ما إن فرغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من توقيعه على وثائق انضمام جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك ومعهما ما يجاورهما من أراض في مقاطعتي زابوريجيا وخيرسون في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي حتى تقافزت على الشفاه تساؤلات كثيرة حول الحدود التي تنضم بها هذه الأراضي إلى روسيا الاتحادية، وحقيقة ما إذا كان بوتين "يحرق الجسور" التي لطالما ربطته بالعالم المعاصر، على حد تعبير كثير من المصادر الغربية. وذلك في توقيت يقف فيه كثيرون حيارى أمام ماذا يريد بوتين، وكيف يمكن أن تضع الحرب الروسية- الأوكرانية أوزارها بما قد يكفل لكل من الجانبين الحفاظ على ماء الوجه؟ وهو أمر يبدو بعيد المنال.
بداية نشير إلى أن كل هذه التساؤلات تتضافر في ما بينها وتتشابك على النحو الذي تبدو فيه شديدة التعقيد ما يجعلها عصية على التحليل وبما يحول دون الوصول إلى إجابات محددة بشأنها. وكان بوتين أعلن في أعقاب الإعلان عن اعتراف روسيا باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، أن الاعتراف ينسحب على كل الأراضي التاريخية للمقاطعتين الأوكرانيتين السابقتين، بما يعني ضمناً ضرورة الاستمرار في "العملية العسكرية الخاصة" لتحرير كامل المساحة التي لطالما استقرت عليها هاتان المقاطعتان، نظراً لأن القوات الروسية لم تستكمل مهمتها بعد، وأن ما تجري السيطرة الكاملة عليه ينحصر في 99 في المئة من أراضي لوغانسك، فيما لا تتجاوز هذه السيطرة بالنسبة لدونيتسك سوى 58 في المئة، ما يعني عملياً الالتزام القانوني والأخلاقي بتحرير بقية المساحة حتى الحدود التاريخية. أما بالنسبة لمقاطعتي زابوريجيا وخيرسون، فإن القوات الروسية لم تستطع بعد فرض سيطرتها سوى على نسبة 72 في المئة من أراضي مقاطعة زابوريجيا، و91 في المئة من أراضي مقاطعة خيرسون.
ومن هنا جاءت تفسيرات ديمتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين الذي قال فيها إن "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين ستصبحان جزءاً من روسيا داخل حدود عام 2014"، أي في إطار سابق حدودهما الإدارية التاريخية قبل اندلاع انقلاب فبراير (شباط) 2014 الذي أطاح الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، وهو تاريخ اندلاع الأزمة الأوكرانية التي تظل المقدمة العملية لكل ما تلا ويتلو ذلك من أحداث. أما عن حدود منطقتي خيرسون وزابوريجيا، فقال بيسكوف إنه سوف تجري مناقشاتها والتشاور بشأنها مع سكان هاتين المنطقتين. وذلك قد يعني عملياً احتمالات عدم توقف القوات الروسية عند الحدود التي بلغتها في هذا المناطق، واستمرارها بما يكفل السيطرة على بقية أراضي لوغانسك ودونيتسك. غير أن المتحدث باسم الكرملين لم يعلق على ما يتناثر من تساؤلات أمام مسؤولية موسكو ضم الأراضي التاريخية لروسيا مكتفياً بالقول "ليس لدي ما أضيفه الآن"، مستطرداً "الآن لا يمكنني الإجابة على السؤال. بالطبع، على أي حال سيعتمد أي ترتيب فقط على إرادة الناس الذين يعيشون في منطقة أو أخرى"، بما قد يعني ضمناً الاستمرار في القتال حتى استعادة ما بقي من أراضي هاتين المنطقتين، وما قد يتبع ذلك من إجراء استفتاء شعبي هناك، على غرار ما جرى في سبتمبر (أيلول) الماضي في المناطق الأخرى. وكان الناطق الرسمي باسم الكرملين أجاب على سؤال آخر حول "ما إذا كان سيكون هناك قدر أكبر من اليقين بشأن مسألة الحدود بحلول الوقت الذي يوقع فيه الرئيس فلاديمير بوتين قانون دخول الأراضي الجديدة إلى روسيا" بقوله "لا، أعتقد أن الصياغة ستبقى كما هي"، ما يفتح الباب أمام مختلف التأويلات.
ولعل بوتين كان أكثر وضوحاً بهذا الشأن في ما قاله حول حدود جمهوريات دونباس: "لقد اعترفنا بها، ما يعني أننا اعترفنا بجميع وثائقها الأساسية، بما في ذلك الدستور. وقد حدد الدستور الحدود داخل منطقتي دونيتسك ولوغانسك حينما كانتا جزءاً من أوكرانيا".
