يدور خلاف في هذه الأيام على الإجابة عن السؤال القديم: لماذا نحلم أثناء النوم؟ علماء النفس الفرويديون والكلاسيكيون يخوضون هذا السجال مع علماء الدماغ وأولئك الذين يهتمون بإفرازات الغدد الدماغية وتأثيرتها النفسية في الأشخاص.
أصحاب التحليل النفسي الكلاسيكي ما زالوا يعتبرون الحلم تمثيلاً مشهدياً لما يعتمل في اللاوعي الفردي من ذكريات صورية تختلط بالصور التي يلتقطها خلال اليوم، تضاف إليها المشاعر التي تثيرها هذه الصور في الشخص أثناء حلمه، لكنه يراها في الأحلام بشكل فوضوي وغير منطقي.
وكان فرويد يعتبر أن دفع المرضى النفسيين إلى تفسير أحلامهم يساعد في شفائهم، فهم وحدهم يعرفون سبب تكرار صور معينة من ماضيهم، ويمكنهم التخلص من أمراض جديدة تصيبهم كالقلق والخوف والاكتئاب، والتي تتمظهر على شكل أحلام.
هذه النظرية باتت قديمة بالنسبة إلى العلوم الحديثة التي يصف علماؤها نظريات أبي التحليل النفسي سيغموند فرويد بأنها قصائد أو فلسفة تقوم على افتراضات، أو نوع من فصل النفس عن مادة الجسد الملموسة، بينما نتائج علوم تشريح الدماغ هي الحقيقة الملموسة التي تستند إلى أدلة مادية. وبناءً عليه بات بالإمكان علاج ما يسمى الأمراض النفسية بالمادة الناقصة من الهرمونات التي تفرزها الغدد الدماغية، كالدوبامين والسيروتونين، وغيرهما.
تطورت علوم الدماغ والغدد الدماغية والهرمونات التي تفرزها في الحالات المختلفة من الفرح والحزن والاكتئاب والثقة والخوف وغيرها من الحالات النفسية، ثم تطورت العلوم المتفرعة عن الدماغ من علم الأعصاب إلى الأمراض النفسية الموروثة جينياً للأفراد والجماعات إلى علوم النوم وتفاصيله الكثيرة وتأثيراته على تطور الدماغ البشري عبر التاريخ.
التحليل أم التشريح؟
توصل علماء وأطباء الدماغ المعاصرون إلى أن الأحلام بدأت مع البشر منذ باتوا ينامون متمددين على الأرض بعد أن تركوا الأعشاش التي بنوها فوق الأشجار. والأحلام بحسب أبحاثهم كانت بمثابة تدريب أثناء النوم لمواجهة التهديدات الخارجية، أي إن الأحلام بدأت كتدريب على فهم العالم الخارجي وظواهره الطبيعية وكيفية الدفاع عن النفس وتأمين الغذاء، كما الطيار الحديث الذي يتدرب على الطيران في غرفة مغلقة على آلات شبيهة بالواقع قبل أن يحلق بالطائرة الحقيقية.
توصل علم الاجتماع إلى هذا الاستنتاج بعد تطور تصوير الدماغ، ومراقبة إفرازات غدده أثناء النوم، ومراقبة المناطق الدماغية التي تعمل معاً أثناء الحلم. وقد تبين من خلال مراقبة أحلام المولودين حديثاً أن مدة الحلم تكون طويلة خلال فترة النوم ثم تقصر بعد بلوغهم الثالثة من العمر، حتى تصبح مع البالغين مدة قصيرة من مجمل ساعات النوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعض المتابعين لما توصل إليه علم الدماغ عن النوم والحلم أثناءه توصلوا إلى أن الميثولوجيا البشرية القديمة القائمة على تصوير فائق الخيال للواقع الحي، إنما نبعت من الأحلام التي اعتبرت الشعوب البدائية جميعها من دون استثناء أنها رسائل ترسل أثناء النوم من قوى خارقة لتدلنا على ما يجب فعله كي لا يصيبنا الضرر، وما زال تفسير الأحلام حتى اليوم ممارسة عادية في المدن المتقدمة وفي القرى البعيدة على حد سواء، وعند الأثرياء كما الفقراء.
لكن لا يمكن نسف علم التحليل النفسي من جذوره بهذه البساطة، فهذا العلم كان له بصمة أساسية في الفكر البشري في القرن الـ20، ولهذا ما زال النقاش قائماً، فما نعرفه عن النوم والأحلام أقل مما لا نعرفه عنهما على رغم كل التقدم العلمي. ويعترف العلماء من جميع الأطياف العلمية المعنية بالأحلام بأننا حتى اليوم لم نجد إجابة نهائية ومقنعة ومثبتة علمياً عن سؤال: لماذا نحلم؟
فرويد نحو التقاعد
هناك نظرية حول الهدف من الأحلام تقول إن الحلم يعمل على بناء الذاكرة، مما يعني تطوير القدرة المعرفية عبر تراكم المعلومات، فيما تعتبر أخرى أن الحلم وسيلة يستخدمها الدماغ لإدارة العواطف والمشاعر والتعامل معها في سياقاتها وظروفها المختلفة. فالحلم وسيلة لتخفيف الضغوط الهائلة التي تصيب الشخص في حياته الاجتماعية. وتمكنه من كبت الغرائز والمشاعر غير المقبولة لدى الآخرين.
