ثمة نظرية تفيد بأن المهرجانات الكبيرة والمهمة لا تقام في مدن وعواصم كبيرة. ولنا في "كان" و"البندقية" و"لوكارنو" و"كارلوفي فاري" وغيرها أمثلة تدعم الفكرة تلك. فعلى رغم أن لكل من فرنسا وإيطاليا وسويسرا وتشيكيا عواصم ومدناً أكبر وأشهر فإن مهرجاناتها الأشهر والأهم هي تلك التي أخذت من بقع جغرافية صغيرة وأحياناً هامشية، موقعاً لها. فكرة المياه هي الأخرى ضرورية على ما يبدو لصناعة مهرجان. ضفاف المتوسط، بحيرة، نهر… المهرجانات المذكورة آنفاً تحدها المياه أو تحاصرها أو تعبرها. وهذا أيضاً شأن مهرجان البرتقالة الذهبية في أنطاليا التركية الذي احتفل قبل أيام بدورته التاسعة والخمسين بين الأول والثامن من الشهر الحالي.
فهذا المهرجان الذي يأخذ من منتجع سياحي دولي يقع في جنوب غربي تركيا ومحاط بالجبال والبحر حيزاً سينمائياً له، يستمر منذ أكثر من ستة عقود، وقد تجاوز صيته في بعض الأحيان مهرجان العاصمة إسطنبول، كما أنه سبقه زمنياً. فأنطاليا هي واحدة من أكثر المدن انفتاحاً في تركيا، تمشي في شوارعها فترى ملامح أوروبية ومظاهر تدين قليلة، رأسها في الغرب وقدمها في الشرق. أما المهرجان نفسه فعروضه مزدحمة بمشاهدين من كل الأعمار والاهتمامات. محجبات وسافرات، مراهقون وعجزة، موظفون وأولاد بيئة ثقافية، يجلسون جنباً إلى جنب داخل الصالة لينظروا في اتجاه واحد. وقد لفتني هدوء هذا الجمهور الذي يتناقض مع الفكرة السائدة عن المشاهدين في الشرق الأوسط، بوصفهم يثيرون الفوضى داخل الصالات عبر الحديث على الهواتف النقالة وغيرها، مما يزعج الحاضرين. لم أسمع همسة واحدة طوال الأسبوع الذي حضرت خلاله المهرجان، متنقلاً من صالة إلى أخرى موزعة في أرجاء المدينة.
منبر السينمائيين
تاريخياً تأتي أهمية المهرجان من كونه منبراً لعديد من السينمائيين الأتراك: يلماز غونيه ونوري بيلغي جيلان ودرويش زعيم وغيرهم. أفلام باتت اليوم من كلاسيكيات السينما التركية نالت في المهرجان جائزته الكبرى "البرتقالة الذهبية"، هذا الأمر حوله إلى أحد الداعمين الأساسيين للسينمائيين الأتراك المستقلين خصوصاً الشباب منهم. أما على المستوى الدولي فاستقطب المهرجان عبر دوراته عديداً من القامات الكبيرة: فرانسيس فورد كوبولا وعباس كيارستمي وكاترين دونوف وفاي داناواي وغيرهم.
تقتصر سياسة الإدارة على تقديم حدث ثقافي فني في وقار بعيداً من التكلف والادعاء. لا تفاخر بعروض عالمية ودولية وكونية أولى، وإلى ما هنالك من تسميات فضفاضة لا تعني شيئاً للمشاهد المهتم ما دام لم ير. فالأخير لا يهمه سوى الفيلم أكان عرض مرة أو ألفاً، طالما أنه يستحق المشاهدة وغير متوافر في السوق أو على المنصات. والمهرجان يعرف جيداً ما هو طلب هذا الجمهور ويراهن على فضوله، ملبياً رغباته بتشكيلة من آخر الأعمال التي نالت الاستحسان في المهرجانات الدولية المعروفة. أفلام ينتظرها هواة السينما على أحر من الجمر. وهناك في المقابل أفلام المسابقة الرسمية التي تنطوي على جهد بحثي أكبر. وفي كلتا الحالتين هذا مهرجان يموضع نفسه بعيداً من البهرجة والسجادة الحمراء ومظاهر الاحتفال، هدفه الأول رد الاعتبار إلى صناع الفيلم وتوفير فسحة سينمائية للمشاهد الذي لا تسنح له الفرصة لمشاهدة أعمال من كل أنحاء العالم في الصالات التجارية الموجودة داخل المدينة.
