إذا كان ينظر بعد كل شيء إلى نعمان عاشور بكونه الكاتب المسرحي الذي عرف كيف يخلق البعد الاجتماعي في ما سوف يعرف لاحقاً بـ"مسرح الستينيات" في مصر، وبخاصة بدءاً من مسرحيته "الناس اللي تحت" التي انطلقت من حماس مطلق للثورة المصرية لتنتهي في مسرحية لاحقة عليها هي "الناس اللي فوق"، إلى الخيبة المطلقة وكل ذلك خلال سنوات قليلة وبفعل أحداث وتراجعات سياسية كثيرة، فإن زميله الشاعر والكاتب عبدالرحمن الشرقاوي كان هو، وبعد بقليل، من نقل ذلك المسرح من بعده الاجتماعي – المسيس إلى ما سيعرف بالتاريخ المسيس. ولئن اشترك الاثنان كما حال كثر من كتاب تلك المرحلة في الإسقاط المباشر حيناً وغير المباشر أحياناً، فإن الشرقاوي سيخوض تلك المباشرة بأكثر مما فعل الجميع. وكان ذلك بالتحديد لأنه كان معروفاً أكثر من الجميع، ويشعر بأنه يتمتع بحماية تمكنه من عدم الوقوع في براثن الرقابة. فهو قبل أي شيء آخر واحد من أول شعراء التفعيلة المسيسين واشتهر بقصيدة "من أب مصري إلى الرئيس ترومان" التي إلى جانب إدخالها جديداً في لغة الشعر العربي المصري اعتبرت بياناً سياسياً عنيفاً في وطنيته، وسيقال إن ضباط الثورة قرأوها حين كانوا يعدون لحركتهم وأثرت فيهم، ثم إنه هو صاحب رواية "الأرض" التي اعتبرت من أقوى الصيحات في سبيل الأرض والفلاح في مصر، إلى درجة أن أحداً لم يبال حين انكشف أنها مقتبسة من رواية "فومنتمارا" للكاتب الإيطالي اغناتسيو سيلوني!
ضد حروب الآخرين
في اختصار كان الشرقاوي يحتمي بمكانته هذه في كتابته أولى مسرحياته "الغاضبة" يوم بدأ يلاحظ على الثورة انحرافات قاتلة وعلى السلطات المصرية تصرفات مدمرة، ولا سيما من خلال المشاركة في حروب الآخرين (الحرب التي تورط بها عبدالناصر في اليمن مثلاً). ومن هنا راح الشرقاوي يقول كلامه التحذيري ولكن بشطارة من يتقن لعبة "تنبيه السلطان الأعلى إلى أخطاء وخطايا مساعديه، مبرئاً إياه من جرائرها". والحقيقة أننا إذ نشير إلى هذا نبدو وكأننا نستبق الأمور لنستخلص رسالة واحدة من أشهر مسرحيات الشرقاوي، "الفتى مهران" التي كتبها عام 1965 قبل مسرحيته الشهيرة "مأساة جميلة"، لتقدم على خشبة المسرح القومي في القاهرة عند بدايات عام 1966 وتحقق على الفور نجاحاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً، ونجاحاً سياسياً أيضاً. وتحديداً بفضل البعد الذي أشرنا إليه قبل سطور. ولئن كان الناقد المناضل محمود أمين العالم قد اعتبر "الفتى مهران" عملاً كبيراً بخاصة من ناحية كونها "دراما شعرية" معتبراً إياها "انتصاراً حاسماً للدراما الشعرية ولحركة الشعر الجديد" في وقت كانت مواقف محمود عباس العقاد من هذا الشعر عدائية ولا تفتقر إلى غايات سياسية، فإن المسكوت عنه، ولكن ليس كثيراً في كلام العالم هو توافقه التام مع الشرقاوي سياسياً، فالاثنان كانا ابني توجه سياسي واحد لا يجد مغبة في الانفصال عن تاريخه السياسي ليحل حزبه القديم ويندمج في سياسات النظام بل حتى أحزابه، ولكن بشروط يوضحها الشرقاوي في سياق "الفتى مهران".
مثقف ثوري من الريف
فمن هو الفتى مهران؟ ولمَ استحق أن يكون بطلاً مسرحياً؟ ببساطة هو على رغم ريفيته مثقف ثوري يتولى قيادة مجموعات من الشبان تسمى "جمعيات الفتوة" ولكن في زمن المماليك الشراكسة. ومهران وشبانه المنتشرون في جبال ريفية لا يعادون السلطان بل ينظرون بعين الغضب والتمرد إلى ممارسات الحاكم المحلي الذي ينوب عن السلطان في إمارة الجيزة. ومن هنا فإن تحركهم إنما يستهدف في نهاية الأمر مساعدة السلطة العليا ليس فقط لتدارك ما يرون أنه أخطاء تقترفها أو تكاد تقترفها، بل للكشف عن ممارسات ذلك الحاكم الذي يحكم باسم السلطان لكن غايته الأساسية إنما هي خلع هذا الأخير. وإذ يحاول مهران فضح الأمور عبر الاتصال مباشرة بالسلطان، حين يرسل إليه شاباً من مساعديه، هو هاشم، لينبهه إلى أن حرب السند التي يستعد لخوضها لن تكون ذات فائدة حقيقية على البلاد والعباد، بل لن يستفيد منها سوى التجار، يدرك رجال الحاكم مرامه ويبدأون بالتحرك ضده تحركاً يختلط فيه الخاص والعام بشكل بديع من الناحية المسرحية. فلما كان لهاشم زوجة حسناء هي سلمى التي يعرفها مهران، سوف يزعم واحد من رجاله سيتبين أنه إنما يعمل في الحقيقة لمصلحة عدوه الحاكم، أن مهران لم يبعث هاشم إلى السلطان إلا كي يستفرد بسلمى. وعلى ذلك النحو تبدأ بوادر الفشل تنخر النضال الحقيقي والوطني الذي يخوضه مهران ورجاله. ولا سيما من داخل جماعة الفتوة إذ يحدث في صفوفهم انشقاق حول هذه القضية بالذات.
