يكاد الاتفاق النووي الإيراني يصبح منسياً في عالم تقتسمه حرب أوكرانيا وصراعات دولية وإقليمية لا تحصى، فإيران مستفيدة من هذا المناخ العام، ومحكومة بنظام لا يقوم وينمو إلا على التوترات، وتماطل في العودة إلى الاتفاق الذي يحتاج إليه شعبها ولا يرغبه نظامها.
بينما الغرب الديمقراطي الحريص على حقوق الإنسان، الذي يأمل في المقابل بعودة طهران إلى الاتفاق، يواصل رهاناته في مسايرة ذلك النظام على الرغم من قمعه انتفاضةً واسعة ضد الديكتاتورية ونظامها القمعي.
منذ شيوع أجواء متفائلة عن احتمال قرب التوقيع على الاتفاق مطلع أغسطس (آب) الماضي، وعلى الرغم من ترحيب "الإصلاحيين" وحديثهم عن الانعكاسات الإيجابية على الاقتصاد وأسعار العملات، كانت الأوساط الأصولية تحذر من مغبة القبول بالاتفاق، وتدعو إلى رفضه من الأساس.
وعبرت صحيفة "كيهان" التابعة للمرشد عن هذا المنحى في 18 أغسطس، محذرة من مغبة القبول بالاتفاق، الذي اعتبرته "كارثة حلت بالشعب الإيراني".
ورأت الصحيفة أن "الضمان الوحيد لإيران هو أن تبادر أمام أي انتهاك من قبل واشنطن إلى اتخاذ خطوة مقابلة على وزن الخطوة الأميركية ".
وشددت على ضرورة إدخال هذه الفقرة ضمن الاتفاق المقبل، وصولاً إلى القول إن على إيران الخروج من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية في حال انسحاب أميركا من الاتفاق المفترض.
يرى كثيرون أنه لو لا معرفة النظام الإيراني المسبقة بحدود الموقف الأميركي والغربي عموماً لما كان يبدي هذه الثقة بموقفه ليواصل سياسته النووية، وليستمر في قتل مواطنيه وفي تحريك أتباعه في الإقليم وتوجيه التهديدات للسعودية والإمارات والإمساك بخناق العراق ولبنان والتلويح بما يخص هدنة اليمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقدم التعاطي الأميركي والغربي مع المفاوضات وسياسة إيران الإقليمية وأخيراً مع الانتفاضة الشعبية نموذجاً فاقعاً عن التراخي الذي يبلغ حد التواطؤ.
لقد ارتأى روبرت مالي كبير المفاوضين الأميركيين مع إيران، قبل أيام، أن يطمئن مفاوضيه أن حكومته لا تريد تغيير النظام الإيراني مع أنها تتعاطف مع حق الإيرانيين في التظاهر.
ممثل الإدارة صاحبة هذا الموقف من نظام الخميني نسي كيف سارع باراك أوباما يوماً إلى دعوة حسني مبارك للتنحي بمجرد اندلاع التظاهرات ضد نظامه، وكيف أن الرئيس الحالي جوزيف بايدن لمح إلى ضرورة إطاحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد اجتياحه أوكرانيا بفترة قصيرة.
كانت الإدارة الأميركية لتأخذ تدابير قصوى لو كان الأمر يتعلق بدولة عربية، وفي سلوكها تجاه مصر والسعودية أمثلة كثيرة لأسباب أقل قيمة، مع أن البلدين يمثلان ركيزتين للاستقرار في المنطقة والعالم.
تشاهد الولايات المتحدة استمرار تطوير إيران بسرعة، ويتحدث المسؤولون فيها عن أسابيع قبل وصولها إلى العتبة النووية، إلا أنها "لا تفعل كثيراً حيال ذلك".
ويستعيد روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لـ"معهد واشنطن" مسار السلوك الأميركي تجاه إيران، فيذكر بأن بايدن المرشح للرئاسة كتب عن "أولوية" تصحيح السياسة تجاه إيران"، هذا النهج ساد السياسة الأميركية، فأميركا ما زالت تنتظر موافقة إيرانية لم تحصل حتى الآن.
ومنذ تولي بايدن مهماته تجاوز الإيرانيون خطوط "خطة العمل" وقاموا بتخصيب اليورانيوم إلى 20 ثم إلى 60 في المئة، وقاموا بإنتاج قرابة أربعة آلاف كيلوغرام من اليورانيوم المخصب، منها 55 كيلوغراماً بنسبة 60 في المئة، وفي غضون أسابيع يمكنهم التخصيب بنسبة 90 في المئة.
إذا كانت الإدارة الأميركية تضع ضبط الموضوع النووي في طبيعة اهتماماتها، فإنها فشلت في ذلك تماماً، وكل تنازلاتها لم تسفر عن موافقة إيران التي تزداد تشدداً.
يسأل ساتلوف لماذا تتشدد إيران مع أن القيود المفروضة على برنامجها النووي تبدأ صلاحيتها بالانقضاء خلال 30 شهراً؟
في أجوبته يورد أن إيران لا تريد وقف برنامجها بعد التقدم الذي أحرزته، كما أن العقوبات المفروضة عليها لم تمنعها من تصدير نفطها، وهي ربما تنتظر عرضاً أفضل من واشنطن، وفي الأثناء تواصل تعزيز حضورها في المنطقة مستفيدة من أذرعها إلى أقصى الحدود.
كان مقربون من الرئيس إبراهيم رئيسي نشروا في منتصف أغسطس سلسلة تنازلات قدمتها الولايات المتحدة، ومنها رفع العقوبات عن 17 مصرفاً، وإعفاء الشركات الأجنبية من العقوبات في حال انسحاب أميركا من الاتفاق، ورفع العقوبات عن 150 مؤسسة بما فيها "لجنة تنفيذ أمر الإمام" وإلغاء الأوامر التنفيذية الثلاثة التي أصدرها الرئيس دونالد ترمب لدى خروجه من الاتفاق.
وحسب تسريبات رئيسي وافقت واشنطن أن تبيع إيران 50 مليون برميل نفط خلال الأيام الـ120 الأولى من بدء تنفيذ الاتفاق، وعلى الإفراج الفوري عن سبعة مليارات دولار من الأصول الإيرانية في كوريا الجنوبية.
لم توافق إيران على وثيقة الاتحاد الأوروبي ولم ترضها التنازلات الأميركية، ولا يبدو أن الاتفاق النووي الذي أراد بايدن العودة إليه وبنى عليه سياسته الإيرانية بات قريباً، وعلى العكس من ذلك، فإن تدهور الأوضاع الإيرانية الداخلية سيزيد في اعتماد النظام على أجهزته العسكرية المؤدلجة دينياً، ما يفرض إعادة نظر في الأولويات التي تنطلق منها أميركا والغرب في مقاربة المشكلة الإيرانية، فماذا ستفعل أميركا؟
يتحدث الدبلوماسي الأميركي المخضرم دنيس روس عن اجتماع في أغسطس الماضي لمجموعة "أسبن الاستراتيجية" التي تضم كبار المتخصصين في السياسة الخارجية من الحزبين الأميركيين الديمقراطي والجمهوري، وكيف أن عدداً كبيراً من المشاركين اعتبر أن على العالم "أن يتعلم ببساطة التعايش مع الأمر"، والأمر المقصود هو" القنبلة الإيرانية".
السؤال الحقيقي الآن هو ماذا ستفعل الإدارة الأميركية مع نظام لا يقوم فقط بصنع قنبلة نووية ويمارس سياسات توسعية، بل ويقمع شعبه دفاعاً عن ديكتاتورية لا ترحم.