في يوم 30 سبتمبر (أيلول) من عام 2015 حلقت أولى المقاتلات الروسية في الأجواء السورية مشاركة في العمليات القتالية الدائرة قبل عقد من الزمن، حينها شنت غارات على معاقل تنظيم "داعش". وأتى هذا التدخل بعد طلب دمشق وموافقة مجلس الدوما، الذي أعطى تفويضاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشن قواته عمليات حربية خارج البلاد.
"موطئ قدم الدب الروسي"
ومنذ ذلك الوقت، تمددت قوة الدب الروسي خارج البلاد الباردة ليحجز له مكاناً يطل على المياه الدافئة على البحر المتوسط عبر قواعد برية وبحرية في ريف اللاذقية، أهمها قاعدة حميميم (مركز المصالحة) وقاعدة ثانية في طرطوس غرباً، علاوة على استثمار المرافئ البحرية لمدة تجاوزت أربعة عقود قادمة.
وعلى خلاف السنوات الماضية، تركت الحرب الأوكرانية ـ الروسية المندلعة منذ شهر فبراير (شباط)، تأثيراً في مجريات الأعمال الميدانية في الساحات السورية، وتم نقل قادة وعناصر إلى جبهات المعارك ضد كييف، وسط الحديث عن تعبئة عامة أعلنها الكرملين.
وتتردد معلومات عن مواظبة الجيش الروسي على سحب قواته من ساحات الميدان السوري بشكل خفي بعيداً من الإعلان. ويرى مراقبون في الشأن الروسي حرص الروس على عدم كشف هذه التنقلات حفاظاً على سير العمليات في البادية وشمال البلاد الشرقية والغربية، مرجحة أن تكون الأعداد التي تم سحبها ضئيلة، تقتصر على قوات النخبة والخبراء في معارك الميدان على امتداد الأرض السورية، ممن امتلكوا الخبرة والكفاءة لقتال الشوارع وحرب العصابات.
وفي حين كشفت تقارير إعلامية روسية منها موقع معارض، وموقع "ديبكا" الإسرائيلي، عن انسحاب جزئي للقوات في شهر مايو (أيار) تبعه رصد عبر الأقمار الاصطناعية لسحب منظومة الدفاع الجوي (أس 300)، لم تنف أو تؤكد موسكو أياً من هذه الأنباء، لكن متابعين روساً وصفوا المشهد بـ"ترتيب أولويات، إذ لم تعد القضية السورية في رأس اهتمامات القياصرة الساعين إلى حسم الحرب في أوكرانيا".
الفراغ العسكري
في غضون ذلك ينتشر آلاف المقاتلين الروس من خبراء وقادة وعناصر في قواعد بالداخل، كان آخرها قاعدة جوية في القامشلي في الشمال الشرقي، في حين تتكبد روسيا نفقات هذا الحضور في سوريا بين ثلاثة وأربعة ملايين دولار أميركي يومياً، تعوضها موسكو بالحصول على امتيازات اقتصادية في قطاعات الطاقة والنقل والبترول.
ويقلل الباحث السياسي في الشأن السوري محمد هويدي من شأن المعلومات المتداولة عن انسحاب جزئي للقوات الروسية، وبحسب قوله فإن "بعض خصوم روسيا يصورونها على أنها منهزمة ومأزومة في حربها الجديدة لكن هذا غير صحيح، فقد استعادت أربعة أقاليم، وهي من أهم المناطق الاقتصادية في أوكرانيا".
وبحسب المعلومات المتوافرة لدى المحلل السياسي هويدي ومن مصادر روسية موثوقة "لا يوجد أي انسحاب روسي من سوريا، بل توجد إعادة تموضع وانتشار في أماكن عدة، وإن حدث انسحاب فليس بصورة كبيرة تترك فراغاً عسكرياً. أعتقد أن هذا الأمر مبالغ فيه، إضافة إلى كون روسيا في أوكرانيا تبدو منتصرة".
حين يكون الانسحاب مناورة
وليست هذه هي المرة الأولى التي تتردد أنباء عن سحب للقوات الروسية فقد سبقها إعلان موسكو سحب جزء من قواتها في مارس (آذار) 2016. ورأت مصادر متابعة وقتها أن قرار بوتين جاء إرضاء للغرب بعد التدخل الواسع في الشأن الداخلي في دمشق، لحماية ما تبقى من مساحات كانت الفصائل المسلحة المعارضة تتقدم فيها، ومن ثم أعادت السيطرة على مدن استراتيجية مثل حلب وحمص وحماة وجزء كبير من البادية، وتقدمت نحو ريف إدلب الجنوبي، ودعمت الفيلق الخامس وما يسمى "حملة النمر"، رأس الحربة في عمليات إعادة السيطرة.
وبعد سبع سنوات من التدخل الروسي عاد الحديث عن قدرة القوات الروسية ولا سيما الذراع الجوية عبر طائرات (السوخوي، والبجعة، والميغ)، إضافة إلى الحوامات المقاتلة وطائرات الشحن (إليوشن)، على تحقيق انتصارات، مع أنها لليوم لم تتوقف عن ضرب أوكار "داعش" في البادية، على رغم تراجع حمولات الشحن الجوي والبحري الوافدة إلى البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل يعزو مراقبون تدني مستوى الإمداد إلى "الانشغال بالجبهة الأوكرانية والحاجة المتزايدة إلى العتاد بالتوازي مع تنامي قدرة الجيش الأوكراني، عدا عن انحسار الأعمال العسكرية، لكن ما ينقص السوريين الغطاء الجوي لصد الاعتداءات الإسرائيلية، والتي تلجأ لها دوماً تل أبيب لضرب مواقع إيرانية وفصائل تابعة لها".
