تحفل رواية "الغرق" الصادرة حديثاً عن دار العين في القاهرة، للكاتب السوداني حمور زيادة، بالمآسي، ويبدو ذلك مِن العنوان الفرعي "حكايات القهر والونس". وفي المفتتح وهو عبارة عن نص شعري ترجمته ضي رحمي لإيجوما أومبيينيوما: "لم أكن أعرف أن عظام النساء كان مقدراً لها أن تكون متحفاً للمآسي كما لو أننا كُتب علينا أن نحمل البحر من دون أن نغرق". الغرق يتسع مدلوله ليشمل مجتمعاً بأسره. وتظهر الرؤية المأسوية في أحداث عدة، فعلى المستوى السياسي، نجد الحديث عن الانقلاب العسكري الذي يكتسي طابعاً خانقاً، ويمارس أبشع أساليب القمع ضد معارضيه. ترصد الرواية صدى ذلك في قرية نائية، يقول عمدتُها: "في الخرطوم لا تخف إلا من ثلاثة أشياء: الله والكهرباء والعسكر، نحن هنا في أمان إلى حين... نخاف الله والفيضان، والسوس في التمر". هذه الرؤية المأسوية الخاصة بالانقلابات العسكرية نجدها أيضاً في رواية حمور زيادة "شوق الدرويش"، الفائزة بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، وتتناول الحكم العسكري المختبئ في عباءة الدين في فترة الثورة المهدية.
الحب والفقد
في "الغرق"، تنبع المأساة من الحب والمرض والفقد. "بشير" يحب "سكينة"، حباً يستعصي على العيش في العلن. هو من بيت "الناير" وهي من بيت "البدري"، والبيتان على خصام دائم. "سكينة" تتزوج مِن ضابط في الجيش، لكنه ما يلبث أن يُقتَل في معركة ضد الطليان، فيذهب "بشير" في يوم العزاء ويطلب من "آل البدري" الزواج من "سكينة"، ما يذكرنا بما فعله بطل رواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" حين انتظر موت زوج حبيبته كي يتقدم للزواج منها في اليوم ذاته. وفي "الغرق"، تتم الموافقة على الزواج بعد شد وجذب، وبعد سنوات تموت "سكينة"، ليعيش "بشير" في عذاب فقدها. ثم تكتمل المأساة بإصابته بمرض السل، فيرى وهو يحتضر طيف "سكينة" التي بدت وكأنها تأخذ بيده إلى العالم الآخر ليعيشا هناك في سعادة أبدية.
وهناك مأساة "الإماء" مثل "فايت ندو" وابنتها "عبير"، فعلى الرغم من صدور قرار بتجريم الرِق، إلا أن الأمر لم يتغير في القرى ومنها قرية "حجر نارتي" التي تدور فيها أحداث الرواية، فبدلاً من قولهن "يا سيدي"، صرن يقلن "يا خالي". تغيير شكلي، فأجسادهن مباحة للجميع وأسيادهن يتحكمون فيهن، بل يصل الأمر إلى حرمانهن من أبنائهن. تحلم "فايت ندو" بتغير هذا الواقع، فتشجع ابنتها "عبير" لتحافظ على تفوقها في المدرسة، على أمل أن تلتحق يوماً بكلية الطب. لكن سيدتها تمنع "عبير" من إكمال دراستها، فتقع البنت في شراك الرجال، فحتى "خالها" (مالكها) يمارس الفاحشة معها، فتحمل منه، ثم تنهي مأساتها بالغرق في النيل، تاركة الحرقة تنهش قلب أمها. أما "أحمد شقرب" مساعد الطبيب، فهو شيوعي هرب إلى تلك القرية النائية خوفاً من بطش السلطة العسكرية الدينية، لكنه لم ينج على الرغم من ذلك، إذ يُعتقل ويُزجّ به في السجن. وهناك "محمد السعيد"، عمدة القرية الذي تخلى عن طموحه في إكمال دراسته في الجامعة وأن يصبح شاعراً محترفاً، انصياعاً لرغبة عائلته كي لا تضيع العمودية من بيت "الناير" وتذهب إلى بيت "البدري".
تبدأ الأحداث بجثة فتاة جرفها النيل إلى قرية "حجر نارتي". جثة لا يأبه لها أحد، فيوم الإعداد لدفنها كان أهل القرية يُعدون لفرح "عبد الحفيظ"، وهو أحد وجهائهم. جثة لم تجد من يبكي عليها، باستثناء "فاطمة" التي تنتظر على شاطئ النهر منذ 27 عاماً أن يُخرِجَ النيلُ جثة ابنتها.
هذه المآسي تومئ إلى غرق السودان ككل في القهر والظلم تحت حكم ديني عسكري. هذا العالم القاتم كان حاضراً أيضاً في "شوق الدرويش"، فجل شخصيات تلك الرواية كانوا يعانون من الاستبداد والعبودية، وبينهم الراهبة المصرية المسيحية "ثيودورا" التي ذهبت إلى السودان، فأجبرت على الختان، وقُتلت عندما حاولت الهرب. كان ذلك في ظل الثورة المهدية التي حكمت باسم الدين، دولة متعددة الإثنيات، فكان كل مخالف لها كافراً يستحق القتل.
تأريخ بالأحداث
ويلاحظ أن القرية السودانية "حجر نارتي" التي تدور فيها أحداث رواية "الغرق" لا تختلف كثيراً عن قرى جنوب مصر، خصوصاً في الألفاظ المستخدمة في التحية والتهنئة. مجتمع "نميمة" يعيش على حكايات الآخرين، لا مجال فيه لخصوصية فرد، كما أنه مترابط في الأفراح والأتراح، يؤرخون لمواليدهم لا باليوم وإنما بالأحداث الكبرى، يختلقون الحكايات والأساطير، يضيفون إليها ويحذفون منها. تديُنهُم شعبي، وطرقهم في علاج لدغات العقرب، شعبية أيضاً. يحتفون بالضيوف، ويقدرون القادمين من المدن، ويحتقرون مَن لا نسب لهم سواء من العبيد أو الغجر.
تكشف هذه الرواية عن أن المرأة عنصر فاعل في المجتمع السوداني، صاحبة سلطة وقرار، قوية، تسطر عنها الأساطير مثل "العافية"، الجدة الأسطورية لبيت "الناير"، وهناك "الرضية" المرأة المتسلطة صاحبة القرار والكلمة في بيت "شيخ الخط"، وتكاد تكون هي عمدة قرية "حجر نارتي".
ويتضح أيضاً من روايتَيْ حمور زيادة "شوق الدرويش" و"الغرق"، إضافة إلى الرؤية، أنه قريب من المذهب الرومانسي الإنساني لجهة تسليط الضوء على الفقراء والمهمشين، والروح الثائرة على الحكم العسكري حتى ولو تسربل بظاهر الدين.