يقدم المهرجان بانوراما دولية تظهر من خلالها أحدث الاتجاهات في السينما. أفلام أولى وثانية تحمل حساسية شبابية وطموحاً ورؤيا. لفتتني ثلاثة أفلام على وجه الخصوص، والثلاثة من الواقع الاجتماعي الصرف، تطرح رؤيتها إلى المواضيع بلا إضافة أو نقصان، لتروي حكايات تمس الكرامة الإنسانية. إنه الواقع الصريح كما هو. الأفلام هي "فاليريا تتزوج" للمخرجة الإسرائيلية ميشال فينيك عن التعارف على فتيات أوكرانيات وروسيات على الإنترنت، واستقدامهن إلى إسرائيل بهدف الزواج منهن. و"خطة 75" للمخرج الياباني شي هاياكاوا الذي يحكي عن موضوع أحدث جدلاً خلال تفشي وباء كورونا: التخلص من المواطنين الأكبر سناً في المجتمعات الرأسمالية. و"الطفل السادس" للمخرج الفرنسي ليوبولد لوغران الذي يتناول في مشاهد تعصر القلب موضوع العقم الذي يدفع بسيدة إلى شراء مولود إحدى العائلات الفقيرة مقابل المال، فتجد نفسها وقد تورطت في جريمة الاتجار بالبشر.
حبكة روائية
تقوم الأفلام الثلاثة على حبكة روائية تقليدية، سهلة وذات فاعلية، من دون أي تجريب على مستوى السرد، لكنها توفر متعة مشاهدة لا مثيل لها، وذلك على رغم مأساوية الأحداث (وبطء الإيقاع في الفيلم الياباني)، وهي متعة لا تلغي الأسئلة التي تتولد عند المشاهد في نهاية الفيلم. "فاليريا تتزوج" يبدأ في جو من الخفة: رجل إسرائيلي وزوجته يستقبلان في المطار أخت الأخيرة القادمة من أوكرانيا لترتبط عبر زواج مدبر، من رجل يكبرها سناً وتعرفت إليه بالمراسلة الافتراضية، لكن بعد بداية مبشرة وأجواء إيجابية يحدث ما لم يكن في الحسبان. بعد مشهد الغداء الذي يجمع الأربعة تنقلب المعطيات رأساً على عقب، فتتعرى الشخصيات لتبدو على حقيقتها، وما كان خافياً يظهر، وكل العفن الذي يحاول كل منهم التستر عليه لمراعاة لعبة المصالح يصبح مكشوفاً. يفتح الفيلم عدة ملفات متقاربة بعضها من بعض ليبدو على أثرها فيلماً ملتزماً: سلبيات التعارف عبر الإنترنت، والتفاوض على المشاعر، وشراء الحب والاهتمام بالمال، وماذا يمكن أن يفعل الإنسان طمعاً بحياة أفضل في بلد ليس بلده.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في "خطة 75" القضية المطروحة هي في منتهى العنف والقسوة، إذ يتخيل بلداً حيث العجزة باتوا عبئاً اقتصادياً على الدولة والمجتمع والنظام القائم، ويجب بالتالي التخلص منهم لمصلحة البلاد العليا وخدمة للأجيال الناشئة، لذلك وضعت الحكومة خطة ورصدت إمكانات وسنت قانوناً يسمح بالانتحار لمن هم فوق الـ75، وذلك بعناية طبية داخل مستشفى! في بلاد تملك تقاليد اجتماعية محافظة وإيماناً كبيراً بثقافة التضحية، تشهد الخطة إقبالاً من ناس يريدون الانتقال إلى العالم الآخر. من خلال متابعة دؤوبة ليوميات سيدة تستعد لهذا الموت، نتعرف إلى هموم المجتمع الياباني الكهل، خصوصاً في مواجهته الفئات الأصغر عمراً. الفيلم مصور ببرودة كبيرة يهيمن عليه شبح الموت. تمشي الخطة من دون أي اعتراض يذكر. هل أصبح النظام القائم الذي نعيش في كنفه على هذا القدر من العنف والقدرة على إلغاء من لا يستفيد منهم؟
أخيراً، يضعنا "الطفل السادس" داخل معضلة أخلاقية يصعب الفكاك منها: هل غريزة الأمومة مبرر لشراء طفل عائلة فقيرة غير قادرة على إعانته؟ فبعد ثلاث محاولات إنجابية فاشلة، هذا ما تقرره المحامية آنا تلبية لرغبتها في أن تكون أماً وأن تسنح لها فرصة تربية طفل. زوجها (المحامي أيضاً) يعترض على الفكرة ويحاول منعها لأسباب قانونية وأخلاقية، لكنه يرضخ في النهاية أمام تهديداتها المتكررة بالانفصال عنه، لكن يتبين أن مخاوفه كانت مشروعة. ينتهي الفيلم بسؤال مفتوح ومعقد: هل إنقاذ مولود من الواقع المزري الذي ينتظره، وذلك عبر شرائه، جريمة أم خلاص له؟