ومع ذلك فإن الغموض لا يزال يكتنف كثيراً من جوانب هذه المسألة، التي تظل في حاجة إلى مراجعة دقيقة لكل ما يصدر عن مجلسي الدوما والاتحاد من مراسيم وقرارات بشأن الاعتراف الرسمي بضم هذه المناطق إلى روسيا الاتحادية، وإدراجها ضمن قوام المحافظات الإدراية والنص على حدودها في الدستور الروسي بكل ما يتعلق بذلك من التزامات قانونية.
أما عما يريده بوتين وما "أحرقه من جسور"، على حد تعبيرات غربية، بإعلانه عن ضم هذه المناطق الأربع، فتقول مصادر روسية، إن الرئيس الروسي سبق وحدد مهام "العملية العسكرية الخاصة" في خطابه الذي استهل به هذه العملية في 24 فبراير (شباط) الماضي، من منظور ما سبق وتقدم به من مطالب أمنية إلى الإدارة الأميركية وحلف "الناتو" في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. وتقول المصادر الروسية الرسمية، إن هذه المطالب تظل قائمة في إطار حظر انضمام أوكرانيا إلى الناتو، والتراجع عن نشر الأسلحة الاستراتيجية على مقربة مباشرة من الحدود الروسية إلى جانب اجتثاث جذور النازيين الجدد في أوكرانيا.
وإلى حين التوصل إلى الأهداف المرجوة، تعكف السلطات الروسية على إعادة ترتيب البيت من الداخل، بعد انضمام المناطق الجديدة بما تضيفه من أعباء إدارية ومالية، في ظل أهمية إقرار المساواة والعدالة وتأمين مصالح كل مواطنيها، بمجمل ما يحملونه معهم من مكاسب اقتصادية لروسيا لطالما كانت تشكل نسبة تقترب من 25 في المئة من الدخل القومي لأوكرانيا.
على أن ذلك كله يظل رهينة ما يمكن أن تسفر عنه نتائج المواجهات العسكرية، وقدرات كل من الجانبين تجاوز عثراته ونكساته، في ظل تصاعد الطموحات نحو الحد الأقصى، وهو ما لن يتحقق إلا مع الإطاحة بالنظام القائم في كييف واستبداله بآخر يقبل بشروط موسكو، ويتخلص من الضغوط الغربية، وما كان يراود القيادات السابقة من أحلام الانضمام إلى الناتو. أما بالنسبة لكييف فإن ما تطلبه وتطالب به يظل خارج دائرة المنطق والمعقول. فلا أحد يمكن أن يصدق أن موسكو، أياً كان الجالس على عرش الكرملين، يمكن أن تقبل بتسليم روسيا شبه جزيرة القرم ومنطقة الدونباس، وهي التي جرى تعديل دستورها بنصوص تجعل هذه الأراضي جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية لا يجوز التباحث في شأنها ناهيك بالتنازل عنها، وهي التي يقول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أيضاً إن دستور أوكرانيا ينص على ضرورة استعادتها حتى وإن تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما تطرحه المناطق الجديدة التي جرى "ضمها" إلى روسيا من مطالب، فإننا نكون أمام مواقف أكثر تعقيداً. ومن هذه المطالب ما أعلن عنه روديون ميروشنيك سفير دونيتسك لدى موسكو، في تصريحاته إلى وكالة "تاس" التي قال فيها بضرورة "التحرير الكامل لأراضي المناطق الجديدة في روسيا، ونزع السلاح من أوكرانيا" على اعتبار "أن ذلك شرط أساسي لإحلال السلام في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتي خيرسون وزابوريجيا". وأضاف ميروشنيك أن "تحرير الأراضي المحتلة ونزع سلاح العدو شرط أساسي لإحلال السلام والأمن في الأراضي التي أصبحت جزءاً من روسيا. وقد أعلن الغرب حرب الإبادة، لذا ومن أجل البقاء يجب أن ننتصر"، مؤكداً في الوقت نفسه "أن الوقت قد حان لأن تركز فيه روسيا على توجيه ضربة انتقامية وتحرير أراضيها وحمايتها. والعمليات العسكرية تتكثف الآن فقط. ونحن بحاجة إلى الصمود".
