلك البقعة من العالم الأنظار كثيراً، فإيران التي عرفت السينما منذ السنوات الأولى للقرن العشرين، اكتسبت أفلامها قيمتها، ويا للمفارقة، مع قبضة حكم الولي الفقيه.
القبعة والشعر المستعار
في فترة الحماسة الأولى للثورة قام رجال الحركة بحرق ما يجدونه في طريقهم من دور سينما باعتبارها في رأيهم رمزاً للفساد في البلاد، لذا كان من الطبيعي أن تشهد الحياة السينمائية هناك تخبطاً وهجوماً شرساً ضد دور العرض ودعوات متوالية للتطهير، وهنا حاول المخرجون التحايل لبعض الوقت بإسناد أدوار النساء إلى ممثلين رجال، أو اختيارهم قصصاً تجعلهم يظهرون الممثلات حليقات الرأس للتحايل على فكرة الإجبار على الظهور بالحجاب حتى لو كانت المرأة تقدم مشهداً بمفردها في غرفة مغلقة، ثم اللجوء إلى حيلة الشعر المستعار كبديل لشعر الممثلة الحقيقي، وفي بعض الأوقات أيضاً ارتداء القبعة.
لكن مع انتهاء مرحلة الصدمة ومحاولة صناع السينما التعايش عرفوا كيف يتخطون تلك المعضلات، فهم في النهاية يتحدثون عن واقع اجتماعي متحفظ ووضع سياسي متأزم، والمحظورات الكبرى في هذا العالم تتعلق بعدم انتقاد نظام الحكم وأيضاً غياب المشاهد الحميمية، كما يجب أن تظهر النساء محتشمات بالكامل، بالتالي فالأجواء القاتمة أمر طبيعي، ومن هنا بدأ الاهتمام بقصص إنسانية في غاية البساطة والعمق والثراء أيضاً، حيث هموم المواطن العادي، والمعاناة اليومية مع أكثر أمور الحياة يسراً.
لجأ السينمائيون الذين هم في غالب الأوقات يكتبون نصوصهم أيضاً إلى حيل معتادة مارسوها بذكاء ومن دون افتعال، كأن يتم قطع المشهد حينما تذهب المرأة إلى غرفة النوم، أو حينما تقابل زوجها بعد غياب، أو يتم تمويه اللقطة، أو عدم اللجوء إلى مشهد عاطفي من الأساس والاستعاضة عنه بإشارات في الحوار، كما أن التخفف من الحجاب في بعض تلك المشاهد يبدو مقبولاً في أوقات كثيرة، ولا يستفز الرقيب أولاً، بخاصة أن مظهر الإيرانيات اللاتي يرتدين الحجاب بتلك الطريقة شائع في بعض المناطق هناك، ومع ذلك تمكن رواد السينما الإيرانية ببراعة من التعبير عن أفكار أبطالهم والإشارة إلى الأزمات المجتمعية التي ربما تشترك معهم فيها ثقافات أخرى، كوصم المرأة التي تتعرض لاعتداء، حيث إن بطلة "البائع" تختار هي وزوجها عدم إبلاغ الشرطة على رغم أن هوية المتهم معروفة والبطلين على قدر من الوعي والثقافة بل ويعملان في مجال التمثيل.
ولعل أفضل تعبير عن طريقة التعامل التي يلجأ إليها القائمون على العمل السينمائي في تلك البلاد ما طرحه الراحل عباس كيارستمي في معرض حديثه عن القيود المفروضة عليه أثناء إنجاز أفلامه، حين قال إنه "يحاول عادة أن يختار قصصاً لا تحتم عليه أن يظهر الزوج والزوجة في منزلهما بمفردهما، لأنه وقتها لن يتمكن من تقديم مشهد واقعي".
قوائم سوداء
المؤكد أن التيار الذي يحظى بالاحتفاء الدولي في السينما الإيرانية ليس هو كل السينما الإيرانية بل محاولات تصعد للسطح فيما البلاد تمتلئ بإنتاجات عادية، لكن الأعمال المستقلة التي يتم الاحتفاء بها عالمياً أكثر تأثيراً بالطبع، وهو أمر يسهم في معادلة حضور إيران وأهلها بقوة في أفلام ومسلسلات هوليوود باعتبار نظامها وسكانها شياطين حقيقيين، ولعل أبرز الأمثلة هنا فيلم "آرغو" الذي مثله وأخرجه بن أفليك عام 2012 وحصد به أبرز الجوائز مثل "أوسكار" و"بافتا" و"غولدن غلوب"، إذ استعرض أزمة الرهائن الأميركيين إبان ثورة آية الله الخميني.
وبالنظر إلى حال هذا البلد يبدو ازدهار السينما به استثناء عصياً على الفهم من الوهلة الأولى، فمثلاً مع وصول إبراهيم رئيسي لسدة الحكم أمعن في إعلان عداوته لهذا الفن، وأخيراً أصدر قائمة رسمية طويلة تضم أسماء الفنانين الممنوعين من العمل بالسينما، ولم يتوقف عن اعتقالات المخرجين المعروفين ومن يشقون طريقهم كذلك، وهي أجواء طالما تكررت بشكل أو بآخر مع حكام سابقين، فالاستنتاج السهل أن هذا الفن كان مقدراً له أن يضمحل تماماً إذ كيف سيتنفس في ظل تلك الأجواء الخانقة، لكن ما حدث كان لافتاً للاهتمام، إذ وظف المبدعون قدراتهم في التعامل بحساسية ومكر مع قيود الرقابة، وصنعوا أعمالاً قوامها الإنسان المقهور والمغلوب على أمره والحالم بمستقبل أفضل، والذي يناضل في حدود المساحة الممنوحة له، على رغم أنهم مجبرون على ذلك إذا ما أرادوا الاستمرار في إنتاج قصص عن هذا المجتمع، لكنهم أيضاً أثبتوا جدارة اعترفت بها كبرى مؤسسات الفن السابع في العالم، معتمدين على الحكي بأقل الإمكانات المادية وبلا إبهار أو أسماء نجوم لامعة وبأقل عدد ممكن من طاقم التمثيل، مع اعتماد كبير على الأطفال.
ومثلما تمر إيران بعواصف سياسية مثل التي تجتاحها الآن، فإن السينما كذلك شهدت فترات كانت تتنفس فيها بالكاد مثلما حدث إبان حكم الرئيس محمد خاتمي الذي حكم البلاد منذ عام 1997 وحتى 2005، وفترات أخرى هي الغالبة كانت فيها تئن لأن أبسط الأمور يمكن أن تضع صاحب العمل قيد المحاكمة، على رغم ذلك نجحت الفنانات الإيرانيات ممثلات ومخرجات في لفت الأنظار إليهن، واعترفت المهرجانات العالمية بإنجازاتهن ومواهبهن، وبينهن سميرة مخملباف وشيرين نشأت ومنيجة حكمت.