الأولوية بين أوكرانيا وسوريا
في هذه الأثناء يجزم الباحث السياسي محمد هويدي بانتصار روسي، وحتى إن حدث اختراق وفق رأيه فهو أمر طبيعي، فالحرب لم تضع أوزارها والعمليات العسكرية ما زالت مستمرة وبتصاعد. وقال "الجيش الروسي لديه أهداف، وسحب بعض القيادات يرتبط بأهمية نقل هؤلاء الذين اكتسبوا خبرة في سوريا، وأي انسحاب سيكون بعيداً جداً، وكل ما يشاع أخبار مبنية على معلومات غير دقيقة".
ويلفت النظر في الوقت ذاته إلى كون المعارك لم تنته بعد، "لكن هناك تثبيتاً لوقف إطلاق النار للدول المتدخلة في الشأن السوري، والتي نعلم جيداً تأثيرها في الملف السوري".
الاتفاق والانتقال إلى موسكو
ويجد الخبراء السوريون أن التفاهمات والاتفاقات ملزمة للجانب الروسي، فالاتفاقيات بين روسيا وسوريا طويلة الأمد، كما تنظر موسكو لسوريا على أنها منطقة مهمة وحساسة، ولا يمكن أن تترك ميدانها. ويعتقد هويدي "إن حدث انسحاب جزئي فلن يؤثر في تماسك الجيش النظامي، أو تراجعه عن استعادة مناطق أخرى، في حين العمليات العسكرية متوقفة، مع العلم أن القوة التي حررت المناطق أسهمت بها القوات النظامية بدعم روسي".
ويقدر عدد القواعد العسكرية بما يناهز 30 قاعدة ونقطة، إضافة إلى انتشار دوريات من "الشرطة العسكرية" الروسية في مختلف الأراضي السورية وحتى غير الخاضعة لسيطرة النظام، وحتى الخاضعة للنفوذ الأميركي والتركي. في وقت التقطت عدسات الكاميرا صوراً لجنود شاركوا في دوريات عسكرية أميركية وروسية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) يتصافحون في الشمال الشرقي، وتسود بينهم أجواء الألفة.
مع العلم أن أجواء من التوتر سادت بين الروس والأميركيين عقب احتكاك بري وجوي. وقال الجنرال أليكسوس غرينكويتش، قائد القوات الجوية المركزية الأميركية في الشرق الأوسط "القوات الروسية في سوريا أصبحت أكثر عدوانية، سواء في الجو أو على الأرض منذ غزو أوكرانيا".
ليس خافياً استحواذ الحرب الأوكرانية على جل تفكير روسيا حفاظاً على أمنها القومي، في حين تخفف دمشق من أهمية نقل قادة عسكريين روس وتأثيره في سير المعارك في سوريا.
جهات إعلامية روسية كشفت عن سحب موسكو لقواتها بالفعل، والتوجه إلى ثلاثة مطارات قبل الانتقال إلى الجبهة الأوكرانية، حيث يتواجد ما يفوق 63 ألف مقاتل، وذكرت صحيفة "موسكو نيوز" إخلاء القواعد الجوية ونية تسليمها إلى "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" اللبناني.
نقص في الأفراد
وحدد مسؤولون في كييف طبيعة القوات الروسية المنسحبة بأمر من الرئيس الروسي، لزيادة تعداد القوات المحاربة في أوكرانيا منذ منتصف فبراير (شباط) الماضي، وذكرت هيئة أركان الجيش الأوكراني "وسط هذا النقص في الأفراد، تقوم روسيا بنقل فوج مهم من المظليين من سوريا إلى أوكرانيا".
وأضاف البيان العسكري الأوكراني أنه بسبب إجراءات التعبئة الخفية، قررت القيادة العسكرية والسياسية لروسيا الاتحادية سحب فوج المظليين 217 للحرب المندلعة على أراضيها، وسط تكبد الروس خلال الأسابيع القليلة الماضية خسائر فادحة، لا سيما في مدينة خاركيف، وهو السبب المباشر الذي دفع للاستعانة بقوات النخبة، في حين أعلن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، تحرير قوات بلاده ثمانية آلاف كيلومتر مربع في منطقة خاركيف الشمالية الشرقية، وإعلان وزارة الخارجية الأوكرانية تحرير 300 تجمع سكاني في المنطقة ذاتها.
يأتي كل ذلك وسط تقدم متواصل للأوكرانيين الذي استعادوا مدينة ليمان بعد يوم من إعلان روسيا ضم أربعة أقاليم في الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، كذلك يرى خبراء عسكريون أن "هذا الانسحاب غير المصرح به يأتي نتيجة الانتكاسة التي تتكبدها روسيا في أوكرانيا، لا سيما أن الرئيس الروسي كان قد اعتبر أنه يمكن تحقيق نصر خلال أيام معدودة، وها هي الحرب مستمرة حتى يومنا هذا".