يمكن أن يكون الحلم فترة استراحة للدماغ يقوم فيها بتنظيم المعلومات والصور والمواقف التي جمعها لمحو غير المفيد منها وتثبيت المهم والمؤثر في الذاكرة. ويأخذ العالم الأميركي جاينس هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك بالقول إنه منذ ما يقرب من 30 ألف عام كان البشر يفتقرون إلى الوعي، ويتصرفون بطريقة توازي طبيعة الحلم، أو يقومون بتفسير الظواهر المحيطة بشكل غير عقلاني أقرب إلى ما يرونه في أحلامهم. فالأحلام كانت أولى الرسائل التي يتلقاها الدماغ البشري من داخله بعد تمكنه من تخزين وتجميع الصور والمشاهد ومحاولة ربطها ببعضها البعض.
هناك من يعتبر أن الحلم مجرد نشاط عرضي للدماغ وأحد نتائج النوم الثانوية وليس له هدف أو معنى محدد، وهؤلاء يجدون مؤيدين في هذا الحقل يعتبرون أنه لا فائدة من الغوص في البحث عن صور ومشاهد غير منطقية وغير مترابطة ولا يتذكر الحالم منها إلا القليل حين يستيقظ. وتؤكد هذا الزعم نظرية الحلم المسماة "هوبسون وماكارلي" (1977) التي بنيت على تصوير الدماغ بأشعة "إكس"، والتي سمحت بمعرفة المناطق الدماغية التي تعمل معاً أثناء الحلم، هذه النظرية تعتبر أن الأحلام هي نتيجة استجابة الدماغ الأمامي للنشاط العشوائي الذي يبدأ في جذع الدماغ، وإلى هذا التواصل تعزى الطبيعة العشوائية الغريبة للأحلام.
لكن الرد يأتي سريعاً بإعطاء المثال على الأحلام الكابوسية المتكررة التي تسبب الاستيقاظ الدائم وعدم الرغبة في النوم، مما يؤدي إلى انقطاع الشهية والقلق والتوتر، وفي الحالات الممتدة من قلة النوم قد تبرز مخاطر أكثر جدية. في هذه الحال المادية والملموسة يمكن القول إن للحلم الكابوسي تأثيراً على حياة اليقظة. وبرأي أصحاب هذه النظرية فإن الحالم غالباً ما يستوقفه أمر في حلمه حين يستيقظ، وربما يمضي نهاره في محاولة فهم سبب هذا الحلم من دون أن يكون كابوساً مثلاً، هذا يدل على أن الأحلام والحياة الواقعية مترابطان بشكل طبيعي، وهو أمر لا يحتاج إلى إثباته علمياً كي يكون صحيحاً.
ربما نعرف لماذا ننام
توصل بعض الباحثين إلى أن دور النوم البدائي خلال تطورنا كان توفير الطاقة الجسدية، كما دوره في السبات الشتوي للدببة وذوات الدم البارد. بعد ذلك بدأ النوم والراحة لفترة طويلة من ساعات النهار مع التغذية المناسبة من البروتين يدفعان تطور أدمغتنا نحو التعلم وتقوية الذاكرة وتهيئتنا لأنشطة ساعات اليقظة، والمساعدة في تطوير أفكار سليمة ومنطقية.
كان ذلك قبل نحو 1.9 مليون سنة حين بدأ الإنسان النوم على الأرض بدلاً من الأعشاش فوق الأشجار، وتطورت المنطقة الحزامية وهي منطقة وسطية في الدماغ تعالج وظائف مثل صنع القرار وحل النزاع والإدراك الاجتماعي، كما تطورت مهام الحكم الاجتماعي التي تبحث في نظرية العقل وتتطلب من الأشخاص مراعاة النيات والحالات العقلية للآخرين.
وتشير دراسات أحلام الأطفال إلى أن أحلامهم غالباً ما تحتوي على أفراد الأسرة والأصدقاء المقربين أكثر من أحلام الكبار (هوبسون، 1988)، وربما يرجع ذلك إلى أهمية أن يتعلم الأطفال مهارات التعامل مع الآخرين عبر صور القريبين منهم والذين يشعرونهم بالأمان.
كان لهذا الاكتشاف دوره في تطور علوم الاجتماع التي تنبهت إلى أن من يملكون مهارة التواصل مع الآخرين ويتمتعون بالدبلوماسية والقدرة على حل مشكلات التواصل أو النزاعات يمتلكون مقدرة أكبر للبقاء على قيد الحياة لأن فرصهم في الوصول إلى الموارد هي الأفضل داخل مجموعتهم الاجتماعية (فولي، 1989)، وهكذا طورنا الهدف من أحلام الطفولة.
وبناءً على هذه النظرية نفسها توصل الأطباء إلى أن عدم القدرة على الحلم أثناء النوم في فترة الطفولة المبكرة تصيب الطفل بعوائق شتى في تقدمه الاجتماعي، وعلى رأسها الإصابة بالتوحد.
يقول خبير النوم وطبيب الأعصاب بجامعة "جونز هوبكنز" مارك وو، إننا في انتظار تقدم تقني أكبر في مجال علم الأعصاب الإدراكي يساعدنا في إيجاد إجابات عن كل الأسئلة المتعلقة بالنوم والأحلام.