المجاعة ومخازن الحاكم
ومما يزيد الأمور تفاقماً –لتصل المسرحية إلى مزيد من الإمعان في لعبة الإسقاط السياسي للماضي على الحاضر– إنما هي المجاعة التي تنتج عن ممارسات الحاكم ورجاله. فلا يكون من مهران إلا أن يدفع الفتوة للتحرك للاستيلاء على مخازن الحبوب التي يسيطر عليها رجال الحاكم. أما هذا فينطلق ممعناً في ترتيب المؤامرات والدسائس وليس فقط على مستوى علاقته بمهران المعتبر بالنسبة إليه عدوه الرئيس والسد المنيع في وجه تطلعاته، بل الكاشف الآن مناوراته التي يتفاهم خلالها مع التتار كي يقوموا بغزو البلاد وتعيين الحاكم ملكاً عليها بدلاً من السلطان. وهنا إذ يتوجه مهران بنفسه إلى قصر السلطان بعد أن بدأ يخاف عزلته وتكاثر الدسائس وأن ينتهي الأمر برضوخ السلطان لما يحاك من حوله، يتواجه مع الحاكم الذي لخبثه وقوة حيلته ولإيمانه بأنه سيكون الرابح أخيراً، يطلب من مهران نفسه أن يضم قواته إلى جيوش البلاد ليقود المعارك ضد التتار. ولوطنيته ينتهي الأمر بمهران إلى قبول ذلك التعيين لكن الحاكم يبدأ بالمماطلة في مده بالإمكانات التي تمكنه من النجاح في مهمته. وفي قريته حيث شعبه وفتيانه يمضي مهران وقته في الانتظار الممض لأن يتمكن من قيادة الجيش والتتار قد باتوا على الأبواب. وهكذا يعود إلى عزلته الخانقة ووحدته فيما يكون الأعداء قد تمكنوا ودون مقاومة تقريباً، من احتلال البلد والوصول إلى قصر السلطان وقتله وتعيين الحاكم سلطاناً جديداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حياة للأدب ومعلمون كبار
والحقيقة أن في إمكان أي مهتم بتاريخ مصر المعاصر في ذلك الحين أن يبدل أسماء بأسماء ويقارن بين ما تروي المسرحية وما حدث في التاريخ الحقيقي المعاصر، ليجد نفسه أمام تسييس للمسرح كان من العسير على غير الشرقاوي أن يخوض فيه بتلك البساطة. ومع ذلك سوف يكون من الظلم للشرقاوي ومسرحيته ألا نرى فيه سوى البعد السياسي، حتى وإن كان من الصعب أن نرى في "الفتى مهران" تلك الملحمية التي تنسبها إلى مسرح برتولت بريخت. فإذا كانت مسرحية الشرقاوي هذه تحمل عناصر بريختية كالبطولة الجماهيرية والبطل المغدور والصراعات الاجتماعية تلوح من خلال الصراعات التاريخية، فإنها تكاد تكون في الوقت نفسه مسرحية بطولية تعتمد على البطل الفرد وترجح كفة الحدث الخاص الواصل أحياناً إلى حدود الميلودراما. وهي على أية حال عناصر تتكرر في كتابات عبدالرحمن الشرقاوي (1920 – 1987). ويعتبر الشرقاوي كاتباً متعدد الاهتمامات تتلمذ على أيدي مفكرين مصريين كبار تابع محاضرتهم كما تقول سيرته في كلية الآداب بأكثر مما تابع محاضرات كلية الحقوق التي ألحقه بها أبوه. وكان من بين أولئك المفكرين الذين أثروا في كاتبنا حقاً طه حسين وأحمد أمين ومصطفى عبدالرازق ومحمد شفيق غربال. ولقد ناضل في التيارات اليسارية قبل الثورة، كما أثار غضباً حين نشر روايته الكبيرة الأولى "الأرض" مسلسلة في عام 1953. وهو بعد بضع سنين من العمل الحكومي استقال ليتفرغ للكتابة وبخاصة للكتابة المسرحية كما أسهم في كتابة سيناريوهات سينمائية، وكان بين الحين والآخر يعود لكتابة الروايات ونشرها فتتحول رواياته إلى أفلام بعد النجاح الكبير الذي حققه يوسف شاهين حين أفلم رائعته "الأرض" (ولكن عن سيناريو كتبه حسن فؤاد).