وخلص المسؤول الدبلوماسي إلى القول إنه "سيكون من الضروري في المستقبل القريب القيام بعملية عسكرية واسعة النطاق من أجل توجيه ضربة كاملة لنظام كييف، فضلاً عن تركيز الجهود والتطوير العسكري الكامل لمناطق جديدة ستصبح جزءاً من روسيا". وبمناسبة "الصمود" الذي أشار إليه ميروشنيك، يتوقف مراقبون كثيرون عند ما يتناوله الإعلام الروسي بكثير من التفاصيل، من نكسات وتراجعات على جبهات القتال، سبق وأشار إليها الرئيس الشيشاني رمضان قديروف بكثير من النقد اللاذع، وهو الذي أعلن أخيراً عن إعداد ثلاثة من أبنائه في عمر دون الـ16 لإرسالهم إلى جبهة القتال.
ومن اللافت أن كل هذه التطورات تأتي في سياق جهود موسكو إلى إعادة ترتيب البيت "الأوراسي" من الداخل، من خلال مراجعة علاقاتها مع حلفائها، لا سيما بيلاروس التي ترتبط معها بمعاهدة اتحادية وقعتها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. وكان الاجتماع الأخير الذي جرى بين الرئيسين الروسي بوتين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو كشف عن توجهات جديدة أعرب فيها الجانبان عن استعداد للجنوح نحو المباحثات كسبيل إلى تسوية الأوضاع القائمة، بما في ذلك ما يتعلق منها بعلاقات روسيا وبيلاروس مع بلدان الاتحاد الأوروبي.
وثمة مؤشرات تقول، إن ما تشهده بعض البلدان الأوروبية من تغيرات نتيجة ما تمر به من أزمات لا سيما في مجال الطاقة، يمكن أن تكون مدخلاً نحو تسوية يشارك فيها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لما تتسم به سياساته ومواقفه من توجهات معارضة. كما أن الأمر لا يتعلق ببيلاروس وحسب، بل ويتجاوزها إلى ضرورة تسوية ما يتناثر من خلافات مع بلدان آسيا الوسطي وفي الصدارة منها كازاخستان، والعمل على احتواء ما قد يبدو من توجهات صوب الاستسلام أمام "هدايا" و"منح" الولايات المتحدة التي تغري ممثلي كثير من الأوساط الاجتماعية والاقتصادية بل والسياسية أيضاً في هذه البلدان. يذكر أن الدوائر الأميركية كان لها محاولات تسلل إلى الداخل "الأوراسي" من خلال إجراء التدريبات العسكرية المشتركة على غرار "المناورات الأخيرة التي أقيمت في طاجيكستان تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية.
فما يجري اليوم من أحداث لا يمكن أن يتعلق بأوكرانيا وحدها، بقدر ما يتعلق بالأهداف المرجوة التي لطالما راودت الإدارة الأميركية في شأن الإطاحة بنظام بوتين وتقسيم روسيا، إلى جانب ما يشهده المجتمع الغربي من أزمات وخطايا، حظيت بكثير من اهتمام وتركيز بوتين في خطابه الذي استهل به مراسم التوقيع على وثائق انضمام "المناطق الجديدة" إلى روسيا.
وهكذا نخلص إلى استعادة ما قاله بوتين حول استعداده للمفاوضات التي قال، إنها يمكن أن تتناول كل مفردات الأزمة والأوضاع الراهنة. ونستشهد في ذلك بما قاله أيضاً حول "أن في المفاوضات الثنائية بين الدول المتجاورة يتم تحديد قضايا ترسيم وترسيم حدود الدولة بينهما. وكانت موسكو مستعدة لذلك منذ البداية".
وأعاد بوتين إلى الأذهان أن روسيا كانت بعد اعترافها باستقلال دونيتسك ولوغانسك، عرضت على نظام زيلينسكي سحب قواته ببساطة من هذه المناطق. لكنه رفض مشيراً إلى سابق تحذيراته التي توالت منذ رفض القيادات الأوكرانية الالتزام بتنفيذ اتفاقيات مينسك الموقعة في 2015، ما أسفر عن تشدد موسكو وتصاعد إصرارها على حماية الناطقين باللغة الروسية في مناطق جنوب شرقي أوكرانيا، حتى وصل الأمر بها وبأوكرانيا والعالم إلى ما آلت إليه الأوضاع الراهنة. وعلى نحو أكثر تحديداً خلص إلى القول: "ندعو نظام كييف إلى وقف إطلاق النار فوراً، وجميع الأعمال العدائية، والحرب التي أطلقها مرة أخرى في عام 2014، والعودة إلى طاولة المفاوضات. نحن مستعدون لذلك، وهذا ما أعلناه أكثر من مرة". على أن ذلك يجب تناوله من منظور مغاير لما قد يحمل بين طياته توجهاً نحو التراجع أو الاستسلام، على ضوء ما يتناثر من تحذيرات في الداخل والخارج، تقول: "لا تختبروا صبر بوتين!".